بداية الوصول في شرح كفاية الأصول المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: آل شیخ راضی، محمد طاهر، 1904 - م.

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول/ تالیف محمد طاهر آل الشیخ راضی (قدس سره)؛ اشرف علي طبعه و تصحیحة محمد عبدالحکیم الموسوي البکاء.

تفاصيل النشر: تهران: دارالهدی، 14 ق. = 20م. = -13.

مواصفات المظهر: ج.

شابک : دوره 964-497-056-X : ؛ ج. 4 964-497-060-8 : ؛ ج.5، چاپ دوم 964-497-061-6 : ؛ ج. 7، چاپ دوم 964-497-063-2 : ؛ ج.8، چاپ دوم 964-497-064-0 :

يادداشت : الفهرسة على أساس المجلد الرابع، 1426ق. = 2005م. = 1384.

لسان : العربية.

ملحوظة : الكتاب الحالي هو وصف "کفایة الاصول" آخوند الخراساني يكون.

ملحوظة : چاپ دوم.

ملحوظة : ج.5، 7 و 8 (چاپ دوم: 1426ق. = 2005م.= 1384).

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: موسوی بکاء، محمدعبدالحکیم

معرف المضافة: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/8/آ3ک 70212 1300ی الف

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2954810

تتمة المقصد الاول فى الاوامر

فصل في مقدمة الواجب

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم فصل في مقدمة الواجب و قبل الخوض في المقصود، ينبغي رسم أمور:

الاول: الظاهر أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة، البحث عن الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته، فتكون مسألة أصولية، لا عن نفس وجوبها- كما هو المتوهم من بعض العناوين- كي تكون فرعية، و ذلك لوضوح أن البحث كذلك لا يناسب الاصولي، و الاستطراد لا وجه له، بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون من المسائل الاصولية (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان البحث في مقدمة الواجب يمكن ان يكون اصوليا، و يمكن ان يكون فقهيا، و يمكن ان يكون غير ذلك، و اذا امكن ان يكون البحث فيها بحثا اصوليا فلا وجه للعدول عنه إلى عنوان آخر، فإن بحث عنوان فقهي- مثلا- في فن الأصول لا بد و ان يكون استطراديا، و حيث يمكن ان لا يكون استطراديا فلا وجه لتحريره بنحو يكون استطراديا.

و بيان ذلك: إن المسائل الاصولية: هي ما كان البحث فيها عن قواعد كلية تقع نتيجة البحث عنها في طريق الاستنباط، فاذا كان البحث في مقدمة الواجب عن الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته كان البحث اصوليا، لأن الملازمة الثابتة اما بالبرهان، أو بالوجدان بين كل واجب و مقدماته هي غير وجوب المقدمة، فاذا ثبتت هذه الملازمة كانت نتيجتها تقع في استنباط حكم شرعي و هو وجوب المقدمة و اذا لم تثبت هذه الملازمة كانت نتيجتها عدم وجوب المقدمة، و ينبغي ان يكون العنوان المبحوث عنه في المقام هكذا:

هو انه هل هناك ملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته ام لا؟

و لا ينبغي أن يكون العنوان كما ذكروه:

هل مقدمة الواجب واجبة ام لا؟

ص: 1

ثم الظاهر- أيضا- أن المسألة عقلية، و الكلام في استقلال العقل بالملازمة و عدمه، لا لفظية كما ربما يظهر من صاحب المعالم، حيث استدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الالفاظ، ضرورة أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته ثبوتا محل الاشكال، فلا مجال لتحرير النزاع في الاثبات و الدلالة عليها باحدى الدلالات الثلاث، كما لا يخفي (1).

______________________________

فإن تحرير البحث بهذا العنوان يناسب أن يكون بحثا فقهيا فيلزم الاستطراد من ذكره في الاصول، لأن الاصولي لا يبحث عن نفس الحكم، بل يبحث عما يقع في طريق استنباط الحكم.

فالبحث عن الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته بحث اصولي، لأنه بحث عما يقع في استنباط الحكم لا عن نفس الحكم، لوضوح ان ملازمة حكم لحكم غير نفس الحكم، و البحث عن نفس حكم مقدمة الواجب هل هي واجبة ام لا؟ بحث فقهي.

(1) لا يخفي ان استلزام وجوب شي ء لوجوب مقدمته لملازمة واقعية ذاتية بينهما ليست من الامور الواضحة لكل احد، بل هي من الامور التي تحتاج إلى اقامة برهان إما نظري أو ارتكازي وجداني، فلا يسع أحد أن يدعي: ان الملازمة بينهما من اللزوم البين بالمعنى الاخص، إذ لو كان اللزوم الذاتي الواقعي بينهما بالغا إلى درجة البين بالمعنى الاخص لما وقع محل نقض و ابرام بين الاعلام، فاثبته بعض، و انكره آخرون، و من البعيد جدا- أيضا- أن يدعى احد: ان الملازمة بين وجوب شي ء و وجوب مقدمته ليست واقعية ذاتية، بل هي من الملازمات العرفية كاستلزام حاتم للكرم، فانه لم يدعها احد، و لا ينبغي ان تدعى، إذ لو لم يكن ربط واقعي بين وجوب شي ء و وجوب مقدمته فهما اجنبيان فأي شي ء من المصادفات و الاتفاقيات يوجب الملازمة بينهما كاستلزام حاتم للكرم.

ص: 2

.....

______________________________

فاتضح: ان المسألة عقلية فهي من المسائل الاصولية العقلية لا ربط لها بمباحث الاصول اللفظية، و الذي يظهر من (صاحب المعالم) انها من المسائل الاصولية اللفظية لامرين:

الأمر الأول: ذكر (صاحب المعالم) لها في مباحث الالفاظ لا في مباحث الاصول العقلية. و يمكن الاعتذار عن (صاحب المعالم) بالنسبة إلى هذا الامر: بان السبب في ذكره لها في مباحث الالفاظ هو بعينه السبب الذي دعا لذكر مسألة اجتماع الامر و النهي في مباحث الالفاظ، فإن مسألة اجتماع الامر و النهي هي امكان ان يجتمع الطلب لشي ء و الزجر عنه بعنوانين ام لا؟ و لا اختصاص له بان يكون الحكم الطلبي أو الحكم الردعي مستفادا من لفظ الامر، أو لفظ النهي، أو الاجماع، أو غير ذلك.

و لكن حيث كان الطلب و المنع اكثر ما يستفادان من لفظ الامر و لفظ النهي لذلك ذكرت مسألة الاجتماع في مباحث الالفاظ، و في المقام كذلك فإن الوجوب اكثر ما يستفاد من الاوامر اللفظية.

الثاني: استدلال (صاحب المعالم)(1) على نفي وجوب مقدمة الواجب: بان الامر الدال على وجوب ذي المقدمة لا يدل على وجوب مقدمته لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما.

و ظاهر هذا الكلام منه (قدس سره) ان المسألة لفظية، و ان الكلام في ان اللفظ الدال على وجوب شي ء هل يدل على وجوب مقدمته ام لا؟

و قد عرفت ان المسألة و ان الدعوى هي وجود ملازمة واقعية ذاتية بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته.

و قد عرفت- أيضا- بعد دعوى كون هذه الملازمة من البين بالمعنى الاخص حتى يصح ان يقال: انه إنما استدل على نفيها (صاحب المعالم) باحدى الدلالات الثلاث،

ص: 3


1- معالم الدين، تحقيق البقال: ص 244.

.....

______________________________

فانه إذا كان اللزوم بينا بالمعنى الاخص لا بد من ان يكون اللفظ الدال على وجوب شي ء يدل على وجوب مقدمته، لفرض كون اللزوم بينهما من البين بالمعنى الاخص.

و قد عرفت ان المدعى للملازمة لا يدعي بلوغها لهذا الحد.

و قد عرفت- أيضا- انه من البعيد جدا دعوى الملازمة العرفية دون الواقعية الذاتية، فلا يضر مدعي الملازمة تسليم عدم دلالة اللفظ الدال على وجوب ذي المقدمة على وجوب المقدمة، لأن الملازمة بينهما ليست عرفية و لا لزوم بينهما بالمعنى الاخص، بل لزومها من البين مطلقا أو بالمعنى الاعم، و هذا يكفي في استلزام وجوب الشي ء لوجوب مقدمته، و هو غير مدلول عليه باللفظ، بل الدال عليه البرهان أو الوجدان بعد التأمل و الالتفات.

فاتضح: أن النزاع في الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته نزاع في مرحلة الثبوت و الواقع، و ان العقل و البرهان أو الوجدان هل يثبت هذه الملازمة، أو انه لا ملازمة في مرحلة الواقع بينهما فلا يثبتها برهان أو وجدان، و اذا كان النزاع في مرحلة الثبوت و الواقع فان من اعترف بمرحلة الثبوت يقول بوجوب مقدمة الواجب و ان لم يدل دليل لفظي على وجوب المقدمة، و من نفى الملازمة في مرحلة الثبوت و الواقع فلا يعقل ان يدل دليل وجوب شي ء على وجوب مقدمته لوضوح عدم مجال للمطابقة و التضمن، و انما يحتمل الالتزام، و حيث لا لزوم واقعي فلا يعقل الدلالة الالتزامية في مثل المقام لبعد دعوى الملازمة العرفية.

فاتضح من جميع ما ذكرناه: انه لا مجال لتحرير النزاع في مقام الاثبات و الدلالة كما يظهر من (صاحب المعالم) لانه:

اولا: ان مقام الاثبات فرع مقام الثبوت، فاذا كان الكلام في اصل الملازمة في مقام الثبوت فلا تصل النوبة إلى مقام الاثبات و الدلالة، لانها انما تكون بعد فرض انه هناك ملازمة واقعا يتأتى الكلام في ان: هل لهذه الملازمة الثابتة واقعا دليل في مقام الاثبات؟

ص: 4

اقسام المقدمة

اشارة

الامر الثاني: إنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات:

المقدمة الداخلية و الخارجية
اشارة

منها: تقسيمها إلى الداخلية و هي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها، و الخارجية: و هي الامور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد يوجد بدونه (1).

و ربما يشكل في كون الاجزاء مقدمة له و سابقة عليه، بأن المركب ليس إلا نفس الاجزاء بأسرها (2).

______________________________

و ثانيا: ان النزاع في مقام الثبوت- هنا- لا تصل معه النوبة إلى مقام الاثبات اصلا، لأنه على فرض تحقيق الملازمة واقعا عند العقل أو الوجدان، فلا داعي لأن يدل عليها دليل لفظي أو لبيّ، و مع فرض عدم تحقق الملازمة واقعا عند العقل و الوجدان فلا يعقل ان يدل عليها دليل، إلّا ان يدعى ان الملازمة هنا عرفية لا عقلية أو وجدانية، و هو بعيد جدا.

و قد أشار المصنف على الظاهر إلى ما ذكرناه اولا بقوله: «ضرورة انه إذا كان نفس الملازمة الخ».

(1) قد قسموا المقدمة إلى داخليّة و خارجية، و لا بد اولا من بيان الفرق بينهما.

و حاصله: ان المقدمة الخارجية هي الامور التي يتوقف عليها وجود ذي المقدمة، و كانت خارجة بوجودها و ماهيتها عن ماهية ذي المقدمة، و وجودها كالشرط و المقتضي و المعد، و سيأتي الكلام فيها.

و المقدمة الداخلية هي التي يتوقف عليها ذو المقدمة، و كانت ليست بخارجة عما يتقوم به المركب الذي هو ذو المقدمة، بل داخلة في قوام ماهيته فينحصر مصداقها في الأجزاء التي يتألف المركب منها و لذا قال (قدس سره): «و هي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها».

(2) حاصل الاشكال: ان لزوم المغايرة بين المقدمة و ذيها مما لا ريب فيه، و ان من الواضح انه لا يعقل ان يكون الشي ء مقدمة لنفسه.

ص: 5

و الحل: إن المقدمة هي نفس الاجزاء بالاسر، و ذو المقدمة هو الاجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما، و بذلك ظهر أنه لا بد

______________________________

و قد عرفت ان المقدمة الداخلية منحصرة فيما يتقوم منها ماهية ذي المقدمة و اجزائه التي يتالف منها، و لا إشكال- أيضا- ان الوجوب النفسي الذي هو وجوب ذي المقدمة معروضة نفس ذي المقدمة، و ذو المقدمة ليس هو الّا الماهية التي يتالف منها ذو المقدمة، و أجزاء الماهية التي يتالف منها ماهية ذي المقدمة هي نفس ذي المقدمة، إذ ليست الماهية المركبة الّا نفس الأجزاء التي تتركب منها الماهية، فاذا كانت الماهية المركبة التي هي الواجبة بالوجوب النفسي و هي نفس الأجزاء التي تتألف- فالأجزاء التي تتألف منها هي الواجبة بالوجوب النفسي. فكيف ان يعقل ان تكون نفس هذه الأجزاء مقدمة، و لها وجوب غير الوجوب النفسي و هو الوجوب الغيري؟

ثم لا يخفى ان وجوب المقدمة و ان كان مترشحا من وجوب ذيها و متاخرا عنه، إلّا ان نفس ذات المقدمة لها السبق على ذيها، لأن وجود ذي المقدمة يتوقف عليها، فلا بد من سبقها عليه، و اذا كانت الأجزاء هي نفس ذي المقدمة فلا يعقل ان يكون لها السبق عليه، لعدم معقولية سبق الشي ء على نفسه.

و قد عرفت انه لا بد من سبق المقدمة على ذي المقدمة، و قد أشار إلى ما ذكرناه بقوله: «ربما يشكل في كون الأجزاء مقدمة له»: أي مقدمة للواجب «و سابقة عليه بان المركب ليس إلّا نفس الأجزاء باسرها» فلا يعقل ان تكون نفس الأجزاء باسرها مقدمة، لأنها نفس المركب الذي هو ذو المقدمة، و لا يعقل ان يكون الشي ء مقدمة لنفسه، و لا يعقل- أيضا- سبق الأجزاء باسرها على المركب، التي هي نفس المركب لعدم معقولية سبق الشي ء على نفسه.

ص: 6

في اعتبار الجزئية أخذ الشي ء بلا شرط، كما لا بد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان في المقام أمرين:

الأول: انه هل يعقل الاثنينية بين المركب و اجزائه؟ و اذا تعقلنا الاثنينية صح ان يكون هناك مقدمة و ذو المقدمة.

و الثاني: ان هذه الاثنينية هل تصح ان تكون موجبة لترشيح وجوب غيري من الوجوب النفسي ام لا تصح و ان تعقلنا الاثنينية.

و الكلام في الثاني يأتي عند قول المصنف: ثم لا يخفى انه ينبغي خروج الأجزاء عن محل النزاع.

و على كل فالكلام- الآن- في تعقل الاثنينية و ان هنا مقدمة و ذا المقدمة.

و توضيحه: ان المركب من أجزاء الذي هو الكل: هو عبارة عن أجزاء تقيدت بالتآلف و الاجتماع، فهناك شيئان: ذوات الأجزاء، و قيد تآلفها و اجتماعها، فالأجزاء المجتمعة- بما هي مجتمعة- التي هي الكل عبارة عن مجموع الأجزاء و حيثية الاجتماع، فالأجزاء في حال اجتماعها عبارة عن ذوات هذه الكتلة المجتمعة و حيثية اجتماعها، فالكل هو الأجزاء المجتمعة بقيد اجتماعها، و نفس الأجزاء المجتمعة من دون اخذ قيد الاجتماع هي أجزاء الكل.

و اتضح مما ذكرنا: ان الفرق بين الأجزاء و الكل هو لحاظ اللابشرطية و البشرطشي ء، فإن نفس الأجزاء المجتمعة إذا لوحظت من دون اخذ حيثية الاجتماع فيها، بنحو عدم لحاظ قيد الاجتماع فيها: أي عدم تقيدها بالاجتماع كانت هي الأجزاء، و هذا معنى لحاظها لا بشرط، اذا ليس اللابشرطية الا لحاظ الشي ء من دون تقيده بشي ء، و ليس اللابشرطية في الأجزاء لحاظها مقيدة بعدم الاجتماع، فانه من لحاظ بشرط لا، لانه لحاظ الأجزاء مع قيد عدم الاجتماع فتكون مقيدة بهذا العدم، و ليس معنى البشرطلا الّا تقيد الملحوظ بعدم شي ء، و هذا بخلاف لحاظها بنحو عدم

ص: 7

.....

______________________________

التقيّد بهذا العدم بلحاظها بنحو عدم لحاظ شي ء معها لا مقيدة بعدم هذا الشي ء، فانه من اللحاظ اللابشرطي، اذ اللابشرطية هو كون الملحوظ غير مقيد بوجود شي ء آخر و لا بعدمه، فلحاظ الأجزاء المجتمعة من دون تقيدها بحيثية تحقق الاجتماع و لا بحيثية عدم تحقق الاجتماع هو لحاظها لا بشرط، و لحاظها مقيدة بحيثية الاجتماع هو لحاظها بشرط شي ء و هو معنى كونها كلّا و مركبا، و لحاظها بشرط عدم حيثية الاجتماع لحاظها بشرط لا: أي بشرط كونها ليست كلا و من الواضح ان حيثية الاجتماع لا يعقل ان تعرض على المقيد بشرط عدم الاجتماع، بل لا بد ان تعرض على غير المقيد بالاجتماع، لأن عروضها على المقيد بالاجتماع لازمه عروض الشي ء على نفسه، و عروضها على المقيد بعدم الاجتماع لازمه عروض الشي ء على نقيضه، فهي انما تعرض على غير المقيد بالاجتماع و لا بعدم الاجتماع، و هذا لازم في كل عارض و معروض، فإن العارض لا بد و أن يعرض على غير المقيد به و لا بعدمه.

و قد عرفت: ان معنى اللابشرطية هو كون الملحوظ غير مقيد بوجود شي ء آخر و لا بعدمه، فالأجزاء بالأسر الملحوظة من دون حيثية الاجتماع هو مناط كونها أجزاء، و الأجزاء بالاسر بقيد الاجتماع هو مناط كونها كلا.

فاتضح بما ذكرنا معنى الاثنينية في المقام، و ان المركب ينحل إلى ذات المقيد و المقيد بما هو مقيد، فهنا اثنان: ذات المقيد، و المقيد بما هو مقيد.

و قد اتضح- أيضا- ان هذه الأجزاء الملحوظة لا بشرط هي التي تعرضها الكلية و حيثية الاجتماع، فلا بد ان يكون لها سبق على الكل، لوضوح لزوم سبق كل معروض على عارضه.

و اتضح- أيضا- ان المقدمة هي الأجزاء المجتمعة من دون أخذ قيد اجتماعها، لأن لحاظ الأجزاء بالانفراد و الاستقلال لا يكون لحاظا لها بما هي أجزاء للكل، و من الواضح ان الجزئية و الكلية متضائفان فلا بد و ان يلحظ الجزء بما هو مضاف إلى الكل، و في حال لحاظها جزءا لا بد من لحاظ كليتها، و اذا لحظت بالانفراد

ص: 8

و كون الاجزاء الخارجية- كالهيولى و الصورة- هي الماهية المأخوذة بشرط لا لا ينافي ذلك، فإنه إنما يكون في مقام الفرق بين نفس الاجزاء الخارجية و التحليلية- من الجنس و الفصل- و أن الماهية إذا أخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة، و إذا أخذت لا بشرط تكون جنسا أو فصلا (1)،

______________________________

و الاستقلال لا تكون مضافة إلى الكل، فلا يكون لحاظها منفردة و بالاستقلال لحاظا للجزء بما هو جزء، و انما يكون لحاظها بما هي جزء: بان تلحظ الأجزاء المجتمعة بذاتها مضافة إلى حيثية اجتماعها التي بها تتم حيثية الكلية.

و قد أشار المصنف إلى الاثنينية بقوله: «و الحل ان المقدمة هي نفس الأجزاء بالاسر، و ذا المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع فيحصل المغايرة» و الاثنينية.

و قد أشار إلى ان الفرق بين الجزئية في الأجزاء بالاسر و كليتها هو اللحاظ اللابشرطي و البشرطشي ء بقوله: «و بذلك ظهر انه لا بد في اعتبار الجزئية اخذ الشي ء بلا شرط» و الى الشرط بقوله: «كما لا بد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع»، و لعله أشار إلى ما ذكرنا اخيرا من تضايف الجزئية و الكلية بتعبيره باعتبار الجزئية و اعتبار الكلية.

(1) قد عرفت ان جواب المصنف في الفرق بين الأجزاء و الكل هو اللابشرطية و البشرطشي ء، و هو غير جواب تقريرات الشيخ، فإن الظاهر منه انه قد أجاب عن الإشكال: بان الفرق بين الأجزاء و الكل هو ان لهذه الأجزاء المجتمعة لحاظين: لحاظ بشرط لا و هو مناط جزئيتها، و لحاظها لا بشرط و هو مناط كليتها، فالفرق بين الأجزاء و الكل هو البشرطلائية الذي هو مناط الجزئية، و اللابشرطية و هو مناط الكلية، لأن مناط الكلية هو الاجتماع و الاتحاد في هذه الأجزاء و لا بد في الاتحاد من لحاظ اللابشرطية، بخلاف الجزئية فإنها مناط الانفراد و لا بد من لحاظ البشرط اللائية فإنها مناط الانفراد، و قد قرب ما ادعاه: من ان الفرق هو البشرطلائية و اللابشرطية بالتنظير بالهيولى و الصورة التي هي الأجزاء الخارجية: بأن

ص: 9

.....

______________________________

الأجزاء الخارجية إذا لوحظت بنحو الانفراد و البشرطلائية فلا يصح حمل بعضها على بعض و لا حملها على الكل، فلا يقال- مثلا- البدن نفس، و لا النفس بدن، و لا البدن انسان.

و اذا لوحظت هذه الأجزاء بنحو اللابشرطية كان لها اتحاد و وحدة و كانت انسانا- مثلا- و صح حمل بعضها على بعض، فيقال: الحيوان ناطق و بالعكس، و صح حملها على الكل، فيقال: الحيوان انسان، و الناطق انسان و بالعكس فيهما، فاثبتها و مقدميتها بلحاظها بشرط لا و منفردة و كونها كلا و ذا المقدمة بلحاظها لا بشرط و انها متحدة، هذا هو المتحصل مما ذكر في التقريرات.

و قد عرفت بما ذكرنا: ان الفرق بينهما هو اللابشرطية و البشرطشي ء، و ما ذكر في التقريرات غير تام لما عرفت ان الكل ليس هو إلّا الأجزاء بقيد الانضمام و الاجتماع، فهناك مقيد و قيد و القيود لا تلحق الّا اللابشرط، فإن غير المقيد بوجود شي ء و لا بعدمه يعقل ان يتقيد بوجوده، فالأجزاء غير المقيدة بحيثية الاجتماع و لا بعدمها يعقل ان تتقيد بحيثية الاجتماع فتكون كلا، اما المقيدة بشرط لا: أي بعدم كونها كلا و مجتمعة و تكون ملحوظة بالانفراد و عدم كونها متحدة و مجتمعة، فلا يعقل ان تلحقها حيثية الاجتماع فإنها بما هي مقيدة بعدم الاتحاد و الاجتماع لا يعقل ان تكون متحدة و مجتمعة.

و اما ما ذكره من التنظير بالهيولى و الصورة و لحاظهما بشرط لا فالذي يظهر مما ذكره اهل فنه انهم في مقام بيان الفرق بين الأجزاء الخارجية: أي الهيولى و الصورة، و الأجزاء التحليلية: أي الجنس و الفصل.

و توضيح ذلك- على نحو لا يكون منافيا لما ذكرنا-: انهم ذكروا هذا الفرق في الماهية التي لها وجود واحد في الخارج فهي متحدة في الوجود اتحادا حقيقيا مع كونها مركبة، فاذا لوحظت اجزاؤها بحيث انها متحدة في الوجود و لها وجود واحد لا بد و ان تلحظ تلك الأجزاء بنحو اللابشرط، إذ اللابشرطية هي التي لا تأبى عن

ص: 10

.....

______________________________

أي شرط فهي- مع انها موجودة بوجود واحد- أجزاء، فلا بد و ان تلحظ غير آبية عن هذا الاتحاد و الموجودية بوجود واحد، و لهذا يسمون هذه الأجزاء الملحوظة من هذه الجهة بالأجزاء التحليلية لفرض كونها موجودة بوجود واحد، فالعقل مع كونه يراها موجودة بوجود واحد يحللها إلى جزءين و يعبّرون عنهما بالجنس و الفصل، و يقولون ان الجنس هو اللامتعيّن في مقام وجوده المتعيّن بوجود الفصل و يسمونها بالأجزاء التحليلية لفرض كونها أجزاء لما هو موجود بوجود واحد بلحاظ هذه الوحدة في الوجود، فلا بد و أن تكون تحليلا لهذا الواحد وجودا، و اذا لوحظت هذه الأجزاء بما انها لكل منها وجود إذ المفروض كونها لها تركيب في الخارج- فلكل من هذه الأجزاء المركبة في الخارج وجود يختصّ به، و لذا يقال: الهيولى موجودة في الخارج و الصورة موجودة في الخارج، فلحاظها بما ان لكل منها وجودا يخصّه و إن كان لمجموعها وجود واحد الّا أنه لكل واحد من الأجزاء حيثية وجود غير حيثية وجود الجزء الآخر فاذا لوحظت هذه الحيثيات بما أنها مختصّة بكل واحد و أن لكل واحد حيثية من هذا الوجود غير الحيثية الأخرى- كان ذلك سببا لأن تكون ملحوظة بشرط لا، لفرض لحاظ كل منها بحيثيته المختصّة به، و لا إشكال ان حيثيته المختصّة به غير الحيثية الأخرى المختصّة بالآخر فقد لوحظت منفردة و ان لكل منها تحققا غير تحقق الآخر، فهي بهذا اللحاظ بشرط لا و هي بهذا اللحاظ غير متحدة و كل منها غير الجزء الآخر، لأن له حيثية وجود غير حيثية وجود الآخر و غير حيثية وجود الكل، و لذا لا يصح حملها بعضا على بعض و لا بعضها على الكل، فلا يقال:

البدن نفس، و لا النفس بدن، و لا البدن انسان و انما يصح حملها مجتمعة على الكل فيصح ان يقال: الانسان نفس و بدن، فالبشرطلائية في الهيولى و الصورة انما هي في قبال اللابشرطية في الأجزاء التحليلية التي هي الجنس و الفصل المنظور لحيثية اتحادها، و لذا يصح حمل بعضها على بعض و على الكل فيصح ان تقول: الناطق حيوان، و الناطق انسان و بالعكس فيهما.

ص: 11

لا بالاضافة إلى المركب (1)

______________________________

فاذا عرفت ما ذكرنا- تعرف أن البشرطلائية التي ذكروها في الماهية الموجودة بوجود واحد غير البشرطلائية التي ذكرها في التقريرات في المقام، فإن الأجزاء في المقام لكل منها وجود مستقل- تماما- خارجا و حقيقة عن وجود الآخر و انما لها وحدة اعتبارية فلا يعقل لحاظها بشرط لا لأجل لحاظ ما لها من حيثية الوجود الواحد، لأن المفروض بل واقع الحال ان لكل منها وجودا منفصلا تمام الانفصال عن وجود الجزء الآخر و عن الكل و أنهم في غنى عن لحاظها بشرط لا، لذلك فلحاظها بشرط لا لا بد و ان يكون بنحو قياسها إلى الكل، و اذا لحظت بشرط لا عن الكل لا يعقل ان تكون مع هذا اللحاظ أجزاء و ذات مقيد تلحقه حيثية الاجتماع، فإن المقيد بعدم الكلية و الاجتماع لا يعقل ان يلحقه الاجتماع كما عرفت، فلا بد في هذه المركبات ان تلحظ بنحو اللابشرطية حتى يصح ان يلحقها شرط الاجتماع فتكون كلا.

و قد اتضح- أيضا- ان لحاظ الأجزاء بشرط لا كما ذكر في الهيولى و الصورة بلحاظ ان لكل منها حيثية من الوجود غير حيثية وجود الجزء الآخر و غير حيثية وجود الكل، و انها بهذا اللحاظ لا يصح حمل بعضها على بعض و لا على الكل و ان هذه البشرطلائية لا تنافي في لحاظها لا بشرط من ناحية أنها أجزاء تلحظ بنحو اللابشرط من ناحية التألف، و الانضمام، و التركيب، و الاجتماع و انها ذات المقيد، و التاليف و الاجتماع قيدها و المجموع منها يكون كلا.

(1) لا يخفى ان لحاظ الأجزاء بنحو البشرط اللائية كالهيولى و الصورة و لحاظ الأجزاء لا بشرط كالجنس و الفصل لا يختص باضافة الأجزاء بعضها إلى بعض، بل يعم لحاظ المركب أيضا، فإن لحاظها بنحو البشرطلائية كما يقع بالنسبة إلى لحاظ الأجزاء بنحو اللابشرط كذلك يقع في قبال لحاظ المركب، فالهيولى كما أنها في قبال الجنس و الفصل: أي الحيوان و الناطق كذلك هي في قبال الانسان أيضا، بل الهيولى و الصورة في لحاظهما بشرط لا يقع حتى بالنسبة إلى بعضهما إلى بعض، فإن حيثية

ص: 12

فافهم (1).

______________________________

الهيولى غير حيثية الصورة كما انها غير حيثية الجنس و الفصل و غير حيثية الانسان، و كذلك الجنس و الفصل فإنهما حيث لحظا بنحو اللابشرطية فهما باضافة بعضهما إلى بعض و بالاضافة إلى المركب أيضا، و لذا يجوز حملهما بعضا على بعض و على الكل أيضا و لحاظهما كذلك في قبال لحاظهما بشرط لا و لا يختص لحاظ البشرطلائية و اللابشرطية بالنسبة إلى لحاظ الأجزاء بعضها إلى بعض، و يمكن أن يكون مراده من قوله (قدس سره): لا بالاضافة الى المركب- ان لحاظ هذه اللابشرطية ليس هو لحاظ اللابشرطية التي ذكرها و هو لحاظ الأجزاء لا بشرط من حيث قيد التالف و الاجتماع فإن تلك اللابشرطية تختص بلحاظ الأجزاء في قبال الكل، فإنها لحاظ بالنسبة إلى وصف الجزئية و الكلية و هما متضائفان، فلا بد في مقام لحاظ احدهما من لحاظ الآخر.

(1) يمكن ان يكون إشارة إلى إمكان تصحيح ما في التقريرات بان نقول: ان لحاظ اللابشرطية و البشرطلائية في أجزاء المركبات الحقيقية كما ذكره المصنف في أمور المشتق إنما هو لأجل تصحيح الحمل و لعدم تصحيح الحمل، فإن الجزء الملحوظ لا بشرط كالجنس و الفصل يصح حمله، و الملحوظ بشرط لا كالهيولى و الصورة لا يصح الحمل فيه.

و ما ذكره المصنف و ان كان غير ما ذكره غيره: من ان لحاظ اللابشرطية و البشرطلائية في أجزاء المركبات الحقيقية التي هي الموجودة بوجود واحد إنما هو لأن لأجزاء هذه المركبات جهتين واقعيتين: جهة كونها موجودة بوجود واحد فهي متحدة في الوجود و لحاظها من هذه الجهة لحاظ اللابشرط فلذلك يصح حملها، وجهة ان لكل من هذه الأجزاء حيثية من الوجود تخصه غير حيثية الجزء الآخر و غير حيثية الكل و بهذه الجهة يكون لحاظ البشرطلائية.

ص: 13

.....

______________________________

و الفرق بين المصنف و ما ذكره الغير لا يهم فيما نحن بصدده فنقول: انه من الواضح ان هذه اللابشرطية و البشرطلائية لا محل لها في أجزاء المركبات التي لكل واحد من أجزائها وجود واقعي حقيقي مستقل تمام الاستقلال عن وجود الأجزاء الأخر و الوحدة فيها اعتبارية لا غير، فانه إذا كان للأجزاء وجودات استقلالية واقعية فلا يعقل لحاظها لا بشرط لتصحيح الحمل، لوضوح ان ما كان له وجود مستقل لو لحظ لا بشرط لا يصح حمله على الأجزاء و لا على الكل لأن مناط صحة الحمل في هذا الحمل الذي هو الحمل الشائع الاتحاد إما اتحادا في الوجود: بان يكون لهما وجود واحد حقيقي كالجنس و الفصل، و إما لاتحادهما اتحاد الكلي و فرده كحمل الانسان على زيد و بالعكس، أو لتصادقهما على وجود واحد كحمل الضاحك على المتعجب أو على الناطق فما لم يكن هناك اتحاد حقيقي بنحو من الأنحاء لا يصح الحمل و اما صرف اللحاظ اللابشرطي لا يكون مصححا للحمل مع ان لكل منهما وجودا منفردا مستقلا عن الآخر لا يتحد مع الآخر بنحو من أنحاء الاتحاد، و حيث انها ليست موجودة بوجود واحد فلا يصح لحاظها لا بشرط لما لها من حيثية الوجود الواحد المختصة بها- كما ذكره غير المصنف (قدس سره)- و أيضا لا يكون لحاظها بشرط لا لأجل عدم تصحيح الحمل، لوضوح انه بعد ان كان لكلّ منها وجود مستقل فهي بنفسها لا يصح حملها فلا داعي إلى لحاظها بشرط لا، لعدم صحة الحمل كما في المركبات الحقيقية كالهيولى و الصورة.

و من الواضح- أيضا- انها حيث كان لكل منها وجود مستقل انفرادي فلا يعقل لحاظها بنحو البشرطلائية لأجل حيثية تخصّها من الوجود الواحد إذ ليس لها وجود واحد، بل لكل واحد منها وجود على حدة مستقل و منفرد عن الآخر تماما، فإن للركوع- مثلا- وجودا يخصّه غير وجود القراءة. إلّا انها يمكن ان تلحظ بشرط لا و لا بشرط لا من حيث الجهتين المتقدمتين.

ص: 14

خروج الأجزاء عن محل النزاع

ثم لا يخفى أنه ينبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع- كما صرح به بعض- و ذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتا، و إنما كانت المغايرة بينهما اعتبارا، فتكون واجبة بعين وجوبه، و مبعوثا إليها بنفس الأمر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر،

______________________________

و تقريبه انه حيث كان الكلام في مقدميّة الأجزاء للكل لأجل إمكان ان تكون واجبة بوجوب مقدّمي فلذات الجزء الذي له وجود مستقل لحاظ لا يرتبط بكونه جزءا: بان تلحظ ذاته من حيث هي، لا من حيث كونه جزءا، و لحاظ: بان يلحظ كل جزء منفردا عن الكل بما انه بعض هذا الكل و هذا لحاظ صحيح لذات كل جزء منفردا، فإن كل جزء بنفسه إذا لحظ بالنسبة إلى تألف الكل منه هو بعضه و جزء من الكل، ففي هذا اللحاظ حيثية التضايف بين الكل و الجزء محفوظة و لا يلزم في لحاظ الجزئية ملاحظة مجموع الأجزاء، كما ذكرنا سابقا.

و لا يخفى ان لحاظ الجزء بهذا اللحاظ: أي بما هو بعض الكل هو من اللحاظ البشرطلائي، لانه ملحوظ بما هو غير الكل: بنحو انه بعضه و لحاظ بما هو بعض مضايف للحاظ الكل و هو في قبال الكل و بشرط لا من ناحية الكلية، لوضوح كون البعضيّة في قبال الكلية- فصحّ ان يلحظ الجزء بما هو جزء بنحو اللحاظ البشرطلائي، و يمكن ان يلحظ لا بشرط من ناحية كونه في قبال الكل و انه بعض منه، بل بان يلحظ مع غيره من الأجزاء مجتمعة، و حيث ان الكل هو الأجزاء المجتمعة فلحاظها لحاظ الكل فصحّ أن يكون لحاظ الأجزاء لا بشرط: أي لحاظها مع غيرها- لحاظا لكليّه.

إلّا انه بعد تصحيح ما في التقريرات- بما ذكرنا: من البشرطلائية و اللابشرطية- يمكن ان يرد عليه: ان لحاظ الأجزاء مجتمعة لا بشرط ليس لحاظ الكليّة، بل لحاظ الكلية لحاظ الأجزاء المجتمعة بشرط الاجتماع، فيكون الفرق بين الجزئية و الكلية هو لحاظ البشرطلائية و البشرطشي ء لا اللابشرطية.

ص: 15

لامتناع اجتماع المثلين (1)، و لو قيل بكفاية تعدّد الجهة، و جواز اجتماع الأمر و النهي معه، لعدم تعدّدها هاهنا، لأن الواجب بالوجوب الغيري

______________________________

(1) هذه هي الجهة الثانية التي أشرنا اليها في صدر المسألة: و هي انه بعد تصحيح أن للأجزاء مقدميّة على الكل، و انه- هنا- اثنان: مقدمة و ذو المقدمة إلّا ان هذه المقدميّة لا ينبغي ان يشملها محل النزاع في مسألة وجوب مقدمة الواجب، و ان بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها ملازمة واقعية ام لا؟

و توضيح ذلك: ان المفروض هو كون هذا التركيب اعتباريا لا حقيقيا، و لازم كون التركيب اعتباريا انه ليس الموجود في الخارج إلّا نفس الأجزاء، و انه ليس في الخارج هيئة خارجية تعرض هذه الأجزاء كهيئة السريرية- مثلا- و الّا كان التركيب خارجيا و لم يكن تركيبا اعتباريا، فمعنى التركيب الاعتباري هو كون لحاظ الاجتماع لحاظا ذهنيا بحتا لا خارجيا و إنما هو آلة للحاظ كونه مركبا فقط.

و من الواضح: ان الذي يكون واجبا باي نحو من الوجوب سواء كان نفسيا أو غيريا هو الموجود الخارجي، فاذا لم يكن في الخارج غير نفس الأجزاء فحينئذ هي التي تكون واجبة بالوجوب النفسي.

و من الواضح: انه ليس المأمور به في هذه المركبات الاعتبارية مركبا مما في الخارج و مما في الذهن. فاذا كانت حيثية الاجتماع أمرا ذهنيا فلا تكون مامورا بها و ينحصر ما هو المأمور به في المركبات الاعتبارية و بما يوجد في الخارج، و الذي يوجد في الخارج هو نفس الأجزاء من دون حيثية الاجتماع لما عرفت: من ان التركيب اعتباري. و اذا كانت نفس الأجزاء في الخارج هي الواجبة بالوجوب النفسي لا يبقى مجال لأن تكون واجبة بوجوب آخر مقدّمى، لأن الواجب بالوجوب المقدمي هو الذي يتوقف عليه وجود ذي المقدمة في الخارج، فاذا كانت نفس هذه الأجزاء التي هي مقدمة بنحو من اللحاظ هي الواجبة بالوجوب النفسي في الخارج لا تكون مما يتوقف عليها وجود الواجب في الخارج فلا يترشح لها وجوب من الوجوب النفسي،

ص: 16

لو كان إنما هو نفس الأجزاء، لا عنوان مقدّميتها و التوسّل بها إلى

______________________________

لأن الذي يترشح له الوجوب هو ما توقف عليه وجود الواجب لا ما كان نفس الواجب خارجا، فإن المقدمة إذا كانت في الخارج نفس ما هو واجب بالوجوب النفسي لا يعقل ان يترشح لها وجوب غيري فانه لو ترشح لها وجوب غيري، لزم اجتماع المثلين كما هو المعروف، و لزوم اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد، لأن الوجوب الذي هو علة لإيجاد المقدمة و الوجوب النفسي علة لإيجاد ذي المقدمة، و حيث انه في الخارج واحد و هو نفس الاجزاء فيلزم اجتماع علتين عليه، لوضوح ان هذه الموجودات في الخارج تكون واجبة بوجوب نفسي، و نفسها- أيضا- تكون واجبة بوجوب غيري فيجتمع وجوبان على واجب واحد و يكون من اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد.

و الى ما ذكرنا أشار بقوله: «لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به» لما عرفت: من ان التركيب إذا كان اعتباريا لا يكون المأمور به في الخارج إلا نفس الأجزاء لا غير، و تنحصر المغايرة بين الأجزاء و الكل بالمغايرة الاعتبارية، لأن حيثية الاجتماع أمر ذهني غير مأمور بها و انما هي أمر ذهني كان آلة للحاظ المركب و وحدته اعتبارا، فحينئذ تكون نفس الأجزاء بلحاظها لا بشرط مقدمة و بلحاظها بشرط شي ء ذا المقدمة، فالمغايرة بين المقدمة و ذي المقدمة بصرف اللحاظ الاعتباري و هو امر اعتباري، و لذا قال (قدس سره): «و انما كانت المغايرة بينهما»: أي بين المقدمة و ذي المقدمة «اعتبارا» لا أمرا خارجيا، و لازم ذلك ان تكون الواجبة بالوجوب النفسي هي نفس الأجزاء بالأسر و لذا قال (قدس سره): «فتكون واجبة بعين وجوبه»: أي بعين الوجوب النفسي «و» تكون الأجزاء بالأسر مبعوثا اليها بنفس الأمر الباعث اليه»: أي بنفس الباعث إلى الواجب النفسي، و لا يعقل ان تكون واجبة بوجوب آخر غيري، و إلّا لزم اجتماع المثلين، و لذا قال: «فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر لامتناع اجتماع المثلين».

ص: 17

المركب المأمور به، ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدّمة، لأنه المتوقف عليه، لا عنوانها، نعم يكون هذا العنوان علّة لترشح الوجوب على المعنون.

فانقدح بذلك فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي و الغيري، باعتبارين: فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي، و باعتبار كونه مما يتوسّل به إلى الكل واجب غيري (1)، اللهم إلا أن يريد

______________________________

(1) هذا دفع لما يمكن ان يقال.

و حاصله: انه لو قلنا بكفاية تعدد الجهة في اجتماع الأمر و النهي، بان نقول: إن الشي ء بعنوان واحد لا يعقل أن يؤمر به و ينهى عنه لكنه بعنوانين يمكن أن يجتمع الأمر و النهي فيه فيكون واجبا بعنوان و محرما بعنوان آخر كعنوان الصلاة و الغصب في الحركة الركوعية- مثلا- فانه تكون بعنوان كونها صلاة مأمورا بها، و بعنوان كونها غصبا منهيا عنها، فاذا قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي بعنوانين و بجهتين جاز اجتماع الوجوبين- أيضا- هنا بعنوانين، فإن الأجزاء بعنوان كونها هي الكل تكون واجبة بالوجوب النفسي و بعنوان كونها مقدمة تكون واجبة بالوجوب الغيري، و حيث ان المطلوب واحد يتاكد الوجوب و يكون وجوبا واحدا مؤكدا.

نعم، اذا قلنا بامتناع الاجتماع صح ان يمنع اجتماع الوجوبين في المقام.

و حاصل الدفع: هو انه لو قلنا: بكفاية تعدد الجهة في اجتماع الأمر و النهي أو الأمرين في الواحد ذي العنوانين لا نقول به في المقام، لأن الواجب بالوجوب المقدّمي ليس عنوان المقدمية حتى يجتمع في هذه الأجزاء عنوان كونها صلاة- مثلا- و عنوان كونها مقدمة فإن الواجب بالوجوب المقدّمي ليس عنوان المقدّمية، بل ذات ما هو مقدمة.

ص: 18

.....

______________________________

و البرهان عليه: ان الواجب بالوجوب الغيري ذات ما يتوقف عليه الواجب النفسي لا عنوان مقدّميته و ليس كالصلاة و الغصب فإن المحرّم ما هو معنون الغصبية: أي الحركة المعنونة بكونها غصبا لتعلق الحرمة بعنوان الغصبية، و ليس المحرم ذات الحركة فيجتمع العنوانان. فإن قلنا بكفاية تعدّد الجهة صح الاجتماع، و ان لم نقل بكفاية تعدّد الجهة نقول: بالامتناع.

و أما في المقام فالواجب بالوجوب الغيري ذات ما هو مقدمة لا عنوان المقدميّة- فلا يكون المقام مما اجتمع فيه عنوانان.

و بعبارة اخرى: ان الحيثية تارة تكون تقييدية كما في الصلاة- مثلا- و اخرى تعليلية كما في وجوب المقدمة، فإن عنوان المقدمية حيثية تعليلية لأن يكون ذات ما يتوقف عليه الواجب النفسي واجبا بالوجوب الغيري، و لعل السبب في كون عنوان المقدمية حيثية تعليلية هو أن الحاكم بوجوب مقدمة الواجب هو العقل، و العقل يرى ان التوقف لذات ما يتوقف عليه الواجب النفسي، لا لعنوان المقدمية فما هو بالحمل الشائع مقدمة هو الذي يتوقف عليه الواجب فعنوان المقدمية عند العقل حيثية تعليلية، بخلاف الصلاة فانه لما وقع هذا العنوان متعلقا للأمر فالشي ء المعنون بكونه صلاة هو الواجب، فالحركة الركوعية المقيدة بحيثية كونها صلاة هي الواجبة فالحيثية تقييدية، و إلى هذا أشار (قدس سره) بقوله: «لأن الواجب بالوجوب الغيري لو كان إنما هو نفس الأجزاء لا عنوان مقدميتها» و أشار إلى البرهان بقوله: «ضرورة ان الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمة»: أي ذات ما هو مقدمة لا عنوان المقدمية «لأنه المتوقف عليه لا عنوانها»: أي لأن الملاك و السبب في وجوب المقدمة هو توقف الواجب عليها، و الواجب انما يتوقف على ذات ما هو مقدمة لا عنوان المقدّمية كما عرفت، فان عنوان المقدمية لم يقع تحت خطاب شرعي حتى نقول ان الأمر تعلق بالعنوان لينطبق على المعنون كما تعلق في عنوان الغصب حتى ينطبق على معنونه، و الّا فالذي يقوم به مفسدة الغصب- أيضا- ما هو غصب

ص: 19

أن فيه ملاك الوجوبين، و إن كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه (1)،

______________________________

بالحمل الشائع، لا مفهوم الغصبية و لكن حيث كان الغصب متعلق النهي بعنوانه لينطبق على معنونه فالعنوان هو المتعلق للنهي و الخطاب، بخلاف وجوب المقدمة فإن المدرك لوجوبها لو قلنا به هو العقل و العقل يدرك ان ذات ما يتوقف عليه الواجب هو الذي تعلق به الوجوب و يترشح اليه من الوجوب النفسي.

نعم، حيث ان موجودات العقل من سنخ المدركات النفسية فالعقل يدرك ما في الخارج بعنوانه فيجعل عنوان المقدمية مرآة لما هو الواجب عنده، و هو ما بالحمل الشائع مقدمة: أي ذات ما هو مقدمة، و إلى كون الحيثية تعليلية أشار بقوله: «نعم يكون هذا العنوان علة لترشح الوجوب على المعنون».

فاذا عرفت هذا- عرفت انه لم يجتمع في المقام عنوانان.

فاتضح فساد ما توهم ان المقام من قبيل ما اجتمع فيه العنوانان كما في مقام اجتماع الأمر و النهي فلا تكون الأجزاء مما تتصف بالوجوب النفسي و الغيري و الى هذا أشار بقوله: «فانقدح بذلك فساد توهم اتصاف كل جزء إلى آخره».

(1) حاصله كاعتذار و تأويل لتوهم هذا المتوهم: بان نقول أن مراده من اجتماع العنوانين في الأجزاء أن في الأجزاء يجتمع الملاكان للوجوبين لا نفس الوجوبين، لأنه حيث كان ملاك المقدمية- على ما عرفت مما تقدم- موجودا في الأجزاء و ملاك الوجوب النفسي لا ريب في وجوده فيها لأنها نفس الواجب بالوجوب النفسي فاجتمع في الأجزاء الملاكان لوجوبين لا نفس الوجوبين، و حيث لا مجال لتأثير كلا الملاكين فلا بد ان يؤثر احدهما فقط، فيكون المؤثر في الوجوب هو ملاك الوجوب النفسي لأن ملاك الوجوب النفسي كعلة للوجوب الغيري، فلا بد و أن يسبق ملاك الوجوب النفسي في التأثير- في المقام- لأن تأثير ملاك الوجوب النفسي بعد ان كان كعلة للوجوب الغيري لا يعقل بان يتوقف تأثيره على ما هو كمعلول له، بخلاف تأثير ملاك الوجوب الغيري فانه لما كان كمعلول للوجوب النفسي فيتوقف تأثيره على تأثير

ص: 20

فتأمل (1).

______________________________

ملاك الوجوب النفسي، فلا بد و أن يتقدم في التأثير فلا مانع له و هو ملاك الوجوب النفسي لعدم توقفه على ملاك الوجوب الغيري، لأن تأثير العلة لا يتوقف على تأثير معلولها بخلاف تأثير المعلول فإنه يتوقف على تأثير العلة، و هو واضح و هذا مراده من قوله (قدس سره): «و ان كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه».

(1) لقد ذكر (قدس سره) في حاشيته على المتن وجه التأمل 2].

و حاصله، بتوضيح: انه ليس في الأجزاء ملاك الوجوب الغيري و إن تصورنا مقدميتها بما مر من اللحاظ اللابشرطي، فالأجزاء لا يعقل أن يكون فيها ملاك المقدّمية الذي يقتضي ان تكون واجبة بالوجوب الغيري لأن ملاك المقدمية الذي يقتضي الوجوب لا يكفي فيه صدق المقدّمية وحدها، بل لا بد من كونها مقدمة بحيث يتوقف وجود الواجب النفسي عليها و هذا الشرط مفقود في الأجزاء، اذ لا يعقل ان يكون في الأجزاء ملاك ما يتوقف وجود الواجب النفسي عليه، لما عرفت: من ان الواجب بالوجوب النفسي نفس الأجزاء، فلا يعقل ان يكون وجود الأجزاء التي هي الواجب بالوجوب النفسي متوقفا على المقدمة الواجبة بالوجوب الغيري، اذ لا يعقل توقف وجود الأجزاء على نفسها، فملاك الوجوب الغيري و هو توقف وجود ذي المقدمة على وجود المقدمة لا يوجد في هذه المقدمة التي أمكن أن تكون مقدمة بنحو من اللحاظ.

و قد عرفت ان صرف كونها مقدمة لا يكفي في تحقق ملاك الوجوب الغيري، بل لا بد من التوقف في مقام الوجود و لا توقف هنا في مقام الوجود.

ص: 21

هذا كله في المقدمة الداخلية.

المقدمة الخارجية

و أما المقدمة الخارجية: فهي ما كان خارجا عن المأمور به، و كان له دخل في تحققه، لا يكاد يتحقق بدونه، و قد ذكر لها أقسام، و أطيل الكلام في تحديدها بالنقض و الإبرام، إلا أنه غير مهم في المقام (1).

المقدمة العقلية و الشرعية و العادية
اشارة

و منها: تقسيمها إلى العقليّة، و الشرعيّة، و العاديّة:

فالعقليّة: هي ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه.

______________________________

(1) لقد قسموا المقدمة الخارجية التي يتوقف وجود الواجب النفسي عليها إلى خمسة أقسام: السبب، و الشرط، و عدم المانع، و المعدّ، و العلة التامة.

و عرفوا السبب: بانه ما لزم من وجوده الوجود و من عدمه العدم.

و الشرط: بانه ما لزم من عدمه العدم و لا يلزم من وجوده الوجود.

و المانع: بانه ما لزم من وجوده العدم و لا يلزم من عدمه الوجود و مثلوا للسبب بالنار بالنسبة إلى الاحراق، و للشرط بالمقاربة من الجسم، و للمانع بالرطوبة المانعة من احتراق الجسم في حال مقاربة النار لها.

و عرفوا المعدّ: بما يقرّب المعلول من علته و مثلوا له بطي المسافة للكون على السطح مثلا.

و العلة التامة: هي مجموع هذه الامور. و قد اكثروا النقض و الابرام في التعاريف المذكورة.

و لا يخفي انه لا فائدة في هذه التقاسيم و لا في النقض و الإبرام فيها، لأن هذه التقسيمات انما يكون لها اثر حيث نقول بالتفصيل في وجوب بعضها دون بعض، أما لو قلنا بوجوب كل ما توقف الواجب عليه فلا فائدة في ذلك، هذا أولا.

و ثانيا: انه على مذاق المصنف ان هذه التعاريف لفظية لشرح الاسم و ليست بالحد و لا بالرسم فلا ينبغي النقض و الإبرام فيها و لذا قال (قدس سره): «إلّا انه غير مهم في المقام».

ص: 22

و الشرعيّة على ما قيل: ما استحيل وجوده بدونه شرعا (1)، و لكنه لا يخفى رجوع الشرعيّة إلى العقليّة، ضرورة أنه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا، إلا إذا أخذ فيه شرطا و قيدا، و استحالة المشروط و المقيد بدون شرطه و قيده يكون عقليا (2).

______________________________

(1) هذا تقسيم آخر للمقدمة، فانهم قسموا المقدمة إلى العقلية، و عرفوها: بانه ما استحيل وجود ذي المقدمة بدونها عقلا كطي المسافة بالنسبة إلى الوصول إلى مكة- مثلا- فان طي المسافة ما يتوقف عليها وجود الواجب عقلا، لوضوح محالية الطفرة عقلا. فهذا التوقف مما يحكم العقل به و انه لا يعقل وجود الواجب بدون هذه المقدمة. و الى المقدمة الشرعية: و هي ما استحال وجود الواجب بدونها شرعا كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة فانه يستحيل تحقق الصلاة الصحيحة شرعا بدون الطهارة بعد أن اشترط الشارع الصلاة بالطهارة، و من الواضح ان هذا التوقف ليس كالسابق الذي يدرك العقل محالية وجود ذي المقدمة بدونها و لكن عند الشارع بعد أن أخذ الطهارة شرطا يستحيل عنده وجود ذي المقدمة بدونها. و الى المقدمة العادية، و سيأتي الكلام فيها، فأقسام المقدمة ثلاثة: عقلية، و شرعية، و عادية.

(2) حاصل ما اورده المصنف على تقسيم المقدمة إلى الشرعية و العقلية ان الشرعية ترجع إلى العقلية، بان نقول: ان هذا الاشتراط الشرعي إن كان إرشاديا إلى أن هذا المتعلق للوجوب النفسي لا يحصل منه الغرض المترقب منه الّا باتيان هذه المقدمة، فيكون الشارع في هذا المقام مرشدا صرفا إلى هذا التوقف، و تكون الصلاة واقعا مما تتوقف على الطهارة، كتوقف أداء مناسك الحج في مكة على طي المسافة فالتوقف عقلي، لاستحالة حصول ذي المقدمة واقعا بدون هذه المقدمة، و إنما الفرق بين هذين التوقفين هو ان العقل في الاولى يدرك التوقف، و في الشرعية لا يدرك التوقف و انما الشارع أرشد اليه.

ص: 23

رجوع المقدمة العادية إلى العقلية

و أما العاديّة: فإن كانت بمعنى أن يكون التوقّف عليها بحسب العادة بحيث يمكن تحقّق ذيها بدونها، إلا أنّ العادة جرت على الإتيان به بواسطتها، فهي و إن كانت غير راجعة إلى العقلية، إلا أنه لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع، و إن كانت بمعنى أن التوقف عليها و إن كان فعلا واقعيا كنصب السلم و نحوه للصعود على السطح، إلا أنه لاجل عدم التمكن عادة من

______________________________

و أما إذا كانت الشرطية جعلية فالشرعية- أيضا- ترجع إلى العقلية: بمعنى انه بعد أخذ الشارع هذا الشرط في المشروط به فلا يعقل حصول المشروط بدون شرطه، فيكون الفرق بين العقلية و الشرعية هو ان السبب في التوقف تارة يكون أمرا طبيعيا و اخرى أمرا شرعيا.

و أما التوقف نفسه فلا يختلف في كليهما، فإن الحال في كليهما واحدة لانهما صغرى لكبرى واحدة، و هي استحالة حصول المشروط من دون شرطه، غايته ان السبب في كون الشي ء شرطا مختلف، ففي الاولى اقتضاه الوضع الطبيعي و في الثانية كان بواسطة الجعل الشرعي.

و على كل فقد ظهر ان الاستحالة في كل منهما هي عند العقل، لا أن الاستحالة في المقدمة العقلية عقلية و في المقدمة الشرعية شرعية، بل في كليهما الاستحالة عقلية، و إنما الاختلاف بينهما في سبب هذه الاستحالة كما عرفت. و يمكن ان يكون المصنف قد أشار إلى كلا الاحتمالين بقوله: «إذا اخذ فيه شرطا» فإن الأخذ تارة لأجل أنه يعلم و يرى ما لا يتوصل اليه العقل فيكون قد أخذه لأن يرشد إلى دخالته واقعا، و اخرى يكون الاخذ لأجل جعله لشرطيته، إلّا ان المنصرف من كلامه (قدس سره) هو الاحتمال الثاني لظهور الأخذ في الجعل.

ص: 24

الطيران الممكن عقلا فهي- أيضا- راجعة إلى العقليّة، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لغير الطائر فعلا، و إن كان طيرانه ممكنا ذاتا (1)،

______________________________

(1) هذا القسم الثالث، و هو المقدمة العاديّة- فقد عرفت فيما تقدم انهم قسموا المقدمة إلى عقلية و شرعية و عادية، و قد مر الكلام في العقلية و الشرعية.

و أما العادية: فهي التي اقتضت العادة إتيانها و قد أشار المصنف إلى نحوين منها، و لها انحاء أخر و لكن لا موجب لذكرها لخروجها كالنحو الاول الذي أشار اليه في الخروج عن محل النزاع.

النحو الاول: أن يكون توقف ذي المقدمة على هذه المقدمة بالخصوص، لأن العادة جرت على إتيان هذه المقدمة، و لكن ليس لذي المقدمة توقف على خصوص هذه المقدمة، كما لو كان هناك طريقان كل منهما موصل إلى الغاية المأمور بها و لكن العادة جرت على سلوك هذا الطريق، فهذه المقدمة يصح ان تكون في قبال المقدمة العقلية، لوضوح أن المقدمة العقلية هي التي يستحيل عقلا إتيان ذي المقدمة بدونها، و هذه المقدمة العادية لا يستحيل إتيان ذي المقدمة بدونها لإمكان سلوك الطريق الآخر الذي لم تجر العادة بسلوكه، و لكن لا دخالة لها في محل النزاع من كون مقدمة الواجب واجبة، فإن الكلام في وجوب المقدمة التي يستحيل وجود الواجب بدونها، فالقائل بوجوب مقدمة الواجب لا يقول بوجوب خصوص هذه المقدمة العادية، لأن الذي يستحيل وجوب الواجب بدونه هو طي المسافة لا خصوص هذه المقدمة التي جرت العادة بسلوكها، فلا وجه لجعلها قسما من أقسام مقدمة الواجب التي هي محل النزاع، و لذا قال (قدس سره): «فهي و إن كانت غير راجعة إلى العقلية إلّا انه لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع».

النحو الثاني: أن تكون المقدمة مما يستحيل تحقق ذي المقدمة بدونها إلّا ان العادة اقتضت هذه الاستحالة، و ذلك كنصب السلم للأجسام الثقيلة للصعود على السطح التي ليس لها قدرة الطيران، و ليس لها من القوة الخارقة للعادة بحيث تستطيع

ص: 25

فافهم (1).

______________________________

الوثوب إلى أعلى حتى تكون على السطح، و إنما سميت هذه المقدمة بالعاديّة لأن المقدمة العقلية التي يتوقف ذو المقدمة عليها هو طي المسافة، لامتناع الكون على السطح من دون طي المسافة لاستلزام ذلك للطفرة المحال عقلا وقوعها، فالكون على السطح يتوقف توقفا عقليا على طي المسافة، و أمّا توقفه على خصوص نصب السلم إنّما هو لأجل عدم تمكن الجسم الثقيل من الطيران و عدم قوة له خارقة للعادة على الوثوب إلى السطح، فالتوقف على نصب السلم إنما هو بالقياس إلى أن الجسم الثقيل المعتاد منه لا يقدر على الطيران و ليست له قوة خارقة للعادة، و هذه المقدمة تسمى بالمقدمة العاديّة، لأن المعتاد في الجسم الثقيل في صعوده إلى السطح أن يتوقف على نصب السلم.

و لا يخفى ان هذا النحو من المقدمة و ان كان يسمى بالمقدمة العادية إلّا ان التوقف فيه عقلي، لوضوح ان الكلام في توجه وجوب المقدمة إلى ما يتوقف عليه وجود ذي المقدمة، و حيث انحصر في الجسم الثقيل فرد طي المسافة بنصب السلم فيتوجه الوجوب اليه، لانحصار طي المسافة بالنسبة إلى الجسم الثقيل، فهذه المقدمة تدخل- أيضا- في المقدمة العقلية لأن محل الكلام ليس وجوب المقدمة التي لها امكان ذاتي، فإن طيران الجسم الثقيل و إن كان ممكنا بالذات إلّا انه بحسب العادة و الوقوع لا تحقق له، و الكلام ليس في وجوب المقدمة التي لها إمكان بالذات و لذا قال: «فهي- أيضا- راجعة إلى العقلية ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب» للسلم «عقلا» بالنسبة إلى الجسم الثقيل «لغير الطائر فعلا، و ان كان طيرانه» أي طيران الجسم الثقيل «ممكنا ذاتا».

(1) لعله يشير بقوله فافهم إلى ان رجوع الشرعية و العادية إلى العقلية لا يضر في كون المقدمة تنقسم اليهما و الى العقلية، لوضوح انه مع كونهما يرجعان إلى العقلية هناك فرق بينهما، لأن الغرض في هذا التقسيم هو كون ما يتوقف عليه ذو المقدمة تارة

ص: 26

مقدمة الوجود و الصحة و الوجوب و العلم
اشارة

و منها: تقسيمها إلى مقدّمة الوجود، و مقدّمة الصحة، و مقدمة الوجوب، و مقدمة العلم.

رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود
اشارة

لا يخفى رجوع مقدّمة الصحة إلى مقدّمة الوجود، و لو على القول بكون الاسامي موضوعة للأعمّ، ضرورة أن الكلام في مقدمة الواجب، لا في مقدمة المسمى بأحدها، كما لا يخفى.

خروج مقدمة الوجوب و المقدمة العلمية عن محل النزاع

و لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع، و بداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها، و كذلك المقدمة العلمية، و إن استقلّ العقل بوجوبها، إلّا أنه من باب وجوب الاطاعة إرشادا ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز،

______________________________

يكون أمرا عقليا بذاته يدركه العقل، و اخرى لا يكون العقل مدركا لتوقف ذي المقدمة عليه، و لكن بعد جعله شرعا يدرك التوقف عليه، و ثالثة ان يكون ادراك العقل للتوقف عليه بملاحظة ما للجسم الثقيل في المعتاد من عدم قدرته على الطيران و الوثوب، و بهذه الإضافة و الملاحظة يدرك العقل التوقف على هذه المقدمة الخاصة و هي نصب السلم بخلاف طي المسافة فانه لمحالية الطفرة يدرك العقل توقف ذي المقدمة على طي المسافة توقفا بالذات من دون ملاحظة و إضافة إلى شرع أو عادة.

و بعبارة اخرى: ان التقسيم بلحاظ نفس التوقف في المقدمة، و ان سببه تارة يكون عقليا تدركه الأنظار جميعا، و اخرى يكون شرعيا لا تدركه الانظار غير نظر الشارع، و ثالثة يكون محاليته بالقياس إلى الغير.

و الاولى العقلية، و الثانية الشرعية، و الثالثة العادية.

فان نصب السلم إنما يكون مقدمة بالاضافة و القياس إلى الاجسام الثقيلة التي لا قدرة لها على الوثوب.

ص: 27

لا مولويا من باب الملازمة، و ترشّح الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة (1).

______________________________

(1) هذا تقسيم آخر للمقدمة، فإنهم قسموها إلى أقسام أربعة:

القسم الاول: مقدمة الوجود: و هي التي يتوقف وجود الواجب عليها لا وجوبه، كطي المسافة بالنسبة إلى الكون على السطح، فإن وجود الكون على السطح يتوقف على طي المسافة لا وجوب الكون على السطح فإنه لا توقف له على طي المسافة، و لا إشكال في دخول هذه المقدمة في محل النزاع، فبناء على وجوب مقدمة الواجب تكون مقدمة الكون على السطح واجبا شرعيا، و بناء على عدم الوجوب تكون مقدمة الكون على السطح واجبا عقليا لا شرعيا، لإرشاد العقل و إلزامه بإتيانها لتوقف وجود الواجب عليها و هي مقدورة فاذا لم يأت بها يكون قد فوت الواجب و لم يمتثله باختياره.

القسم الثاني: مقدمة الصحة: و هي التي يتوقف صحة الواجب عليها، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة فإنّ صحة الصلاة متوقفة على الطهارة، لا ذات وجود أجزاء الصلاة كالتكبير و الركوع و غيرهما متوقفة على الطهارة، لوضوح عدم توقف ذات التكبير على الطهارة. نعم، التكبير الموصوف بالصحة موقوف على الطهارة، هذا.

و لكنه من الواضح دخول مقدمة الصحة في مقدمة الوجود، لأن المفروض أن محل الكلام في مقدمة الواجب بما هو واجب سواء توقف تحقق ذات الواجب عليها أو توقف تحققه بما هو واجب عليها، فإن الطهارة و إن لم يتوقف تحقق ذات ما هو واجب عليها إلّا أن تحقق الواجب بما هو واجب متوقف عليها.

و بعبارة اخرى: ان الكلام في مقدمة ما هو واجب و مأمور به فان الكلام في وجوب ما تتوقف عليه الصلاة التي هي واجبة، و ليس الكلام في خصوص ما يتوقف عليه المسمى بلفظ الصلاة. نعم، لو كان الحال كذلك لكانت مقدمة الصحة قسما مقابلا لمقدمة الوجود الّا انه ليس كذلك، بل الكلام في وجوب مقدمة الواجب بما

ص: 28

.....

______________________________

هو واجب حتى لو قلنا بان اسامي العبادات- مثلا- موضوعة للاعم، لبداهة ان المأمور به بما هو مأمور به هو الفرد الصحيح لا الاعم من الصحيح و الفاسد، و اذا كان الواجب و المأمور به هو الصحيح دخلت مقدمة الصحة في مقدمة الوجود لما عرفت من توقف الصحيح عليها الذي هو الواجب، و الى هذا أشار بقوله:

«لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود الخ».

القسم الثالث: مقدمة الوجوب: و هي التي يتوقف وجوب الواجب عليها لا وجوده و هي على نحوين لأنها:

تارة: لا تكون اختيارية للمكلف كالوقت بالنسبة إلى الصلاة و لا ريب في خروج هذا عن محل النزاع لا لما يأتي من محالية دخولها في محل النزاع، بل لأن ما لا يكون باختيار المكلف لا يكون موردا للتكاليف.

و اخرى: تكون تحت الاختيار كقوله- مثلا- إذا قرأت آية السجدة فاسجد، فإن قراءة آية السجدة تحت اختيار المكلف إلّا انه لا يعقل دخولها في محل النزاع لعدم إمكان اتصاف مقدمة وجوب الواجب بالوجوب من قبل وجوب الواجب، لأن المفروض انه انما يكون وجوب الواجب متحققا بعد تحققها، فقبل تحققها لا وجوب للواجب حتى يترشح منه وجوب هذه المقدمة و بعد تحققها و حصول وجوب الواجب لا معنى لترشح الوجوب اليها، إذ الداعي لتعلق الوجوب بشي ء أن يكون داعيا إلى إيجاده و تحصيله، و بعد وجوده لا معنى لايجاده و تحصيله فانه من إيجاد الموجود و تحصيل الحاصل، مضافا إلى ان وجوب مقدمة الواجب معلول لوجوب الواجب، و من الواضح ان وجوب الشي ء له نحو من العلية لوجوده لانه هو الداعي لوجوده و مقدمة الوجوب هي التي يكون وجودها من معاليل وجوب الواجب، فاذا فرض ترشح الوجوب اليها من وجوب الواجب تكون العلة معلولة لمعلولها و هو من أبده المحالات، لوضوح أن ما فرض كونه علة لشي ء لا يعقل ان يكون معلولا لذلك الشي ء، و الى ما ذكرنا أشار بقوله: «لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل

ص: 29

.....

______________________________

النزاع و بداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها»: أي بداهة عدم إمكان ترشح الوجوب اليها من الواجب المشروط وجوبه بوجودها، و هذا يمكن انطباقه على المحذور الاول و هو لزوم تحصيل الحاصل، و يمكن انطباقه على المحذور الثاني و هو أن علة الشي ء لا يعقل ان تكون معلولا له.

القسم الرابع: المقدمة العلمية: و هي التي يتوقف العلم بتحقق الواجب عليها لا وجوده و لا صحته و لا وجوبه، كغسل مقدار مما فوق قصاص الشعر و مما فوق المرفق ليحصل العلم بتحقق ما هو المأمور به من غسل الوجه و اليد، فإن غسل ما فوق قصاص الشعر و ما فوق المرفق لا يتوقف عليه وجود غسل الوجه و لا وجود غسل المرفق و لا صحته و لا وجوبه، و إنما يتوقف عليه العلم بتحقق ما هو المأمور به قطعا أو كالصلاة إلى جهتين أو اكثر إذا اشتبهت القبلة بينها.

و من الواضح خروج المقدمة العلمية عن محل الكلام، لانه في المقدمة التي تكون علة في مقام الوجود لتوقف وجود الواجب عليها، و ليس غسل ما فوق قصاص الشعر مما يتوقف عليه وجود الغسل من قصاص الشعر، و لا الصلاة إلى جهة غير القبلة مما يتوقف عليه وجود الصلاة إلى القبلة.

نعم، العلم بتحقق وجود الغسل و العلم بتحقق الصلاة إلى القبلة يتوقف على ذلك. و قد عرفت ان الكلام ليس فيما يتوقف عليه العلم بوجود الواجب.

بعبارة اخرى: الكلام في وجوب علة الوجود لا في علة العلم بالوجود، و ان كانت هذه المقدمة العلمية مما يأمر العقل بإتيانها إرشادا إلى احراز الامتثال و للتخلص من تبعات عدم امتثال الواجب، ليأمن المكلف من تبعات مخالفة التكليف الذي نجز عليه، و ليس الكلام في كل مقدمة يأمر العقل بإتيانها ارشادا إلى ما به يحصل العلم بالاطاعة، و انما الكلام في المقدمة التي يترشح لها وجوب مولوي من وجوب الواجب فتكون مطلوبة كالواجب النفسي بطلب مولوي، غايته انه وجوب غيري ترشحي و هذه المقدمة ليست إلا المقدمة التي تكون علة لوجود الواجب، لأن من

ص: 30

تقسيم المقدمة إلى المتقدم و المقارن و المتأخر
اشارة

و منها: تقسيمها إلى المتقدّم، و المقارن، و المتأخّر، بحسب الوجود بالاضافة إلى ذي المقدمة (1)، و حيث إنها كانت من أجزاء العلة و لا بد

______________________________

يريد شيئا يريد ما يتوقف عليه وجود ما أراده، لا المقدمة التي يتوقف عليها العلم بتحقق ما أراده و هي خارجة عن العلية لوجود ما طلب و ما أريد هذا حاصل ما أشار اليه بقوله: «و كذلك المقدمة العلمية»: أي كما ان مقدمة الوجوب خارجة عن محل الكلام كذلك المقدمة العلمية خارجة أيضا «و ان استقل العقل بوجوبها»:

أي بلزوم اتيانها إلّا انه ليس لتوقف وجود الواجب عليها، فإن الواجب مربوط بعلة وجوده لا بوجود شي ء آخر معه ليس دخيلا في علته، بل دخيلا في تحقق العلم بوجوده، و لذلك يأمر العقل باتيانها الّا ان أمره باتيانها لا لأنها علة للوجود، بل لأنها علة للعلم بتحقق ما أمر به لأن العقل يلزم بالاطاعة على نحو اليقين فلا بد في تحقق العلم بالاطاعة من الإتيان بالمقدمة العلمية ليأمن بها من العقوبة، إذ الأمان من العقوبة لا يتحقق إلّا بعد العلم بإتيان ما أمر به فالأمر بالمقدمة العلمية أمر عقلي إرشادي للعلم بتحقق الإطاعة. و الكلام في مقدمة الواجب التي لها امر مولوي يترشح من وجوب الواجب للملازمة بين الوجوب النفسي للواجب و الوجوب الغيري للمقدمة، و لذا قال (قدس سره): «إلّا انه»: أي إلّا ان استقلال العقل بوجوبها و لزوم اتيانها «من باب وجوب الاطاعة ارشادا» فالامر من العقل بوجوب اتيان المقدمة العلمية ارشادي «ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز لا مولويا» كمقدمة الواجب فإن الأمر فيها مولوي كالامر في الواجب النفسي «من باب الملازمة و» لأجل «ترشح الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة».

(1) هذا تقسيم آخر للمقدمة، فانهم قسموها الى المقدمة المتقدّمة، و المقارنة، و المتأخرة بحسب الوجود.

و لا يخفى ان عنوان هذا التقسيم حيث كان في مقدمة الواجب فهو مختص بمقدمة المأمور به دون مقدمة الحكم التكليفي و الحكم الوضعي.

ص: 31

.....

______________________________

و لكن حيث انه لا اختصاص للاشكال الآتي بمقدمة المأمور به لذلك حرّر الإشكال في المقدمات الثلاث، و حيث إن طريق الجواب عن مقدمة الحكم التكليفي و الحكم الوضعي واحد و غير مختلف لذلك جعله مقاما أوّلا، و جعل الجواب عن مقدمة المأمور به مقاما ثانيا لانه غير طريق الجواب عن الحكم التكليفي و الحكم الوضعي كما سيأتي بيانه ان شاء اللّه.

ثم لا يخفى- أيضا- انه لا فرق بين الشرط الشرعي و العقلي فيما هو المهم من محل الإشكال، لوضوح ان الشرط من متممات المقتضي في مقام التأثير، فكما ان المقاربة للجسم شرط في تأثير النار للاحراق كذلك الطهارة بالنسبة إلى الصلاة فانها شرط في تأثيرها الاثر المترقب منها فلا فرق بينهما، فاذا لم يعقل تأثير النار للاحراق مع تاخر المقاربة زمانا عن الإحراق كذلك لا يعقل تأثير الصلاة في الصحة و ترتب اثرها المترقب منها عليها مع تأخر الطهارة زمانا عن تأثير الصلاة في الصحة المترقبة منها بعد انتهاء زمان الصلاة.

و على كل فالشرط يكون متقدما كغسل المستحاضة في الليل لصحة صومها من أول الفجر.

و يكون مقارنا كالستر بالنسبة إلى الصلاة.

و يكون متاخرا كغسل المستحاضة لصلاة المغرب و العشاء بالنسبة إلى صوم يومها الذي انتهى بالمغرب.

و اتضح من الأمثلة المذكورة ان التقدم و التقارن و التأخر هو بحسب الوجود، ففي المثال الاول الغسل يتقدم بالوجود على الصوم، و في الثاني وجود الستر يقارن وجود الصلاة، و في الثالث يتأخر وجود الغسل عن وجود الصوم، و لذا قال (قدس سره): «تقسيمها إلى المتقدم و المتاخر بحسب الوجود بالاضافة إلى ذي المقدمة»: أي إلى وجود ذي المقدمة و لم يذكر المقارن- في بعض النسخ- لعدم تاتي الإشكال الآتي فيه بل هو مختص بالشرط المتقدم بحسب الوجود زمانا المعدوم حال

ص: 32

الاشكال في المقدمة المتأخرة

من تقدمها بجميع أجزائها على المعلول (1) أشكل الأمر في المقدمة المتأخرة، كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض، و الاجازة

______________________________

حصول المشروط، أو المقتضي المتقدم كذلك المعدوم حال حصول مقتضاه و أثره، و بالمتأخر زمانا بحسب الوجود بعد حصول المشروط و المقتضى.

(1) لأجزاء العلة على معلولها-: أي المقتضي و الشرط- تقدم غير تقدم العلة على معلولها، فإن أجزاء العلة تتقدم بالطبع و ملاكه امكان ان يوجد السابق بدون اللاحق، و عدم إمكان ان يوجد اللاحق و لا يوجد السابق، كمثل تقدم الواحد على الاثنين فان ملاك التقدم الطبعي موجود فيه ايضا، اذ يعقل ان يوجد الواحد و لا وجود للاثنين، و لا يعقل ان توجد الاثنان و لا وجود للواحد، و الحال كذلك في المقتضي بالنسبة إلى مقتضاه فانه يعقل ان يوجد المقتضي و لا وجود للمقتضى: بان توجد النار و لا يوجد الاحراق و لا يعقل ان يوجد الاحراق و لا وجود للنار، و مثله الشرط كمقاربة النار للجسم المحترق فانه يعقل ان توجد مقاربة النار للجسم المحترق و لا يحصل الاحتراق لوجود الرطوبة في الجسم المانعة من الاحتراق و لكنه لا يعقل ان يحترق الجسم و لا تكون مقاربة من النار له. و العلة التامة تتقدم على معلولها بالوجوب لا بالوجود اذ لا يعقل ان توجد العلة التامة و لا وجود للمعلول، و الّا لم تكن علة تامة فلا بد من لزوم المقارنة في الوجود بين العلة التامة و معلولها، و لكنه حيث كان لزوم وجود المعلول آت من ناحية العلة فهذه الضرورة و اللزوم لوجود المعلول ليس لذاته بل من ناحية العلة، فلا بد و أن تكون العلة متقدمة في الوجوب و الضرورة على معلولها، و لذا يقال: وجبت العلة فوجب المعلول، الّا ان العلة التامة و أجزاءها و ان اختلف ملاك التقدم فيهما لكنهما يشتركان في امر و هو انه لا بد من ان يكونا جميعا موجودين في زمان وجود المعلول، فلا يعقل ان تتقدم أجزاء العلة بالوجود على المعلول و تكون حال وجود المعلول معدومة.

و أما العلة التامة فقد مر أنها لا بد من مقارنة زمان وجودها لوجود المعلول.

ص: 33

في صحة العقد- على الكشف- كذلك، بل في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرم حينه، كالعقد في الوصية و الصرف و السلم، بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه، لتصرمها حين تأثيره، مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه زمانا، فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في الشرعيات- كما اشتهر في الألسنة- بل يعم الشرط و المقتضي المتقدمين المتصرمين حين الأثر.

و التحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال: إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها، لا يخلو إما يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف، أو الوضع، أو المأمور به (1).

______________________________

و قد عرفت ان المراد بأجزاء العلة المقتضي و الشرط دون المعد، فإن المعد ليس من متممات فاعلية العلة بل هو ما يقرب العلة إلى معلولها، فقد يكون موجودا حال وجود المعلول كوجود جد زيد بالنسبة إلى نطفة زيد فانه من قبيل المعد لها، و قد يكون معدوما حال وجود المعلول كصعود المراقي بالنسبة إلى الكون على السطح فإنها حال الكون على السطح معدومة و خصوصا صعود المراقي قبل المرقاة الأخيرة فإن كل واحدة منها معدومة حال وجود لاحقتها.

و أما المقتضي و الشرط فلا يعقل انعدامهما حال تحقق المعلول، لوضوح ان المقتضي هو الذي يترشح منه وجود المعلول، و الشرط هو المتمم لفاعلية المقتضى فلو كانا معدومين حال وجود المعلول للزم تأثير المعدوم في الموجود و هو محال، اذ لا يعقل ان يؤثر اللاوجود في الوجود و هو بديهي، و هذا هو البرهان- أيضا- على أمر مشترك آخر بين أجزاء العلة و العلة التامة، و هو انه لا يعقل ان يتاخرا زمانا عن زمان وجود المعلول للزوم تأثير المعدوم في الموجود.

(1) لا يخفى ان القوم ذكروا الإشكال في تأخر وجود الشرط زمان وجود مشروطه و قد حرروا المسألة في شرائط الحكم الوضعي لانهم ذكروا الاشكال في إجازة المالك

ص: 34

.....

______________________________

للعقد الفضولي فإنهم اختلفوا في كون اجازة المالك ناقلة أو كاشفة، و المراد من كونها ناقلة انه لا يكون للعقد تأثير في حصول النقل و الانتقال الا بالاجازة، فالعقد يؤثر النقل و الانتقال بوجود الإجازة.

و ذهب المشهور إلى كونها كاشفة و معنى كونها كاشفة انها بوجودها المتأخر تكون كاشفة عن حصول النقل و الانتقال من حين العقد، و ليس الإجازة عند القائلين بالكشف انها لا دخل لها في تأثير العقد اصلا و انها كاشفة محضة و التأثير للعقد وحده من دون دخالة للاجازة، بل الظاهر من اكثرهم ان لرضا المالك و اذنه دخالة بنحو الشرطية في تأثير العقد فلا بد و ان يكون لإجازته دخالة الشرطية- أيضا- في تأثير العقد من حينه مع كونها متأخرة زمانا عن زمان وجود العقد- فاشكل عليهم الأمر لأن الشرط لا يعقل ان يكون حال حصول أثر العقد معدوما، لأن فاعلية الفاعل و تأثيره تتم بالشرط، فكيف يعقل ان تكون معدوما حال حصول الأثر و يكون من تأثير المعدوم في الموجود، و اذا كان المناط في الإشكال هو هذا اللازم الباطل لا يختص هذا الإشكال بالشرط المتأخر، بل يعم الشرط المتقدم وجوده على وجود المشروط: بان يكون معدوما حال وجود المشروط، فغسل المستحاضة المتقدم في أول الليل الذي هو شرط صحة صومها من أول الفجر يكون من تأثير المعدوم في الموجود، و يعم- أيضا- المقتضي المتقدم بوجوده على مقتضاه و أثره الذي- أيضا- يكون معدوما حال حصول أثره، كتأثير عقد الوصية من الموصي فيما بعد موته فانه ينشئ العقد في حال حياته و يؤثر هذا العقد أثره بعد موته، إذ لا تأثير للوصية في حياة الموصى، فهذا العقد حال إنشائه لا اثر له و في حال تأثيره هو معدوم فيكون من تأثير المعدوم في الموجود.

و الإشكال- أيضا- جار في عقد الصرف فإن العقد لا يؤثر في النقل و الانتقال في المعاملة الصرفية الا بعد التفرق، ففي حال تحقق العقد لا اثر له، و في حال التفرق- الذي هو زمن التأثير- العقد معدوم غالبا. و مثله في عقد السلم، بل يعم الإشكال

ص: 35

أما الاول: فكون أحدهما شرطا له، ليس إلا أن للحاظه دخلا في تكليف الآمر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس

______________________________

كل عقد لأن العقد مركب من الإيجاب و القبول، و الإيجاب الذي هو جزء العقد معدوم حال القبول، و بعد أن كان المؤثر هو العقد بجميع أجزائه فانعدام بعض اجزائه حال تأثيره كانعدامه باجمعه في اشكال تأثير المعدوم في الموجود، و لا وحدة اتصالية بين الإيجاب و القبول حقيقة، لأن الإيجاب فعل البائع و القبول فعل المشتري و انما الاتصال بينهما عرفي لا حقيقي، فاشكال لزوم المقارنة بين المؤثر و أثره موجود لئلا يؤثر المعدوم في الموجود.

فاتضح: انه لا اختصاص للإشكال بالشرط المتأخر، بل يجري في الشرط و المقتضى المتقدمين المعدومين حال حصول الاثر، لأن الملاك في الإشكال تأثير المعدوم في الموجود و هو كما يكون في الشرط المتأخر بوجوده عن وجود المشروط كذلك يتأتى في المقتضي و الشرط المتقدمين المعدومين حال حصول الأثر.

و قد عرفت أن كل عقد أجزاؤه غير مجتمعة في الزمان مع زمان تأثيره، و لا بد من مقارنة أجزاء العلة بمقتضيها و شرطها في الزمان لوجود المعلول لعدم إمكان تأثير المعدوم في الموجود.

قوله: «و الاجازة في صحة العقد على الكشف كذلك» لا يخفى ان الاجازة مبتدأ و خبره كذلك: أي ان الإشكال لا يختص بغسل المستحاضة الذي هو من شرط المأمور به بل يتأتى في شرائط الوضع، لأن الاجازة على الكشف من الشرط المتأخر.

قوله: «لتصرمها»: أي لتصرم أجزائه «حين تأثيره مع ضرورة اعتبار مقارنتها»: أي ان اللازم في المؤثر ان يكون بجميع أجزائه موجودا في حال تأثيره لأن انعدام بعض المركب كانعدامه باجمعه في إشكال تأثير المعدوم في الموجود، فلا بد من التقارن الزماني بين أجزاء العلة و معلولها و ان كان لكل جزء من الأجزاء تقدم في الطبع على المعلول.

ص: 36

إلا أن لتصوره دخلا في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك المتقدم أو المتأخر.

و بالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية، كان من مبادئه بما هو كذلك تصور الشي ء بأطرافه، ليرغب في طلبه و الأمر به، بحيث لولاه لما رغب فيه و لما أراده و اختاره، فيسمى كل واحد من هذه الأطراف- التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه و إرادته- شرطا، لأجل دخل لحاظه في حصوله، كان مقارنا له أو لم يكن كذلك، متقدما أو متأخرا، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطا، كان فيهما كذلك، فلا إشكال (1).

______________________________

(1) حاصل مرامه (قدس سره) في المقام الأول- الذي يكون جوابا عن شرائط التكليف- ان التكليف ليس هو إلّا إيجاد الإلزام من الآمر بداعي تحريك الغير إلى متعلق الأمر، و هذا الإلزام من الآمر بما هو فعل من أفعال الآمر و من الامور التكوينية الاختيارية للآمر و أما وصفه بالتشريعية فانما هو بلحاظ كون ايجاد متعلقه ليس من افعال الآمر بل من افعال المكلف، فهو باعتبار متعلقه تشريعي لا باعتبار ذاته فانه باعتبار ذات الامر هو فعل مباشري للآمر كسائر افعاله المباشرية الاختيارية له.

و من الواضح- أيضا- ان كل فعل اختياري مسبوق بمبادئه التي من جملتها تصوره و التصديق بفائدته. و لا ريب- أيضا- ان شرائط تحقق الشي ء ليست هي علته الفاعلية، لوضوح ان العلة الفاعلية للشي ء هو الفاعل و الشرائط تكون من متممات فاعلية الفاعل، فشرائط التكليف من متممات فاعلية الآمر و ايجاده لهذا التكليف، و معنى كونها من متممات ايجاد الفاعل الذي هو الآمر لهذا التكليف هو دخالتها في المصلحة المترتبة على هذا التكليف لا نفس المصلحة المترتبة، و إلا لرجعت هذه الشرائط إلى العلة الغائية، و المفروض أنها من الشرائط لا من العلل، و لما كانت من

ص: 37

.....

______________________________

شئون العلة الغائية و لواحقها و كل ما هو من شئون شي ء و من توابعه لا بد و ان يكون من سنخ ذلك الشي ء.

و من الواضح ان دخالة العلة الغائية في الشي ء انما هو دخالة تصورها و التصديق بها في العلية، لأن العلة الغائية متقدمة على الشي ء بتصورها و التصديق بها في عالم الفكر و متأخرة عن الشي ء في مقام وجودها و ترتبها عليه في الوجود الخارجي، و لذا يقولون: ان العلة الغائية أول الفكر و آخر العمل.

فتبين مما ذكرناه: ان شرائط التكليف المتقدمة بوجودها الخارجي هي من الشروط المقارنة كالشروط المقارنة بوجودها و المتأخرة بوجودها الخارجي- أيضا- من المقارنات للمعلول المشروط بها، لأن دخالتها فيه إنما هو لدخالة تصورها و التصديق بها في حصول المشروط، و تصورها و التصديق بها مقارن لحصول المشروط لا متقدم و لا متأخر، لأن تصور الشي ء و التصديق به مقارن لإرادته التي هي الجزء الاخير من العلة المحركة للشي ء.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: ان الشروط من لواحق العلة الغائية، و العلة الغائية لتصورها و التصديق بها دخل في تحقق الشي ء، و لا بد و أن يكون شئون الشي ء و لواحقه من سنخه فتكون الشروط كالعلة الغائية لتصورها و للتصديق بها دخالة في وجود المشروط، فالذي يتوقف عليه المشروط لحاظها لا وجودها لأن المعلول إنما يتوقف على لحاظ العلة الغائية لا على وجودها الخارجي، و لحاظ الشروط سواء كانت متقدمة بوجودها أو متاخرة بوجودها هو من مقارنات وجود المشروط، فما هو الشرط في الحقيقة الذي هو اللحاظ هو مقارن، و ما ليس بشرط هو المتقدم و المتأخر، لأن هذه الشروط ليست بوجودها شرط بل بتصورها و التصديق بها، و تصورها و التصديق بها مقارن لا متقدم و لا متأخر- فلا يلزم انخرام القاعدة العقلية في الشروط الشرعية المتقدمة بوجودها أو المتأخرة كذلك، لأن ما هو المتأخر و المتقدم و هو وجودها الخارجي، فليس هو بشرط حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود،

ص: 38

.....

______________________________

و ما هو شرط و هو لحاظها و التصديق بها فهو مقارن و ليس بمعدوم لانه ليس بمتقدم و لا متأخر. هذا إذا كان الحكم هو البعث المنشأ بأمر المولى كما هو الظاهر من عبارته في قوله: «و بالجملة حيث كان الامر من الافعال الاختيارية» و هو البعث المنشأ فإنه فعل من افعال الشخص الآمر الاختيارية كسائر أفعاله فمن جملتها نفس امره، فاذا كان الأمر من أفعال الآمر الاختيارية و كل فعل اختياري مسبوق بمبادئه التي من جملتها تصوره و تصور غايته و التصديق بها، و قد عرفت ان الشروط من شئون و لواحق العلة الغائية فتؤول شرطيتها إلى لحاظها و تصورها و هو من المقارنات- كما مر بيانه- و هذا مراده من قوله: «كان من مبادئه بما هو كذلك»: أي بما هو فعل اختياري مسبوق بمبادئه التي منها «تصور الشي ء باطرافه ليرغب في طلبه و الأمر به» و الرغبة في طلبه انما هي للتصديق بغايته و لواحقها و شئونها «بحيث لولاه»:

أي لو لا تصوره و لحاظه باطرافه و ما يترتب عليه من مصالحه و شئونها «لما رغب فيه و لما أراده» فإن الرغبة التي هي نشوء للارادة انما تحصل من تصور الشي ء و تصور ما يترتب عليه و شئونه.

فاتضح ان الشرط هو اللحاظ و التصديق بالغاية و شئونها، و هذا هو الشرط في الحقيقة فلأجل هذا التصور الذي هو الصورة لهذه الأطراف «فيسمى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه و إرادته شرطا لأجل دخل لحاظه»: أي لحاظ ذلك المسمى بالشرط في الشرطية، لا أن يكون لوجوده في الخارج الدخل في الشرطية بل انما سمي شرطا لأن صورته التي هي وجود ماهيته بالوجود الذهني الذي هو المناسب لسنخ الموجودات النفسية هو الشرط في الحقيقة لا مطابق الصورة الذي هو الوجود الخارجي، فهذا الوجود بعد خروجه في الحقيقة عما هو الشرط واقعا لا فرق فيه سواء «كان» هذا الوجود الخارجي «مقارنا» للمشروط «أو لم يكن كذلك»: أي بان كان «متقدما أو متأخرا».

ص: 39

و كذا الحال في شرائط الوضع مطلقا و لو كان مقارنا، فإن دخل شي ء في الحكم به و صحة انتزاعه لدى الحاكم به، ليس إلا ما كان بلحاظه يصح انتزاعه، و بدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن و غيره بتصوره و لحاظه و هو مقارن، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن؟! فتأمل تعرف (1).

______________________________

و المقارن و المتقدم و المتأخر تشترك جميعها في كون لحاظها شرطا لا نفسها بوجودها الخارجي «فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطا» لا نفس وجوده الخارجي «كان» الحال «فيهما»: أي في المتأخر و المتقدم «كذلك فلا اشكال» من لزوم تأثير المعدوم في الموجود، لأن ما هو الشرط في الحقيقة هو لحاظ ما يسمونه شرطا و هو وجوده الذهني لا الخارجي، و وجوده الذهني مقارن في الجميع و لا فرق فيه بين المقارن و المتقدم و المتاخر، فهو من تأثير الموجود في الموجود لا المعدوم في الموجود- فاتضح الجواب عن الاشكال فيما إذا كان التكليف و الحكم هو نفس امر الآمر و البعث المنشأ.

و أما إذا كان الحكم و التكليف لبا هو الارادة و الإنشاء ككاشف عما هو الحكم- فالجواب اوضح، لأن الارادة التي هي من الموجودات النفسية فهي من الموجودات الذهنية لا الخارجية فلا بد و ان تكون بجميع ما يتعلق بها من شرائطها من سنخ وجودها و وجودها ذهني فيلزم ان تكون شروطها ذهنية، و إلا فلا مسانخة بين الشرط و المشروط، فيلزم أن يكون تصور هذه المسميات بالشروط هي الشروط لا نفس وجوداتها الخارجية، لأن تصورها و التصديق بها هو المسانخ للارادة دون وجوداتها الخارجية.

(1) الجواب عن الإشكال في الحكم الوضعي هو الجواب عن الحكم التكليفي، و قد عرفت ان القوم حرروا هذا الاشكال في الحكم الوضعي في البيع الفضولي في مسألة الاجازة من المالك المتأخرة عن عقد الفضولي الذي ينسب إلى المشهور ان الاجازة من

ص: 40

.....

______________________________

المالك مؤثرة في النقل و الانتقال من حين العقد لا من حين الاجازة و ليست الاجازة كاشفة محضة: بان لا يكون لها مساس في التأثير اصلا، بل هي كالتراضي من المتعاقدين المقارن للعقد الذي لا اشكال عندهم في انه له مساس في تأثير العقد في النقل و الانتقال، و لذلك اشكل عليهم الامر: في ان الاجازة مع كونها متأخرة عن زمان وقوع العقد كيف يمكن ان يكون لها مساس في تأثير العقد من حينه و هو من تأثير المعدوم في الموجود- فاجاب بعضهم: بان الشرط هو عنوان التعقب بالرضا المتأخر لا نفس الرضا المتأخر، و عنوان التعقب مقارن للعقد فإن العقد الذي تتعقبه الاجازة موصوف من حين وقوعه بانه عقد تتعقبه الاجازة المتأخرة عنه، فالشرط مقارن لا متأخر.

و اجاب المصنف عنه بما أجاب به عن شرائط التكليف المتأخرة عن التكليف بالزمان، و لعله انما لم يجب بعنوان التعقب لما يمكن ان يرد عليه: بان عنوان التعقب من العناوين المتضايفة، و المتضائفان متكافئان بالقوة و الفعلية، فوصف العقد بكونه متعقبا بالاجازة مضايف لوصف الاجازة بكونها متعقبة للعقد. فكيف يمكن ان يكون العقد موصوفا بالفعل بالتعقب في حين وقوعه مع كون مضايفه التي هي الاجازة غير موصوفة بالفعل؟ لعدم وجودها فهي متعقبة بالقوة لا بالفعل، فلا يوصف العقد بالفعل بكونه متعقبا بالاجازة إلا بعد تحقق الاجازة فلا يكون ما هو الشرط مقارنا في الزمان للمشروط.

نعم العقد موصوف بالتعقب بالقوة لا بالفعل و لا بد في تحقق الشرط من تحققه بالفعل لا بالقوة.

و على كل فجواب المصنف عن الاشكال: بان الاجازة التي هي بمنزلة الرضا المقارن للعقد ليست شرطا لوجودها الخارجي لحكم الحاكم بالملكية و ترتبها على نفس العقد، بل الشرط في الحقيقة هو تصورها و التصديق بها فالشارع أو العرف الجاعل للملكية مترتبة على تحقق العقد المشروط بالاجازة قد تصور العقد و صدق

ص: 41

.....

______________________________

بفائدة ترتب الملكية عليه و تصور ما له دخل في ترتب الملكية على العقد، و حكم على العقد الذي يجيزه المالك بترتب الملكية عليه، فما هو الشرط لترتب الملكية على العقد هو تصور الحاكم و تصديقه بترتب الملكية على العقد، و تصوّره و تصديقه من المقارن لا من المتأخر، فما هو المتأخر الذي هو نفس وجود الاجازة في الخارج ليس بشرط و ما هو الشرط و هو تصور الحاكم و تصديقه بدخالة الاجازة المتأخرة بوجودها لا بتصورها فهو مقارن للعقد و ليس بمتأخر عنه، فالعقد الذي يجيزه المالك هو المتصور للحاكم و هو المؤثر في النقل و الانتقال و هو مصداق من مصاديق كلي العقد الذي رتب الحاكم الشرعي الانتقال عليه و حصول الملكية به، و هذا العقد الذي يجيزه المالك بمجرد حصوله هو مصداق لعقد تصوره الحاكم و صدق به و صدق بدخالة الاجازة في ترتب أثره، فما هو الشرط و هو تصور الاجازة و التصديق بها فهو مقارن للعقد المتصور، فالعقد الذي هو موضوع للاثر هو وجود العقد ذهنا عند الحاكم، و شرطه و هو تصور دخالة الاجازة فيه- أيضا- ذهني متصور مقارنا لتصور العقد فلا انخرام للقاعدة العقلية، إذ ليس للمعدوم تأثير في الموجود و لذا قال (قدس سره):

«و كذا الحال في شرائط الوضع مطلقا»: أي سواء كانت الشرائط متقدمة أو متأخرة أو مقارنة فإن الداخل في التأثير في جميعها هو تصورها و وجودها الذهني لا وجودها الخارجي، فالشرط «و لو كان مقارنا» للعقد كالتراضي من المتعاقدين المالكين المقارن تراضيهما لعقدهما للايجاب من الموجب و للقبول من القابل دخالته في العقد انما هو بدخالة تصوره و التصديق به في العقد المتصور للحاكم الشرعي أو العرف موضوعا للأثر، فالشرط و المشروط كلاهما من الموجودات الذهنية و هما متقارنان بوجودهما الذهني، فلا فرق بين الشروط المتأخرة بوجودها الخارجي أو المتقدمة أو المقارنة، فإن ما هو الشرط فيها جميعا وجودها الذهني و هو مقارن في الجميع و ليس بمتقدم و لا متاخر و لذا قال (قدس سره): «فإن دخل شي ء في الحكم به» كدخالة الرضا و الاجازة في الحكم بالنقل و الانتقال «و صحة انتزاعه»: أي

ص: 42

و أما الثاني: فكون شي ء شرطا للمأمور به ليس إلا ما يحصّل لذات المأمور به بالاضافة إليه وجها و عنوانا به يكون حسنا أو متعلقا للغرض، بحيث لولاها لما كان كذلك، و اختلاف الحسن و القبح و الغرض باختلاف الوجوه و الاعتبارات الناشئة من الإضافات، مما لا شبهة فيه و لا شك يعتريه، و الاضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى على المتأمل، فكما تكون إضافة شي ء إلى مقارن له موجبا لكونه معنونا بعنوان، يكون بذلك العنوان حسنا و متعلقا للغرض، كذلك إضافته إلى متأخر أو متقدم، بداهة أن الاضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا، فلو لا حدوث المتأخر في محله، لما كانت للمتقدم تلك الاضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه و الامر به، كما هو الحال في المقارن أيضا، و لذلك أطلق عليه الشرط مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلا، لان المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس

______________________________

انتزاع الحكم بالملكية «لدى الحاكم به» سواء كان الحاكم الشارع أو العرف بالنقل و بالملكية المترتبة على العقد المنتزعة من ملك المتعاقدين للعوضين هذه الدخالة عند الحاكم في حكم «ليس إلّا ما كان بلحاظه يصح انتزاعه و بدونه لا يكاد يصح اختراعه» فالعقد الذي يجيزه المالك مصداق لما هو موضوع الاثر عند الحاكم لانه العقد الذي تصوره و تصور جميع ما له دخل فيه، و العقد الذي لا يجيزه المالك ليس بمصداق لما تصوره فلا يكون موضوعا للاثر، فدخالة الشرط انما هي دخالة بحسب اللحاظ لا بحسب الوجود الخارجي و لذا قال: «فيكون دخالة كل من المقارن و غيره» من الشرط المتقدم و المتاخر انما هي «تصوّره و لحاظه» و تصوره و لحاظه «مقارن» لا متقدم و لا متاخر «فاين انخرام القاعدة العقلية» من لزوم تأثير المعدوم في الموجود «في» الشرط «غير المقارن».

ص: 43

إلا طرف الاضافة الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن، و قد حقق في محله أنه بالوجوه و الاعتبارات، و من الواضح أنها تكون بالاضافات.

فمنشأ توهّم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر، و قد عرفت أن إطلاقه عليه فيه، كإطلاقه على المقارن، إنما يكون لاجل كونه طرفا للاضافة الموجبة للوجه، الذي يكون بذاك الوجه مرغوبا و مطلوبا، كما كان في الحكم لاجل دخل تصوره فيه، كدخل تصور سائر الاطراف و الحدود، التي لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صح عنده الوضع. و هذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الاشكال، في بعض فوائدنا، و لم يسبقني إليه أحد فيما أعلم، فافهم و اغتنم (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان ما سلكه في الجواب عن إشكال شرائط الحكم التكليفي و الحكم الوضعي المتأخرة عن الحكم زمانا أو المتقدمة عليه زمانا المعدومة حال وجوده بارجاع الشرط بوجوده الخارجي إلى الشرط بوجوده الذهني فتكون الشروط كلها من المقارنات- لا يتاتى هذا المسلك في الجواب عن الشروط المتأخرة و المتقدمة التي هي شروط لحصول الاثر من الواجب، لوضوح ان الأثر مترتب على الواجب بوجوده الخارجي، و لا ترتب للاثر على الواجب بوجوده الذهني اصلا فلا بد و ان تكون شروط الواجب لها دخل بوجودها الخارجي، فلذا سلك مسلكا آخر للجواب.

و حاصله: انّ المصالح الداعية للامر بالواجب:

تارة: تكون مترتبة على ذات الواجب كترتب الاحراق على ذات النار و مثل هذا لا يعقل ان يكون شرط التأثير فيه متقدما معدوما حال حصول الاثر و لا متاخرا حال حصوله، لعدم تعقل دخالة المعدوم في التأثير بل لا بد ان تكون الشروط من المقارنات.

ص: 44

.....

______________________________

و اخرى: لا تكون المصالح المترتبة على الواجب من قبيل تأثير النار في الاحراق مربوطة بذات النار من دون دخل لكون النار معنونة بعنوان اصلا، بل تكون المصالح المترتبة عليه لتعنون الواجب بعنوان حسن، فالحسن اولا و بالذات هو العنوان، و المعنون انما يكون حسنا لاضافته إلى ذلك العنوان بحيث يكون منطبقا عليه ذلك العنوان.

و لا اشكال ان ذات المعنون بالعنوان الحسن: تارة لا تحتاج في مقام انطباق عنوان الحسن عليها الا إلى اضافتها إلى المولى، مثلا الركوع يصدق عليه عنوان تعظيم المولى الذي هو الحسن بمجرد كونه ركوعا للمولى و خضوعا له.

و اخرى تكون ذات المعنون تحتاج إلى انطباق عنوان الحسن عليها إلى اضافتها إلى حيثية تكون بواسطة تلك الحيثية منطبقة لعنوان ذلك العنوان هو المعنون المنطبق عليه عنوان الحسن، كمثل ضرب اليتيم فإن ضرب اليتيم انما يتعنون بعنوان حسن حيث يضاف و يتحيث بحيثية كونه تأديبا له، و تاديب اليتيم هو المعنون بالعنوان الحسن.

و على كل فالمعنون يرتبط عنوان حسنه بتحيثه باضافته إلى شي ء يكون بواسطة تلك الاضافة مصداقا لعنوان الحسن، فيدور حسنه مدار اضافته و تحيثه بتلك الإضافة و الحيثية، و حصول الاضافة و الحيثية للشي ء الموجبة لحسنه ليست كالمقاربة بالنسبة إلى النار في تأثيرها للاحراق، فإن الاضافة و الحيثية تحصل للشي ء بنسبته إلى ذلك الشي ء، و لا تتوقف نسبته اليه على المقارنة بينهما بل ربما يحصل العنوان باضافة الشي ء إلى مقارن له كاضافة الضرب إلى عنوان التاديب فانه لا بد من المقارنة بين الضرب و قصد التأديب، فلا يعقل ان يكون الضرب لليتيم بلا مقارنته لقصد التأديب معنونا بالتأديب.

و ربما يحصل باضافة الشي ء إلى شي ء متقدم عليه غير موجود حال وجوده، ككون السلام جوابا فانما يتعنون بعنوان كونه جوابا حيث يتقدم عليه سلام من مبتدئ له بالسلام، فالسلام الثاني يتعنون بكونه جوابا باضافته إلى سلام متقدم عليه منعدم حال حصول السلام الثاني.

ص: 45

.....

______________________________

و ثالثة تحصل الاضافة و الحيثية بنسبته إلى أمر متأخر لم يحصل إلّا بعد حصول المضاف اليه، كخروج الشخص لاستقبال قادم فإن حركته و خروجه يتعنون بعنوان كونه استقبالا للقادم قبل مجي ء القادم، فاذا كانت الشروط للواجب انما هي لأجل حصول اضافة و حيثية للواجب باضافته و نسبته إلى امر خارج عنه تكون الاضافة موجبة لتعنونه بعنوان حسن فتلك الاضافة هي الشرط في كون المضاف إلى ذلك الشي ء الخارج عنه متعنونا بالعنوان الحسن، و تلك الاضافة تحصل و ان كان وجود المضاف اليه متقدما أو متاخرا كما مر في السلام الجوابي و الحركة بقصد استقبال القادم، فيكون ما هو الشرط مقارنا دائما لا متقدما و لا متاخرا لأن الشرط ليس هو المضاف اليه حتى يقال انه معدوم حال وجود المضاف فيلزم تأثير المعدوم في الموجود، بل الشرط هو تلك الحيثية التي توجد في المضاف المنسوب إلى ما أضيف اليه، و تلك الحيثية فعليتها و حصولها مربوطة باضافة المضاف إلى المضاف اليه بوجوده الخارجي في ظرفه، فالخروج يكون استقبالا بالفعل باضافته إلى قدوم القادم الذي يحصل في ظرفه الّا ان وصف الخروج بكونه استقبالا- و هو حسن حيث يكون للعالم موجود و متحصل بالفعل إذا كان قدوم العالم- يحصل في ظرف مجيئه.

نعم، إذا لم يحصل قدوم العالم في ظرفه لا يكون الخروج استقبالا، فغسل المستحاضة ليلا شرط لحصول امتثال الصوم الواجب ليس بوجوده الخارجي، بل الشرط اضافة صوم المستحاضة اليه، و هذه الاضافة حاصلة بالفعل فيما إذا كانت المستحاضة تغتسل في الليل.

نعم، إذا لم تغتسل المستحاضة ليلا لا يكون للصوم تلك الإضافة و الحيثية، فما هو الشرط المربوط به تعنون الصوم بالعنوان الذي اوجب انطباق الحسن عليه مقارن لوجود الصوم ليس بمتأخر عنه و هو اضافة الصوم و تحيثه بنسبته إلى الغسل في الليل، و أما الغسل في الليل بنفسه فليس شرطا للصوم فلا يلزم تأثير المعدوم في الموجود و لا تنخرم القاعدة العقلية، و اذا كان الشرط واقعا هو الإضافة و الحيثية التي تلحق

ص: 46

.....

______________________________

المضاف بنسبته إلى المضاف اليه و هي موجودة و حاصله بالفعل و ان كان المضاف اليه غير موجود إما لتقدمه و انعدامه أو لانه بعد لم يوجد، فلا يختلف حال هذا الشرط الذي هو الإضافة و الحيثية بالنسبة إلى الأمر الثاني الذي تضاف اليه سواء كان وجوده مقارنا للمضاف أو متقدما عليه أو متأخرا عنه.

فإذا دل الدليل على ان صحة صوم المستحاضة مشروط بغسلها في الليل المتأخر عن يوم الصوم فلا بد و ان تكون شرطيته ليست كشرطية المقاربة لتأثير النار في الإحراق، بل شرطيته ترجع إلى ان الصوم المضاف إلى الغسل في الليل متحيث بحيثية لها الدخل في انطباق عنوان حسن عليه، و الصوم الذي يتعقبه الغسل في الليل في حين وقوعه واجد لما هو الشرط فيه و هو تحيثه بالحيثية التي لها دخالة في حسنه قبل وقوع الغسل، كما عرفت مثال ذلك في اتصاف الخروج بعنوان كونه استقبالا قبل قدوم من له الاستقبال.

نعم، إذا لم تغتسل في الليل لا يكون الصوم في حين وقوعه متحيثا بتلك الحيثيّة، و لعله إلى هذا يرجع ما هو المعروف عن المشهور: بان الأسباب الشرعية معرفات باعتبار كشفها عن كون المضاف اليها متحيثا بالحيثية التي لها الدخالة في الأمر به و طلبه.

هذا حاصل ما أجاب به عن الاشكال في الشروط المتأخرة في الزمان عن وجود المشروط بها أو المتقدمة في الزمان عليه المعدومة حال وجوده.

و المتحصل من عبارته (قدس سره) تمهيدا للجواب عن الإشكال أمور ثلاثة:

الأول: ما أشار اليه بقوله: «كون شي ء شرطا للمامور به ليس إلّا ما يحصّل لذات المأمور به بالإضافة اليه وجها و عنوانا به يكون حسنا أو متعلقا للغرض».

و حاصله: ان الشروط المذكورة للواجب ليست من قبيل المقاربة بالنسبة إلى النار، بل ترجع إلى كونها موجبة لأن يحصل لذات المأمور به بواسطة اضافته اليها وجه و عنوان حسن دعا إلى طلبه الامر به.

ص: 47

.....

______________________________

و قوله: «أو متعلقا للغرض» إشارة إلى ان الاضافة:

تارة، موجبة لتعنون الواجب بعنوان حسن، كما هو مذهب العدلية في تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد الموجبة لتعنون الشي ء بالعنوان الحسن أو القبيح للأمر به و النهي عنه.

و اخرى، تكون الاضافة موجبة لكون الواجب بواسطة تلك الاضافة متعلقا للغرض الملائم للمولى، و هو مذهب الاشاعرة المنكرين للحسن و القبح العقليين، فانهم يقولون: بان الأحكام تابعة للاغراض لا لعنوان الحسن و القبيح، أو انه إشارة إلى الواجبات غير الشرعية بل مطلق الواجبات الصادرة من الموالي إلى عبيدهم فإنها لا تناط بالحسن و القبح، بل هي منوطة بالغرض، و الاغراض كالمصالح للحيثيات و الاضافات دخل في ترتبها على الواجبات التي تتعلق بها أوامر الموالي فإن الخروج الاستقبالي كما يكون مامورا به شرعا لكونه استقبالا لعالم من علماء المذهب تعظيما للشعائر الدينيّة، كذلك يكون موافقا لغرض المولى يدعوه ان يأمر عبيده بالاستقبال.

الثاني: ما أشار اليه بقوله: «و اختلاف الحسن و القبح و الغرض باختلاف الوجوه و الاعتبارات الناشئة من الاضافات مما لا شبهة فيه».

و حاصله: ان الشي ء الواحد يختلف بحسب ما يضاف اليه فربما يتحيث بحيثية تقتضي حسنه كتحيث ضرب اليتيم باضافته لقصد التأديب الموجبة لتعنونه بالعنوان الحسن، و ربما يضاف إلى التشفي الموجبة لكونه ظلما و قبيحا، فالصوم المضاف إلى الغسل الليلي يكون حسنا و الصوم غير المضاف إلى غسل في الليل لعدم فعل المستحاضة الغسل لا يكون معنونا لعنوان حسن.

الثالث: ما أشار اليه بقوله: «و الاضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت اصلا».

و حاصله: ما عرفت من ان الاضافة تكون موجودة و ان كان ما اضيفت اليه غير موجود، فما هو الشرط و هو الاضافة فهو مقارن على حد سواء في ما يضاف إلى

ص: 48

و لا يخفى أنها بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع، و بناء على الملازمة يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن و السابق، إذ بدونه لا تكاد تحصل الموافقة، و يكون سقوط الامر بإتيان المشروط به مراعى بإتيانه، فلولا اغتسالها في الليل- على القول بالاشتراط- لما صح الصوم في اليوم (1).

______________________________

المقارن في الوجود أو المتقدم أو المتأخر في الوجود، فالشرط دائما مقارن فلا انخرام للقاعدة العقلية.

و اتضح بعد تمامية هذه الامور انه لا تأثير للمعدوم في الموجود بل التأثير لموجود و هو الاضافة المقارنة في موجود مقارن و هو الواجب الذي يتعنون بالعنوان الحسن بواسطتها.

و اتضح مما ذكره ان هذه التي يطلقون عليها اسم الشروط المتأخرة بوجودها عن المشروط أو المتقدمة عليه انما اطلق عليها اسم الشرط لكونها وقعت طرفا للاضافة الدخيلة في الحسن، لا لأن لذاتها دخالة في التأثير كدخالة المقاربة في تأثير النار.

و قد عرفت انه لا يضر تأخرها بذاتها في الوجود أو تقدمها في الوجود في حصول الاضافة، و الى هذا أشار بقوله: «فمنشأ توهم الانخرام اطلاق الشرط على المتأخر».

و قد عرفت ان الشرط هو الإضافة لا نفس المضاف اليه المتأخر.

(1) المراد ان جميع اقسام مقدمة الواجب المتقدمة و المتأخرة و المقارنة داخلة في محل الكلام، و ليس مراده دخول مقدمة الحكم التكليفي أو الوضعي.

نعم، في خصوص مقدمة الحكم الوضعي ربما تكون واجبة إذا وجب ايجاد الحكم الوضعي بنذر و نحوه. و على كل فمقدمة الواجب بجميع اقسامها داخلة فيجب الغسل الليلي سواء كان شرطا متقدما لصوم الغد أو متأخرا لصوم اليوم أو مقارنا كالطهارة للصلاة- بناء على الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها- لأن

ص: 49

الامر الثالث: في تقسيمات الواجب (1).

فى تقسيمات الواجب

تقسيم الواجب إلى المطلق و المشروط
اشارة

منها: تقسيمه إلى المطلق و المشروط، و قد ذكر لكل منهما تعريفات و حدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، و ربما أطيل الكلام بالنقض و الإبرام (2) في النقض على الطرد و العكس، مع أنها

______________________________

هذه المسماة بالشروط و ان كانت ليست بنفسها لها دخالة في التأثير لكنها لها دخالة في تحقق الاضافة و الحيثية التي هي الشرط، فإنها ما لم تحصل في ظرفها سواء كانت متقدمة أو متأخرة أو مقارنة لا تحصل الاضافة، و ما له الدخالة في تحقق الشرط فانه كالشرط نفسه- بناء على وجوب مقدمات الواجب- و عبارة المصنف واضحة.

(1) قد عقد الأمر الثاني لتقسيمات المقدمة و حيث انه سيأتي ان المقدمة تتبع ذيها في الاطلاق و الاشتراط لذلك عقد هذا الامر الثالث لتقسيمات الواجب.

(2) لا يخفى ان معنى الواجب المطلق و المشروط هو كون الوجوب تارة مطلقا، و اخرى مشروطا، فهو يلحق الوجوب اولا و الواجب ثانيا.

و قد ذكر القوم تعريفات للمطلق و المشروط.

- منها: ان المطلق ما لا يتوقف وجوبه بعد الشرائط العامة- و هي البلوغ، و العقل، و القدرة، و العلم- على شي ء.

و المشروط ما يتوقف وجوبه بعد الشرائط العامة على شي ء.

و يرد عليه: ان الصلاة عندهم من مصاديق الواجب المطلق، و من الواضح ان وجوبها يتوقف على الوقت.

- و منها: ما ينسب إلى المشهور، و هو ان الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده، كالصلاة فانها لا يتوقف وجوبها على الستر و الطهارة- مثلا- مع ان وجودها متوقف عليها.

و المشروط ما يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده، كالحج فانه يتوقف وجوبه على الاستطاعة المتوقف عليها وجود الحج أيضا.

ص: 50

كما لا يخفى (1) تعريفات لفظية لشرح الاسم، و ليست بالحد

______________________________

و يرد عليه- أيضا- ان الصلاة التي هي من الواجب المطلق عندهم يتوقف وجوبها على الوقت المتوقف عليه وجود الصلاة- أيضا-.

- و منها: ما ذكره في الفصول 3] و يظهر انه له و هو ان الواجب المطلق ما كان وجوبه غير معلق على أمر غير حاصل سواء كان معلقا على امر غير حاصل و لكنه حصل، أو لم يكن معلقا على شي ء. و الاول كالحج بعد الاستطاعة فانه و ان كان قبل الاستطاعة متعلقا على الاستطاعة فهو من المشروط و لكنه بعد الاستطاعة يكون مطلقا و غير معلق على شي ء، و الثاني كوجوب المعرفة فانه غير معلق على شي ء غير الشرائط العامة، و الواجب المشروط ما كان معلقا على امر غير حاصل كالحج قبل الاستطاعة.

و يرد عليه: ان الواجب المطلق و المشروط وصفان للواجب المعلق و غير المعلق، و المعلق لا ينقلب غير معلق إذا تحقق ما كان معلقا عليه، فالحج من الواجب المشروط قبل الاستطاعة و بعد الاستطاعة، هذا اولا.

و ثانيا: ان هذا مبني على إمكان الواجب المعلق، و ان الحج بعد الاستطاعة يكون الخطاب به فعليا و ان كان وقت ادائه غير حاصل، و أما بناء على عدم امكان الواجب المعلق و انه لا يعقل الخطاب قبل وقت يمكن فيه إتيانه فلا يكون الحج بعد الاستطاعة مطلقا و انما يكون مطلقا عند حضور وقت ادائه.

(1) أي غير مطرد و غير منعكس، و المراد من غير المطرد كونه غير جامع، و من غير المنعكس كونه غير مانع، و انما قيل للتعريف غير الجامع انه غير مطرد لأن الغرض من التعريف هو مساواة المحدود و حدّه، لوضوح ان الحد بيان ماهية المحدود تفصيلا،

ص: 51

لا بالرسم (1)، و الظاهر أنه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق و المشروط، بل يطلق كل منهما بما له من معناه العرفي، كما أن الظاهر

______________________________

كقولهم في حد الانسان هو الحيوان الناطق، و لا يعقل عدم المساواة بين الماهية و بين جنسها و فصلها فلا بد و ان يكون تعريف الماهية جامعا لجميع افرادها، فاذا خرج بعض افرادها عنها فلا يكون حدها جامعا لجميع ما يصدق عليه من افرادها. فاذا لا يكون الحد جاريا و مطردا على سنن المحدود و اطراده في جميع افراده.

و منه يتضح اطلاق غير المانع على غير المنعكس، لانه بعد ان كان اللازم المساواة بين الحد و المحدود فلا بد ان يكون كلما صدق عليه الحد يصدق عليه المحدود، فاذا كان الحدّ صادقا على غير ما يصدق عليه المحدود فلا يكون مانعا عن دخول غير افراد المحدود في المحدود، و لا بد في المتساويين من التساوي بحيث لو بدل المحمول فيها بالموضوع لكانت القضية صادقة كقولهم في حدّ الانسان بانه الحيوان الناطق في مقام تعريفه وحده فلازمه المساواة التامة بين الانسان و الحيوان الناطق، فيصح ان يقال:

كل انسان حيوان ناطق، و لا بد ان يصح- أيضا- ان يقال: كل حيوان ناطق انسان، فاذا كان الحدّ يصدق على غير افراد المحدود لا تصدق القضية لو بدّل محمولها و جعل موضوعا، فلو عرّف الانسان بانه حيوان من دون الفصل لما كان هذا التعريف صحيحا لو قيل كل حيوان انسان، فاذا كان الحدّ غير مانع من دخول غير المحدود لا تصدق القضية. فالمراد من غير المنعكس هو تبديل المحمول و جعله موضوعا: أي جعل الحد موضوعا و المحدود محمولا، و عدم صدق القضية بنحو الكلية- حينئذ- انما هو لكونها غير مانعة من دخول غير المحدود في المحدود.

(1) قد تكرر من المصنف هذا الراي، و يأتي التصريح منه في العام و الخاص: بان التعاريف اللفظية هي الواقعة في جواب السؤال عن الشي ء بما الشارحة، لا الواقعة في جواب السؤال عنه بما الحقيقية، و التعريف الحدي أو الرسمي هو الذي يقع في جواب السؤال عن الشي ء بما الحقيقية دون ما الشارحة.

ص: 52

أن وصفي الاطلاق و الاشتراط، وصفان إضافيان لا حقيقيان، و إلا لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كل واجب ببعض الامور، لا أقل من الشرائط العامة، كالبلوغ و العقل.

فالحري أن يقال: إن الواجب مع كل شي ء يلاحظ معه، إن كان وجوبه غير مشروط به، فهو مطلق بالاضافة إليه، و إلا فمشروط كذلك، و إن كانا بالقياس إلى شي ء آخر بالعكس (1).

______________________________

و توضيح ذلك: ان السؤال عن الشي ء بحسب الترتيب الطبيعي في مقام السؤال عن الاشياء، هو ان السامع إذا سمع لفظا جاهلا به تماما فأوّل ما يتعلق غرضه بتمييزه بنحو من انحاء التمييز و بوجه ما كمن سمع لفظ العنقاء فيقول: ما العنقاء؟

فيكفي ان يقال في جوابه انها طائر، ثم يتعلق طبيعي الغرض بالسؤال عن انه هل هو موجود ام لا؟ و هذا السؤال الثاني يسمى بهل البسيطة. ثم إذا اجيب عنه بانه موجود- مثلا- ياتي السؤال الثالث: بان هذا الموجود ما حقيقته و هو المسمى بالسؤال بما الحقيقية، و حينئذ لا بد ان يجاب عنه بالحد الحقيقي. ثم ياتي السؤال بهل المركبة و لم الثبوتية و الاثباتية، و قد جمع هذه الاسئلة المحقق السبزواري بقوله:

أسّ المطالب ثلاثة علم مطلب ما مطلب هل مطلب لم 4].

و على كل فالتعاريف اللفظية المطلوب فيها شرح الاسم و تمييزه بوجه من الوجوه و هو مطلب ما الشارحة: أي التي هي لشرح الاسم فقط، و ليس المطلوب فيها التعريف بالحد الحقيقي الذي هو مطلوب ما الحقيقية.

(1) هذا مقدمة منه لقوله: كما ان الظاهر.

و حاصل مراده: ان القوم ليس مرادهم في ذكر تعريف المطلق و المشروط ان هذه التعاريف لأجل ان لهم اصطلاحا جديدا في لفظي المطلق و المشروط، بل الظاهر

ص: 53

ثم الظاهر أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه، نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة، و لا طلب واقعا قبل حصول

______________________________

انهما عندهم بما لهما من معناهما اللغوي، فالمطلق ما ليس له شرط، و المشروط ما كان له شرط، و المصداق الحقيقي للمطلق ما ليس له شرط اصلا، لكنه من المعلوم بحسب موارد اطلاق لفظ المطلق على مصاديقه لا يراد منه المطلق الحقيقي و المشروط الحقيقي، بل المراد منه المطلق و المشروط الاضافيان: بان ينظر الواجب بالنسبة لشي ء و يقاس اليه، فإن كان غير مشروط بالاضافة اليه كان مطلقا من هذه الناحية و ان كان مقيدا به كان مشروطا من ناحيته، فاذا كان المراد من المطلق و المشروط الاضافيين دون الحقيقيين جاز ان يكون الشي ء الواحد مطلقا من جهة و مشروطا من جهة اخرى، فالصلاة- مثلا- بالنسبة إلى غير الوقت- مثلا- من المطلق و من ناحيته من الواجب المشروط. و الذي يدلك على ان المراد من وصفي الاطلاق و الاشتراط هما الاضافيان دون الحقيقيين هو انه لو كان المراد منهما الحقيقيين لما صدق واجب مطلق اصلا لوضوح اشتراط كل واجب لانه مشروط بالشرائط العامة قطعا، فيلاحظ وجوب الصلاة- مثلا- مع الوضوء فحيث ان وجوبها غير مقيد بالوضوء لوضوح ان الوضوء مما يتوقف عليه الواجب: أي الصلاة لا وجوبها، فالأمر بالصلاة مطلق من هذه الناحية و لكنه بالنسبة إلى الوقت مشروط به، اذ لا وجوب للصلاة قبل الوقت فالوجوب من هذه الناحية مشروط لا مطلق، و يلاحظ الحج- مثلا- فانه بالنسبة إلى الاستطاعة وجوبه مقيد به فهو مشروط من ناحيته إذ لا وجوب للحج قبل الاستطاعة و من ناحية غيره من المقدمات كالزاد و الراحلة فهو مطلق اذ لا تقيد لوجوب الحج بتهيئة الزاد و الراحلة. و لا يخفى ان هذا إنما يتم بناء على صحة الواجب المعلق، و عبارة المصنف واضحة لا تحتاج إلى شرح.

ص: 54

الشرط، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي، ضرورة أن ظاهر خطاب إن جاءك زيد فأكرمه (1) كون الشرط من قيود الهيئة، و أن طلب الاكرام

______________________________

(1) توضيحه: انك قد عرفت ان الواجب المشروط ما كان وجوبه مشروطا بشرط، فالشرط يرجع إلى وجوب الواجب لا إلى الواجب، و لا ريب في ان ظاهر القضية يقتضي ذلك، فإن ظاهر قول الآمر: ان جاءك زيد فاكرمه هو كون طلب اكرام زيد معلقا على مجيئه، بحيث إن تحقق المجي ء تحقق طلب الاكرام و ان لم يتحقق المجي ء منه لم يتحقق طلب اكرامه، لأن الصيغة جميعها- و هي اكرم المركبة من هيئة و هي الطلب و مادة و هي الاكرام- بهيئتها و مادتها مترتبة و معلقة على المجي ء، لا أن المعلق على المجي ء هي المادة وحدها و الطلب فعلي.

و بعبارة اخرى: ان الظاهر من القضية الشرطية هي الحكم بثبوت التالي على فرض تحقق المقدم، فالتالي قبل ثبوت المقدم ليس له ثبوت تحقيقي بل ثبوته تقديري لا تحقيقي، و انما يكون حقيقيا إذا كان للمقدم ثبوت حقيقي، فما دام المقدم في مرحلة الفرض و التقدير فالتالي- أيضا- له ثبوت فرضي تقديري، فالطلب المنشأ بقوله: اكرم معلقا على فرض المجي ء قبل تحققه هو طلب انشائي، و انما يكون مصداقا للطلب الحقيقي بالحمل الشائع إذا تحقق المجي ء فقبل المجي ء هو طلب انشائي أو طلب تقديري و فعليته و حقيقيته تثبت بثبوت المجي ء.

فتحصل مما ذكرنا: ان القيد المعلق عليه في القضية الشرطية يرجع إلى الوجوب لا إلى الواجب فقط: بان يكون الوجوب فعليا و حقيقيا قبل المجي ء و المجي ء قيد للواجب وحده، و ان حال الوقت بالنسبة إلى الصلاة في قوله: إذا زالت الشمس فصل ليس حال الطهارة، لانه قبل الوقت لا طلب فعليا بالصلاة و قبل الطهارة طلب الصلاة فعلي.

ثم لا يخفى، ان القيد الراجع إلى الطلب راجع لمتعلقه أيضا، فما هو قيد للهيئة المتعلقة بالمادة فهو قيد للمادة أيضا، فالوقت الذي هو قيد للطلب المتعلق بالصلاة هو

ص: 55

و إيجابه معلق على المجي ء (1)، لا أن الواجب فيه يكون مقيدا به، بحيث يكون الطلب و الايجاب في الخطاب فعليا و مطلقا، و إنما الواجب يكون

______________________________

قيد للصلاة- أيضا- اذ لا تصح صلاة قبل الوقت، فما هو قيد للوجوب قيد للواجب- أيضا- بخلاف قيد الواجب وحده فانه ليس بقيد للوجوب، كما عرفت في ان الطهارة قيد للواجب فانها لا تصح بدون الطهارة و لكنها ليست قيدا للوجوب المتعلق بالصلاة، فإن الوجوب فعلي تام الفعلية قبل حصول الطهارة المتوقف عليها صحة الواجب، فقولهم القيد راجع للهيئة لا للمادة ليس معناه ان المادة غير مقيدة بالقيد الراجع إلى الهيئة، بل مرادهم في ان القيد لا يختص بالمادة: بان تكون الهيئة مطلقة و فعلية قبل تحقق القيد.

(1) أي ان إيجاب الاكرام و وجوبه معلق على المجي ء فقبل المجي ء لا وجوب و لا ايجاب. و لا يخفى ان عطف الايجاب على الوجوب ليس الغرض منه اختلافهما حقيقة بل هما متحدان ذاتا و مصداقا، و إنما الاختلاف بينهما بالاعتبار فإن الطلب المتعلق بشي ء باعتبار كونه منسوبا إلى الطالب و الآمر هو ايجاب منه، و باعتبار نسبته إلى متعلقه فهو وجوب.

لا يقال: قد حصل بالانشاء ايجاب من الامر و وجوب متعلق بالمادة، فكيف يكون الايجاب و الوجوب معلقا على المجي ء.

فانه يقال: الذي حصل بالصيغة هو انشاء الوجوب و ليس المراد في المقام ان هذا الانشاء هو المعلق، بل المراد ان كون هذا الانشاء مصداقا للطلب الحقيقي و البعث الفعلي هو محل الكلام، و لا اشكال ان الذي حصل بهذا الانشاء هو الطلب على تقدير المجي ء فقبل المجي ء الطلب تقديري فلا يكون مصداقا للطلب الحقيقي بالفعل و لا بعثا فعليا قبل ثبوت ما علق عليه، فالمدعى في الواجب المشروط هو كون هذا الانشاء قبل المجي ء تقديري و انما يكون فعليا و حقيقيا بعد ثبوت المجي ء و لا ملازمة بين انشاء الحكم و بين فعليته و صيرورته بعثا فعليا حقيقيا.

ص: 56

خاصا و مقيدا، و هو الإكرام على تقدير المجي ء، فيكون الشرط من قيود المادة لا الهيئة، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة- أعلى الله مقامه- (1) مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة واقعا، و لزوم كونه من قيود

______________________________

فالمدعي لصحة الواجب المشروط يقول: ان هذا الانشاء ثبوته قبل ما علق عليه ثبوت تقديري و انما يكون وجوبا حقيقيا فعليا بعد ثبوت ما علق عليه.

و المنكر للواجب المشروط- كما يظهر من تقريرات الشيخ الأنصاري (قدس سره) يقول: هو كون الوجوب فعليا و حقيقيا، و المجي ء يرجع إلى قيود الواجب كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة غايته انه قيد في الواجب اخذ على نحو اتفاق الحصول، لا انه واجب التحصيل كالطهارة.

(1) الذي يظهر من الشيخ (قدس سره) كون الوجوب في الواجب المشروط فعليا حقيقيا تام الفعلية و الحقيقية و ان القيد المعلق عليه يرجع إلى الواجب لبرهانين ذكرهما يلزم بحسبهما ارجاع القيد إلى المادة: أي الى ما تعلق به الهيئة: أي إلى الواجب دون الوجوب فاكرم.- مثلا- في قول القائل: ان جاءك زيد فاكرمه تنحل إلى وجوب مستفاد من هيئتها و الى واجب متعلق به الوجوب و هو الاكرام، و الوجوب قبل تحقق المجي ء فعلى و انما المقيد بالمجي ء هو الاكرام لا وجوبه لقيام البرهان على لزوم هذا الارجاع و ان خالف الظاهر، فالواجب المشروط عنده (قدس سره) هو الواجب المعلق الذي سيأتي الكلام فيه، و حيث لم يرض المصنف هذا الراي و بنى على كون الوجوب هو المشروط و ان القيد راجع إلى الهيئة لا إلى المادة فقط قال: ان الظاهر كون الشرط من قيود الهيئة: أي الوجوب و ليس من قيود المادة و ان الواجب هو المقيد دون الوجوب، و رتب على هذا الرأي لازمه و هو كون الطلب و الوجوب- بناء على رجوع القيد إلى المادة- يكون فعليا، و الواجب هو المقيد و هو الخاص، فالاكرام هو المقيد بالمجي ء دون وجوبه.

ص: 57

المادة لبا (1)، مع الاعتراف بأن قضية القواعد العربية أنه من قيود الهيئة ظاهرا.

______________________________

(1) حاصل ما استدل به الشيخ (قدس سره): من لزوم رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة دليلان 5]:

و حاصل الدليل الاول: ان الهيئة بذاتها غير قابلة لرجوع القيد اليها و يمتنع عقلا ان تكون مقيدة و معلقة على المجي ء، فلا بد فيما كان ظاهره تقيدها من ارتكاب مخالفة الظاهر فيه و ارجاع القيد إلى ما يمكن ان يكون مقيدا به و هو المادة فإنها القابلة للتقييد دون الهيئة، و التعبير عن الشرط بالقيد واضح لأن مرجع الشرطية و التعليق إلى تقييد المشروط بالشرط، فالشرط و التعليق قيود للمشروط الذي هو في قبال المطلق غير المقيد بشي ء و لا معلق على شي ء، فانه إذا قال المولى: اكرم زيدا، من دون شرط و تعليق يرجع إلى وجوب اكرام زيد سواء جاء أو لم يجئ، و اذا قال: إن جاءك زيد فاكرمه، يرجع إلى كون وجوب الاكرام فيما إذا تحقق منه مجي ء و عند عدم مجيئه لا وجوب، فلا يصح ان يقال: اكرم زيدا سواء جاء ام لم يجئ، هذا بناء على الواجب المشروط.

و أما بناء على إرجاع القيد إلى المادة فالاكرام يكون مقيدا بالمجي ء و انه قبل المجي ء لا يصح الاكرام، بخلاف اكرم زيدا من دون تعليق فانه يصح الاكرام سواء جاء ام لم يجئ.

و الدليل الثاني يرجع إلى ان القيد و ان أمكن رجوعه إلى الهيئة لكن التأمل و التحقيق في كيفية تعلق الوجوب بالواجب يقضي بان القيود في الواقع تكون قيودا للمادة دون الهيئة.

ص: 58

أما امتناع كونه من قيود الهيئة (1)، فلانه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة، حتى يصح القول بتقييده بشرط

______________________________

و حاصل الدليل الاول: ان الهيئة من المعاني الحرفية و المعنى الحرفي موضوع بالوضع العام و الموضوع له الخاص، و معنى الموضوع له الخاص ان المعنى الذي يدل عليه الحرف هو من الجزئيات الخاصة المتعينة و المتشخصة بتشخص جزئي حقيقي، و من الواضح ان الجزئي الحقيقي الشخصي لا سعة فيه لأن التوسعة و التضييق من شئون المعاني الكلية، أما المعاني الجزئية الحقيقية لا سعة فيها حتى تتضيق.

و قد عرفت ان الشرط قيد و معنى القيدية التضييق و ما لا سعة فيه لا يعقل ان يلحقه تضييق، فالهيئة التي هي الدالة على الوجوب معنى حرفي فهي امر جزئي شخصي لا سعة فيها فلا تضيق لها، بخلاف المادة التي هي متعلق الهيئة و هو الاكرام- مثلا- فانه معنى كلي و الكلي له سعة و ضيق فلا بد و ان يكون القيد راجعا لها لأنها معنى كلي قابلة للسعة و الضيق، فالقيد راجع إلى المادة و هي الواجب و لا يعقل رجوعه إلى الوجوب المستفاد من الهيئة لانه معنى حرفي، و هو البعث الواقع نسبة بين الباعث و المبعوث و المبعوث اليه، و المعاني النسبية معان حرفية جزئية حقيقية متشخصة فلا تقبل التقييد و التضييق.

(1) قد عرفت فيما سبق ان ظاهر الجملة الشرطية كقول القائل: ان جاءك زيد فاكرمه هو كون الجزاء بما هو مركب من هيئة و مادة واقعا موقع الفرض و التقدير على فرض تحقق الشرط و هو المجي ء، و بعد قيام البرهان عنده (قدس سره) على امتناع رجوع القيد إلى الهيئة فلا بد من صرف هذا الظاهر و ارجاعه إلى المادة، هذا بحسب البرهان الاول.

و أما بحسب البرهان الثاني فيقتضي ان يكون هذا الاعتراف منه (قدس سره) انما هو بدوي و لكن بعد التامل و التروي في كيفية تعلق الوجوب بالواجبات يكون القيد راجعا إلى المادة، فيكون اعترافه بحسب البرهان الاول غير اعترافه بحسب ما يقتضيه

ص: 59

و نحوه، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة، فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة (1).

و أما لزوم كونه من قيود المادة لبا، فلان العاقل إذا توجه إلى شي ء و التفت إليه، فإما أن يتعلق طلبه به، أو لا يتعلق به طلبه أصلا، لا كلام على الثاني.

و على الاول: فإما أن يكون ذاك الشي ء موردا لطلبه و أمره مطلقا على اختلاف طوارئه، أو على تقدير خاص، و ذلك التقدير: تارة يكون من الامور الاختيارية، و أخرى لا يكون كذلك. و ما كان من الامور الاختيارية. قد يكون مأخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف، و قد لا يكون كذلك، على اختلاف الاغراض الداعية إلى طلبه و الأمر به، من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام للمصالح و المفاسد (2)، و القول بعدم التبعية، كما لا يخفى، هذا موافق

______________________________

البرهان الثاني، فإن الاعتراف بالظهور في الاول قد صادمه البرهان فلا بد من مخالفته، بخلاف اعترافه بحسب ما يقتضيه البرهان الثاني فانه بدوي قبل التامل في كيفية تعلق الوجوب بالواجب، أما بعد التامل فيكون متعلقا بالواجب فينبغي ان يكون عنده (قدس سره) بعد التامل ظاهرا في كون متعلقه غير الهيئة و ظهوره في تعلقه بالهيئة بدوي.

(1) قد عرفت وجهه، و هو ان الهيئة من المعاني الحرفية لانها هي البعث الواقع نسبة بين الباعث و المبعوث و المبعوث اليه و المعاني الحرفية الموضوع له فيها خاص شخصي جزئي لا سعة فيه فلا يقبل تضييقا.

(2) هذا هو الدليل الثاني على لزوم رجوع القيد إلى المادة فقط دون الهيئة.

و توضيحه ان الاحكام إما ان تكون تابعة لمصالح و مفاسد في متعلقاتها- كما هو مذهب المشهور من العدلية- و على هذا فلا يكون في نفس البعث مصلحة و انما هو

ص: 60

.....

______________________________

كطريق لتحصيل ما يترتب على متعلقه من المصلحة، أو لأن لا يقع ما يترتب على متعلقه من المفسدة و انما كان بداعي جعل الداعي إلى متعلقه فقط.

و على هذا فاذا تصور الآمر شيئا، فاما ان يرى ان له غاية تقع موقع التصديق بتحصيلها، أو لا يكون له تلك الغاية.

و على الثاني فلا يتحقق بعث بالنسبة اليه.

و على الاول و هو ما له غاية وقعت موقع التصديق، فاما ان تكون تلك الغاية التي وقعت موقع التصديق غير مربوطة و لا مترتبة على شي ء، و انها ينبغي تحصيلها على كل تقدير فيقع البعث اليها مطلقا غير مقيد و لا مترتب على شي ء، و هذا هو الواجب المطلق المحض، و اما ان لا يقع التصديق بها مطلقا بل كان مقيدا بشي ء، و هذا- أيضا- على انحاء، لأن القيد الذي له دخالة في التصديق بالغاية إما ان يكون اختياريا، أو لا يكون اختياريا كالوقت.

و الاختياري تارة: يكون بحيث يلزم تحصيله كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

و اخرى: لا يكون كذلك بل يكون على فرض اتفاقه و حصوله تكون الغاية لازمة، فالتصديق بها على هذا النحو كالمجي ء بالنسبة إلى اكرام زيد- مثلا- فالقيد الذي له الدخالة في التصديق بالغاية إذا كان اختياريا فإن كان بحيث يلزم تحصيله كان موردا للتكليف كذي الغاية الذي هو المقيد، غايته ان تكليفه غيري كوجوب الطهارة للصلاة، و اخرى يكون من القسم الثاني فلا يعقل ان يقع به تكليف، لأن المفروض انه على فرض حصوله يكون ذو الغاية لازم التحصيل و هو كالمجي ء بالنسبة إلى اكرام زيد و كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

و أما غير الاختياري فلا يقع به تكليف لمشروطية التكليف بالاختيار.

و اتضح مما ذكرنا: ان القيود جميعها ترجع إلى الواجب و لا دخالة لها في الوجوب.

ص: 61

.....

______________________________

و اتضح- أيضا-: انه في الواجب المطلق بعد حصول التصديق غير المقيد بشي ء يحصل الشوق فيحصل البعث و هذا واضح، و في المقيد- أيضا- حيث لا دخالة للقيد في الشوق إلى المقيد لأن القيد راجع اليه لا للشوق و الميل اليه، فيحصل الشوق- أيضا- إلى المقيد الذي كان للقيد دخالة في حصول الغاية منه، فالشوق على جميع التقادير حاصل بالفعل غايته تارة يكون شوقا إلى شي ء مطلق، و اخرى يكون شوقا إلى مقيد، لوضوح ان الشوق إلى ما يتقيد بشي ء لا يكون الشوق اليه مقيدا، و اذا كان الشوق اليه حاصلا بالفعل فلا بد و ان يكون الحكم فعليا على جميع التقادير، لأن الحكم إما ان يكون هو الارادة و الشوق، و قد عرفت حصولهما، أو ان يكون معلولا لها فلا تخلف له عن علته، هذا بناء على كون الاحكام تابعة للمصالح و المفاسد في متعلقاتها و ان الحكم بنفسه خال من المصلحة و المفسدة واضح.

و اما بناء على مذهب الاشعري غير الملتزم بتبعية الاحكام للمصالح و المفاسد، أو على قول غير المشهور من العدلية القائلين هؤلاء بلزوم المصلحة و المفسدة و لكنهم لا يقولون بلزوم كون المصالح في متعلقات الاحكام دائما، بل قد تكون المصلحة في نفس الحكم لا في متعلقه.

فأما بناء على قول الاشعري فالحكم منوط بتصوره و الميل اليه، و المفروض انه قد أنشأ الحكم فلا بد من تصوره و الميل اليه، و عليه فان كان قد حصل الميل غير مقيد بشي ء فهو الواجب المطلق و ان كان الميل اليه مقيدا فهو الواجب المشروط، و لكن الاطلاق و الاشتراط انما لأجل متعلق الميل و هو الواجب، و لازم ذلك ان يكون القيد و التعليق راجعا إلى المتعلق لا إلى الحكم.

و أما قول غير المشهور من العدلية من الالتزام بالمصلحة، و لكن لا يجب ان تكون في المتعلق بل يجوز ان تكون في نفس الحكم، فلان الحكم إما ان يكون هو الارادة، أو معلولها و هو البعث المتسبب عن الشوق الأكيد، فاذا كان هو الارادة فالارادة من موجودات عالم النفس و ليس من موجودات عالم الخارج، فلا يعقل ان يكون

ص: 62

لما أفاده بعض الافاضل المقرّر لبحثه بأدنى تفاوت (1)، و لا يخفى ما فيه.

______________________________

مربوطا الّا بموجودات عالم النفس، و حينئذ فيكون نفس العلم بالصلاح موجبا لتعلق الارادة لأن العلم من موجودات عالم النفس، و لا بد من ارتباط كل موجود بعالمه الذي يوجد فيه و المفروض ان القيد من عالم الخارج فلا تكون الارادة مربوطة به، و عليه فالقيد الذي هو من عالم الخارج لا بد و ان يكون راجعا إلى متعلق الارادة و هو الفعل و الواجب، و كذلك الحال فيما كان الحكم من معلولات الارادة و الشوق الأكيد لعدم معقولية زيادة المعلول على علته، فانه بمجرد حصول الشوق الاكيد يحصل الطلب و البعث.

فاتضح من جميع ما ذكرنا: ان القيد لا بد و ان يكون راجعا إلى الفعل الذي هو الواجب دون الوجوب، و الوجوب فعلي على كل تقدير و غير معلق على شي ء.

و قد أشار إلى الواجب المطلق بقوله: «فاما ان يكون ذاك الشي ء موردا لطلبه و أمره مطلقا على اختلاف طوارئه».

و قد أشار إلى المقيد بقوله: «أو على تقدير خاص» و الى أنحاء التقييد بقوله:

«تارة يكون من الامور الاختيارية و اخرى لا يكون كذلك»: أي لا يكون القيد اختياريا كالوقت و الى الاختياري الذي يكون قيده واجب التحصيل بقوله: «و ما كان من الامور الاختيارية قد يكون»: أي القيد ماخوذا فيه على نحو يكون مورد التكليف: أي يكون القيد ماخوذا في الواجب على نحو يكون القيد بنفسه موردا للتكليف، كالطهارة المأخوذة قيدا في الصلاة، و الى القيد غير الواجب التحصيل بل كان بحيث إذا حصل القيد من باب الاتفاق تتحقق دخالته في الواجب كالمجي ء بالنسبة إلى الاكرام بقوله: «و قد لا يكون كذلك على اختلاف الاغراض».

(1) قد عرفت توضيح ذلك و تقريبه على أي رأي من الآراء.

ص: 63

أما حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة، فقد حققناه سابقا: إن كل واحد من الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف يكون عاما كوضعها، و إنما الخصوصية من قبل الاستعمال كالاسماء، و إنما الفرق بينهما أنها وضعت لتستعمل و تقصد بها المعنى بما هو هو و الحروف وضعت لتستعمل و تقصد بها معانيها بما هي آلة و حالة لمعاني المتعلقات، فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى، بل من مشخصات الاستعمال، كما لا يخفى على أولي الدراية و النهى. و الطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق، قابل لان يقيد (1)، مع أنه لو سلم أنه فرد،

______________________________

(1) شروع في الجواب عن البرهان الاول فاجاب:

اولا: بما سبق من ان الحروف ليست موضوعة بالوضع العام و الموضوع له الخاص، بل الموضوع له فيها عام كالوضع فالهيئة موضوعة لكلي الطلب، فاذا كان الموضوع له فيها كليا أمكن تقييده فإن الذي يابى عن التقييد هو الجزئي و انما يكون الموضوع له جزئيا بناء على ان الموضوع له فيها خاص.

و قد مر ان المعاني الحرفية الموضوع له فيها كلي لا جزئي و المستعمل فيه فيها- أيضا- كلي، و الخصوصية إنما نشأت من الاستعمال لأن استعمال لفظ في معنى لا بد و ان يكون مسبوقا بلحاظ المعنى و كلما وجد و كلما لحظ وجد تشخص و صار جزئيا، و لكن هذه الجزئية الناشئة من الاستعمال غير دخيلة فيما هو الموضوع له و المستعمل فيه، لوضوح ان هذه الجزئية موجودة في كل معنى عام قد استعمل فيه اللفظ، فلو كانت موجبة لجزئيته لامتنع ان يكون هناك لفظ يستعمل في معنى عام. و على كل فلا فرق بين الموضوع له الحرف و الاسم إلّا بالآلية و الاستقلالية، و الموضوع له الهيئة هو الموضوع له لفظ الطلب سوى ان الهيئة وضعت لتستعمل فيما إذا كان الطلب ملحوظا باللحاظ الآلي و لفظ الطلب وضع ليستعمل في معناه حيث يكون ملحوظا باللحاظ الاستقلالي، و من الواضح ان الآلية و الاستقلالية خارجة عما هو الموضوع

ص: 64

.....

______________________________

له و المستعمل فيه- أيضا-، لأن اللفظ انما يستعمل في نفس المعنى لا بقيد انه مستعمل فيه.

و قد عرفت ان الجزئية آتية من ناحية كونه مستعملا فيه بما هو مستعمل فيه، لأن الخصوصية قد جاءت من قبل الاستعمال و قد مر الكلام في ذلك مفصلا في الوضع و في المشتق.

و لا يخفى عليك ان كلام المصنف- هنا- في إنكار جزئية المعنى الحرفي انما هو في الجزئية الذهنية.

و اما لو كان المدعى هو الجزئية الخارجية فلا بد و ان يكون الجواب عنه: بانه لو كان الموضوع له في الحرف هو الجزئي الخارجي لما أمكن ان يتعدد مصداقه في مقام الامتثال، فانه إذا أمر المولى بايجاد السير من البصرة لما كان للمكلف ان يوجد الابتداء في أي نقطة من النقاط في البصرة مع انه ليس كذلك قطعا، و في المقام لو كان الطلب المستعمل فيه الهيئة هو المتعلق بفرد خاص من اكرام زيد لما امكن أن يقع الامتثال الّا به، مع انه من الواضح ان المكلف يمكنه ان يمتثل باي فرد من افراد الاكرام.

ثم لا يذهب عليك ان المشهور القائلين بالوضع العام و الموضوع له الخاص في الحروف هم القائلون- أيضا- بامكان رجوع القيد إلى الهيئة، فلا بد لهم من الجواب عن هذا البرهان.

و ملخص الجواب: ان معنى كون الموضوع له في الحرف خاصا إنما هو لأجل ان الحرف وضع لأن يدل على المعنى الذي يكون نسبة بين الطرفين أو الاطراف، فلفظة (من) انما تدل على الابتداء الواقع نسبة بين السير و البصرة، و ليس مدلولها كلي معنى الابتداء، و النسبة متشخصة بطرفيها، و هذا المعنى من الخصوصية لا يستلزم كون المعنى الحرفي جزئيا خاصا بحيث لا يقبل التقييد بل ضيقه وسعته تتبع طرفيه، فلفظ (من)- مثلا- تدل على الابتداء الواقع نسبة بين السير و البصرة، و لا يخفى ان

ص: 65

فانما يمنع عن التقيد لو أنشئ أولا غير مقيد، لا ما إذا أنشئ من الاول مقيدا، غاية الامر قد دل عليه بدالين، و هو غير إنشائه أولا ثم تقييده ثانيا (1)

______________________________

هذه النسبة تتحقق في أي نقطة من النقاط التي يبتدأ السير منها فيمكن ان تتضيق في نقطة خاصة.

و بعبارة اخرى: ان مرادهم كون الموضوع له في الحرف خاصا ليس كونه جزئيا ذهنيا و لا جزئيا خارجيا، و انما مرادهم من الخصوصية انه ليس الموضوع له في الحروف هو العنوان المتصور حال الوضع و هو كلي مفهوم الابتداء- مثلا-، بل الموضوع له هو معنون هذا العنوان، فلم توضع لفظة (من) للعنوان المتصور بل وضعت لأن تدل على معنونه، و ليس لازم هذا الكلام كون الموضوع له في الحروف جزئيا ذهنيا و لا جزئيا خارجيا. و على كلّ فيمكن ان تتقيد الهيئة لانه لها سعة و ضيق بحسب طرفيها، هذا اولا.

و ثانيا: ان التقييد في الجزئي الحقيقي لا مانع منه إذا كان راجعا إلى أوصافه لا إلى تفريده، فإن القيد الموجب للفردية لا يلحق الجزئي اذ لا فردية لما هو فرد بل الفردية انما تكون للكلي، و اما القيد الراجع إلى حالات الفرد و اوصافه فلا مانع من لحوقها للجزئي الحقيقي.

(1) هذا جواب ثان، و حاصله: ان الهيئة انما لا تقبل التقييد لأنها بانشائها تكون جزئية و الجزئي لا يقبل التقييد، و هذا انما يتم فيما إذا لحقه التقييد بعد الإنشاء لانه يكون بالانشاء جزئيا فيأبى عن التقييد حينئذ، و اما إذا أنشئ مقيدا فإن الامتناع المدعى لا يتم لانه يوجد جزئيا بما فيه من القيد، فأولا يلحظ الوجوب و يقيّد بالمجي ء ثم ينشئ، و لا امتناع في إنشائه بعد لحاظه مقيدا.

لا يقال: ان الجزئية إذا كانت من ناحية اللحاظ فالامتناع انما هو من ناحية اللحاظ و الانشاء انما هو لايجاد ما لحظ.

ص: 66

فافهم (1).

______________________________

فانه يقال: ان اللحاظ له على نحوين: لانه تارة يلحظ غير مقيد ثم يقيد، و اخرى يلحظ من اول الامر مقيدا، بل لا بد ان يكون بالنحو الثاني لأن المفروض ان الغرض تعلق بالوجوب المقيد فلا بد و ان يلحظ على وفق الغرض الداعي إلى لحاظه، و قد أشار إلى هذا الجواب بقوله: «فانما يمنع الخ».

لا يقال: ان الظاهر من الجملة الشرطية ان التقييد كان من بعد لحاظه و انه لحظ أولا ثم قيد، فإن قول المولى: اكرم زيدا ان جاءك يدل على ان قيد المجي ء لحق الوجوب المتعلق بالاكرام و بعد لحاظه متعلقا بالاكرام قيّده بالمجي ء.

فانه يقال: انه بعد قيام الدليل على امتناع التقييد بعد اللحاظ و الانشاء فلا بد من كون هذا من باب تعدد الدال، و تعدد الدال في مقام الانشاء في الكلام المتدرج لا يلازمه ان يكون المدلول الذي اريد الدلالة عليه كذلك، و بعد امتناع التقييد بعد اللحاظ فلا بد و ان يكون الملحوظ هو المقيد و لكن قد دل على ذلك الملحوظ الذي اول وجوده كان بنحو التقييد بدالين: دال لذات المقيد و دال لقيده.

و قد أشار إلى ما ذكرنا بقوله: «غاية الأمر قد دل عليه بدالين» يدلان على ملحوظ مقيد و لا يلزم ان يكون قد لحظ اولا ثم قيد، و لذا قال: «و هو غير انشائه أولا ثم تقييده ثانيا».

(1) يمكن ان يكون امره بالفهم إشارة إلى أن هذا الجواب: بان يلحظ مقيدا ثم يدل عليه بدالين انما هو فيما إذا كانت الجزئية المدعاة الموجبة لامتناع التقييد هي الجزئية الذهنية الآتية من قبل اللحاظ، لا ما اذا كانت الجزئية المدعاة هي الجزئية الخارجية فإن الجزئي الخارجي يمتنع تقييده لكونه فردا جزئيا خارجيا و الفرد الجزئي غير قابل لأن يكون له فرد و جزئي، فإن التفريد و التحصص انما يكون للكلي لا للجزئي الخارجي المتحصص، فلا ينفع الجواب بكون الملحوظ قد لحظ من اول الامر مقيدا

ص: 67

اشكال تفكيك الانشاء عن المنشأ و جوابه

فإن قلت: على ذلك، يلزم تفكيك الانشاء من المنشأ، حيث لا طلب قبل حصول الشرط (1).

قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله، فلا بد أن لا يكون قبل حصوله طلب و بعث، و إلا لتخلف عن إنشائه (2)، و إنشاء

______________________________

و دل عليه بدالين، و ينحصر الجواب بانكار كون المعنى الحرفي هو الجزئي الحقيقي الخارجي كما عرفت.

(1) حاصل هذا الاشكال ان الواجب المشروط كما عرفت يرجع إلى كون الطلب معلقا على المجي ء، و قبل المجي ء لا طلب فيشكل عليه: بان الانشاء هو العلة الاخيرة لحصول ما انشئ به و لا ريب ان الانشاء فعلي لا تعليقي، فاذا كان الطلب المنشأ بهذا الانشاء الفعلي تعليقيا يلزم تخلف المعلول عن علته، لوضوح ان الطلب هو المنشأ بهذا الانشاء فكيف يعقل كون الانشاء الذي هو العلة الاخيرة للطلب فعليا و المنشأ بهذا الانشاء تعليقيا و المعلول لا يعقل تخلفه عن علته، و ما ذكرنا هو المراد بقوله:

«على ذلك»: أي على القول بالواجب المشروط و كون الطلب معلقا على المجي ء و غير ثابت بالفعل، و المفروض ان الانشاء حاصل بالفعل «يلزم تفكيك الانشاء من المنشا»: أي يلزم تخلف المعلول عن علته، لأن المنشا بهذا الانشاء و هو الطلب غير متحقق بالفعل لما عرفت ان المدعى هو عدم تحقق الطلب قبل تحقق الشرط، و لذا قال (قدس سره): «حيث لا طلب قبل حصول الشرط» مع ان الانشاء الذي هو العلة الاخيرة له متحقق بالفعل و تخلف المعلول عن علته الاخيرة من المحالات الواضحة.

(2) توضيح الجواب ان الانشاء هو نحو من انحاء الاستعمال و هو ايجاد المعنى باللفظ، فالانشاء هو العلة الاخيرة لحصول المعنى المستعمل فيه بحصول هذا الانشاء الذي هو ايجاد المعنى بهذا الانشاء، و المعنى المنشأ لم يتخلف عن علته الذي هو الانشاء، فانه قد حصل بهذا الانشاء المعنى الذي انشئ به و الانشاء فعلي و المعنى الحاصل به فعلي أيضا، و لكن المعنى الذي حصل بهذا الانشاء هو تحقق الطلب على تقدير حصول

ص: 68

أمر على تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان، كما يشهد به الوجدان، فتأمل جيدا (1).

______________________________

الشرط خارجا، فاذا كان المعنى الذي حصل بهذا الانشاء هو الطلب على فرض حصول الشرط خارجا فلا يعقل حصوله قبل حصول الشرط.

و بعبارة اخرى: ان المعنى الذي هو المنشأ بهذا الانشاء هو كون الطلب معلقا على الشرط، و هذا المعنى حاصل بالفعل و بمجرد الانشاء و حصول معنى كون الطلب معلقا على الشرط بالفعل لا يقتضي حصول الطلب بالفعل، بل الحاصل بالفعل هو كون الطلب معلقا على حصول الشرط في الخارج، فما هو معلق على حصول الشرط في الخارج هو الطلب الحقيقي و هو ليس معلولا للانشاء، و ما هو المعلول لهذا الانشاء و هو كون الطلب معلقا على حصول الشرط قد حصل و لم يتخلف عن علته. و قد تبين واضحا مما ذكرنا انه إذا كان المنشا هو كون الطلب واقعا موقع الفرض و التقدير و معلقا على ثبوت الشرط ينقلب الأمر على هذا المستشكل فيكون الحاصل بالانشاء هو كون الطلب مفروض التحقق لا فعلي التحقق فلا يعقل ان يكون الطلب فعليا بهذا الانشاء و الّا لزم تخلف المعلول عن علته، و لذا قال (قدس سره): «المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله»: أي على تقدير حصول الشرط خارجا «فلا بد ان لا يكون قبل حصوله طلب و بعث و إلّا لتخلف»:

أي المنشا «عن إنشائه» لما عرفت من ان المنشأ بهذا الانشاء هو كون الطلب معلقا على حصول الشرط: أي المنشأ بهذا الانشاء هو تقدير حصول الطلب لا الطلب بالفعل، فاذا حصل بهذا الانشاء الطلب الفعلي دون الطلب التقديري يلزم ان يكون قد حصل بهذا الانشاء غير ما انشئ به، لأن ما انشئ به هو الطلب التقديري.

و الحاصل على رأي هذا المستشكل هو الطلب الفعلي فيتخلف المعلول عن علته، و هذا معنى قوله: «و إلّا لتخلف عن انشائه».

(1) الظاهر ان مراده (قدس سره) النقض على اشكال لزوم التفكيك.

ص: 69

.....

______________________________

و حاصله: ان الفرق بين الانشاء و الاخبار هو قصد الحكاية، فإن الاخبار هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد الحكاية عن مطابقه، و الانشاء هو استعمال اللفظ في المعنى من دون قصد الحكاية، و حينئذ فكما يمكن ان يكون المعنى في الجملة الخبرية غير حاصل بالفعل بل يحصل في المستقبل على تقدير حصول الشي ء، كذلك لا بد انه يمكن ان يكون المنشأ بالجملة الانشائية امرا غير حاصل بالفعل بل يحصل في المستقبل على تقدير حصول شي ء، فكما يمكن ان يقال انه يحصل اكرام زيد غدا حين يتحقق مجيئه كذلك يمكن ان يقال: اكرم زيدا ان جاء غدا لما عرفت من انه لا فرق بين الانشاء و الاخبار فيما عدا قصد الحكاية.

و بعبارة اخرى: انه كما يمكن ان يكون المخبر به في الجملة الخبرية شيئا معلقا على حصول شي ء كذلك يمكن ان يكون المنشأ بالجملة الانشائية شيئا معلقا على حصول شي ء.

و يحتمل ان يكون هذا جوابا عن إشكال مقدر، و حاصله: ان تقييد المنشأ لازمه تقييد الانشاء، لأن اللفظ قالب المعنى و اللفظ هو وجود المعنى تنزيلا، فاذا كان المنشأ مقيدا فلازمه كون الانشاء مقيدا و تقييد الانشاء غير معقول، إذ لو كان الانشاء مقيدا لما حصل و المفروض انه قد حصل، و بعد حصوله كيف يمكن ان يكون المنشأ الحاصل به مقيدا و الانشاء غير مقيد؟

فأجاب عنه: بانه كما ان الانشاء ايجاد للمعنى الذي هو المنشأ كذلك الاخبار- أيضا- ايجاد للمعنى الذي هو المخبر به، و لا اشكال في انه يمكن أن يكون المخبر به شيئا معلقا حصوله على حصول شي ء فكذلك الانشاء يمكن ان يكون المنشأ شيئا معلقا حصوله على شي ء، فاذا كان الاخبار عن مخبر به معلقا حصوله على شي ء بمكان من الإمكان، فكذلك الانشاء يمكن ان يكون المنشأ به معلقا حصوله على حصول شي ء و هو كالاخبار بمكان من الامكان- أيضا- هذا و لكن الظاهر ان مراده النقض كما ذكرناه اولا، لأن هذا الاشكال يرجع إلى اشكال التفكيك عند التأمل.

ص: 70

و أما حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبا ففيه: إن الشي ء إذا توجه إليه، و كان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها، كما يمكن أن يبعث فعلا إليه و يطلبه حالا، لعدم مانع عن طلبه كذلك، يمكن أن يبعث إليه معلقا، و يطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول لاجل مانع عن الطلب و البعث فعلا قبل حصوله، فلا يصح منه إلا الطلب و البعث معلقا بحصوله، لا مطلقا و لو متعلقا بذاك على التقدير، فيصح منه طلب الاكرام بعد مجي ء زيد، و لا يصح منه الطلب المطلق الحالي للاكرام المقيد بالمجي ء (1).

______________________________

(1) لما انتهى من الجواب عن البرهان الاول شرع في الجواب عن البرهان الثاني.

و لا يخفى: انه جعل الكلام في موردين:

الاول، في الحكم على رأي الاشعري و على رأي غير المشهور من العدلية من القول بتبعية الاحكام لمصالح فيها.

و الثاني: على القول بتبعية الاحكام لمصالح و مفاسد في متعلقاتها أي في المأمور به.

و قد أشار اليهما (قدس سره) بقوله: «ان الشي ء إذا توجه اليه و كان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة» بهذا أشار إلى القول بتبعية الاحكام للمصالح في نفس الحكم، و بقوله: «أو غيرها» أشار إلى مقالة الاشعري: من ان الحكم تابع لموافقته للغرض فقط من دون الالتزام بكونه ذا مصلحة.

و اما الجواب على القول بتبعية الاحكام للمصالح و المفاسد في المأمور به- الذي هو المتعلق- فقد أشار اليه بقوله: «هذا بناء على تبعية الاحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح و أما بناء على تبعيتها للمصالح و المفاسد في المأمور به الخ».

فظهر من هذا ان كلامه الاول يتعلق بالجواب عن مقالة الاشعري الذي لا يلتزم بتبعية الاحكام لمصالح لا فيها و لا في متعلقاتها، و يقول: بان الحكم تابع لموافقته

ص: 71

.....

______________________________

للغرض فقط، و على قول غير المشهور: من انه لا يلزم ان يكون الحكم تابعا لمصالح في المتعلق بل يكون تابعا لمصالح في نفس الحكم.

و ليعلم- أيضا- ان الحكم على هذين الرأيين لا بد و ان يكون غير الارادة و هو البعث الاعتباري لوضوح ان الارادة وجودها دائما إلى غير استقلالي، و موافقة الغرض و المصلحة في نفس الحكم لا بد و ان يكونا فيما له وجود استقلالي.

و كيف كان فحاصل الجواب: أما على رأي الاشعري، فلأن موافقة الغرض كما يمكن ان تكون مطلقة كذلك يمكن ان تكون معلقة على شي ء لضرورة انه ربما يكون شي ء موافقا للغرض من دون ان يكون معلقا على شي ء، و ربما تكون موافقته للغرض منوطة بحصول شي ء، فالذي يكون موافقا للغرض من دون تعليق هو الواجب المطلق، و الذي يكون موافقا للغرض على فرض حصول شي ء هو الواجب المشروط، فإن اكرام زيد قد يكون موافقا للغرض مطلقا و قد يكون بشرط مجيئه موافقا للغرض.

و أما بناء على كون المصالح و المفاسد في نفس الاحكام فنقول- أيضا-: ان المصلحة المترتبة على نفس الحكم و الطلب ربما يكون ترتبها عليه ترتب المعلول على علته التامة و هذا هو الواجب المطلق، و ربما يكون ترتبها ترتب المقتضى على مقتضيه: بان يكون هناك مانع من ترتبها بالفعل فلا بد ان يكون معلقا على ارتفاع المانع و حينئذ لا يصح منه إلّا ان يطلب معلقا على حصول ما يكون بحصوله ترتب المصلحة على الحكم بالفعل فيكون الطلب المعلق على المجي ء كاشفا عن وجود مانع عن الطلب قبل المجي ء و انه عند المجي ء يرتفع المانع، و هذا هو الواجب المشروط و لذا قال (قدس سره): «كما يمكن ان يبعث فعلا اليه و يطلبه حالا لعدم مانع عن طلبه» فيتحقق الطلب بالفعل غير معلق على شي ء و هو الواجب المطلق «كذلك يمكن ان يبعث اليه معلقا و يطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول» و لعله انما قيّده بقوله متوقع الحصول لأن المعلق على شرط متحقق الحصول من الواجب المعلق عنده

ص: 72

هذا بناء على تبعية الاحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح (1).

______________________________

(قدس سره) لا من المشروط، و الّا فلا فرق بين المتوقع الحصول و المتحقق الحصول.

و على كل فانما يكون طلبه استقباليا و بعثه معلقا على حصول الشرط «لأجل مانع عن الطلب و البعث فعلا قبل حصوله»: أي قبل حصول الشرط، و اذا كان للطلب بالفعل مانع و لا يرتفع إلّا بحصول شي ء «فلا يصح منه»: أي من الآمر «الا الطلب و البعث معلقا بحصوله»: أي معلقا بحصول ما به يرتفع المانع عن الطلب «لا مطلقا»: أي إذا كان معلقا على حصول الشرط لا يصح منه مطلقا و غير معلق على ما به يرتفع المانع.

قوله: «و لو متعلقا بذاك على التقدير» يمكن ان تكون هذه العبارة من متعلقات قوله: مطلقا.

و حاصلها: انه إذا كان الطلب بالفعل له مانع لا يصح الطلب مطلقا و لو لم يكن ذلك الشرط غير حاصل، و معناها على هذا انه لا يصح منه اطلاق الطلب و لو بان يكون متعلقا- مثلا- باكرام زيد على ذاك التقدير: أي على تقدير عدم المجي ء لأن المفروض أن له مانعا في حال عدم المجي ء.

و يمكن ان تكون من متعلقات «بحصوله» فيكون معناها انه لا يصح منه الا الطلب و البعث معلقا بحصوله و لو بان يكون طلبه متعلقا بذاك: أي بالاكرام على التقدير: أي على تقدير المجي ء.

و توضيحه: انه إذا كان للطلب مانع عن الفعلية فيصح من المولى تأخير الطلب إلى حصول الشرط، و يصح منه الطلب معلقا على حصول الشرط، لكنه لا يخفى ان في الاحتمال الثاني تكلف، و الظاهر منه هو الاحتمال الاول بان يكون من متعلقات «مطلقا».

(1) قد دلّ هذا الكلام أخيرا على ان الكلام السابق بناء على قول غير المشهور و على مقالة الاشعري الذي أشار اليها بقوله: «أو غيرها».

ص: 73

و أما بناء على تبعيتها للمصالح و المفاسد في المأمور به، و المنهي عنه فكذلك، ضرورة أن التبعية كذلك، إنما تكون في الاحكام الواقعية بما

______________________________

ثم لا يخفى انه يمكن ان يقال: ان هذا الجواب من المصنف لا يتم على ما سلكه في الشرط المتأخر من ارجاع ما يتعلق بالحكم من الشروط التي ظاهرها انها شرط بوجودها الخارجي إلى كونها شروطا بوجودها الذهني، فانه عليه لا بد و ان يكون الواجب المشروط واجبا فعليا لا مشروطا، لأن الشرط بوجوده الذهني حاصل بالفعل.

فانا نقول: أوّلا، انه لم يظهر من المصنف وجوب رجوع كل شرط خارجي إلى كونه شرطا بوجوده الذهني، بل الذي ظهر منه هو تصحيح الشرط المتأخر بارجاعه إلى كونه شرطا بوجوده الذهني، بل حيث كان الدليل قد دلّ على ان هذا الشرط المتأخر- مع كونه متأخرا- شرط فلا بد و ان يرجع إلى كونه شرطا بوجوده الذهني لاستحالة تأثير المعدوم في الموجود، و أما إمكان أن يكون الشي ء بوجوده الخارجي شرطا للوجوب فلا امتناع فيه و لا يلزم فيه تأثير المعدوم في الموجود.

و ثانيا: ان الشرط في الحكم و ان رجع إلى الوجود الذهني، إلّا انه تارة يكون الوجود الذهني مشروطا: بان يكون منطبقا على الوجود الخارجي بالفعل: بان يكون مطابق هذا الوجود الذهني حاصلا بالفعل، و اخرى لا يشترط ذلك: بان يكون وجوده ذهنا هو الشرط و لو بان يكون مطابقه يحصل بعد ذلك.

و بعبارة اخرى: انه إذا كان الطلب مطلقا و فعليا و كان له شرط بوجوده الخارجي متأخر فيستكشف انه كان بوجوده الذهني شرطا للحكم من دون اشتراط ان يكون مطابقه الخارجي حاصلا بالفعل، و لا يلزم ان يكون كلما كان للحكم شرط مستقبل التحقق كان ذلك الحكم فعليا، بل يجوز ان ينشأ معلقا على تحقق ذلك المطابق في الخارج.

ص: 74

هي واقعية، لا بما هي فعلية، فإن المنع عن فعلية تلك الاحكام غير عزيز، كما في موارد الاصول و الامارات على خلافها، و في بعض الاحكام في أول البعثة، بل إلى يوم قيام القائم عجل اللّه فرجه (1)، مع

______________________________

(1) على ما ذهب اليه المشهور من تبعية الاحكام لمصالح و مفاسد في متعلقاتها و ان غير الاوامر الامتحانية مصالحها و مفاسدها في متعلقاتها لا فيها.

و حاصل ما اجاب على هذا: ان غاية ما يمكن هو الالتزام بان الاحكام في مرتبتها الواقعية تابعة لمصالح و مفاسد في متعلقاتها بحيث تكون المصالح و المفاسد هي العلل التامة لإنشاء الاحكام على طبق متعلقاتها من المصالح و المفاسد، الّا انه لا يمكن الالتزام بان المصالح و المفاسد علل تامة حتى لمرتبتها الفعلية، لعدم امكان ذلك لوضوح التزام المشهور في موارد عديدة: بان الاحكام التابعة لمصالح و مفاسد في متعلقاتها غير فعلية، فلا بد و ان تكون المصالح و المفاسد في المتعلقات لها حكم المقتضي للحكم لا كونها علة تامة، و اذا كانت بمنزلة المقتضي صح ان يكون لها شرط غير حاصل يتوقف عليه فعليّتها و اذا صح ان تكون فعلية- تارة- لعدم اشتراط فعليتها بشرط، و غير فعلية- اخرى- لعدم تحقق ما هو شرط فعليتها صح- حينئذ- ان تكون منقسمة إلى الواجب المطلق و الواجب المشروط في مرحلة فعليتها لا في مرحلة واقعيتها.

و قد ذكر المصنف موارد ثلاثة تدل على عدم كون الاحكام فعلية و انها باقية على مراتبها الواقعية:

- موارد الاصول.

- و موارد الامارات، فانه من الوضح انه يشترط في مجرى الاصول و الامارات الشك في الحكم الواقعي، و لو كانت المصالح و المفاسد علة تامة للحكم حتى مرتبته لفعلية لما كان معنى للشك فيه بل كان عدم تحقق الحكم بمرتبته الفعلية دليلا على عدم الحكم الواقعي، و الّا لزم تخلف المعلول عن علته التامة، فهذان الموردان يدلان على

ص: 75

أن حلال محمد (صلى الله عليه و آله) حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، و مع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الاحكام باقيا مر الليالي و الايام، إلى أن تطلع شمس الهداية و يرتفع الظلام، كما يظهر من الاخبار المروية عن الائمة (عليهم السلام) (1).

______________________________

ان المصالح و المفاسد ليست علّة تامة للحكم في مرتبته الفعلية، و انهما من مقتضياته، و اذا كان لها رتبة الاقتضاء جاز ان يكون له شرط غير حاصل فيصح المشروط.

- المورد الثالث: الاخبار الدالة على ان الاحكام كلها قد نزلت على النبي في اول بعثته صلى اللّه عليه و آله و سلّم و لكن بعضها يبقى مخزونا إلى ظهور الحجة عجل اللّه فرجه، و دلالتها صريحة على تخلف مرتبة الفعلية عن مرتبة الواقع و لا بد ان يكون بقاؤها مخزونة إلى ظهور حجة آل محمد صلى اللّه عليه و آله و سلّم انما هو لمانع عن فعليتها، لأن المفروض ان متعلقاتها ذوات مصالح و مفاسد، فلو لم يكن مانع عن فعليتها لكانت فعلية.

و من الواضح- أيضا-: ان الاحكام أتت بالتدريج في زمان النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعده على لسان أئمة الهدى فبلوغها درجة الفعلية كان متأخرا، و قد أشار المصنف إلى الموردين الاولين بقوله: «كما في موارد الاصول و الامارات» و الى دلالة الاخبار بقوله: «في بعض الاحكام في اول البعثة» أشار بهذا إلى أن من الاحكام ما كان هناك مانع عن فعليتها في اول البعثة فجاءت بالتدريج على عهد النبي و على عهد الأئمة عليهم السّلام، و الى الاحكام المخزونة بقوله: «بل إلى يوم قيام القائم عجل اللّه فرجه».

(1) حاصله ان المراد من كون حلاله صلى اللّه عليه و آله و سلّم حلالا إلى يوم القيامة و حرامه حراما إلى يوم القيامة هو حلاله و حرامه بمرتبته الواقعية، و الّا ففي مرحلة الفعلية كثيرا ما يكون حرامه الواقعي حلالا في الظاهر ببركة الاصول أو الامارات: أي ان الحكم الذي لا يتغير من الحلال و الحرام هو الحرام و الحلال الواقعي لا في مرحلة الظاهر، و على هذا فالحكم بمرتبته الواقعية ينفك عن مرتبته الفعلية و لا سبب لهذا الانفكاك الا وجود المانع عن فعليته، و ربما يكون وجود المانع مستمرا إلى ظهور الحجة عجل اللّه

ص: 76

فإن قلت: فما فائدة الانشاء؟ إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا، و بعثا حاليا (1).

قلت: كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط، بلا حاجة إلى خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان فعلا متمكنا من الخطاب، هذا مع شمول الخطاب كذلك للايجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثا فعليا بالاضافة إليه، و تقديريا بالنسبة إلى الفاقد له (2)

______________________________

فرجه كما في الاخبار الدالة على الاحكام المخزونة إلى وقت ظهوره عجل اللّه فرجه، و لذا قال (قدس سره): «و مع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الاحكام باقيا مر الليالي» إلى آخر كلامه (قدس سره).

(1) حاصل ان قلت: انه إذا كان الطلب لا يكون طلبا حقيقيا فعليا الّا بعد تحقق الشرط فيكون إنشاؤه قبل تحقق شرطه لغوا لا فائدة فيه، بخلاف ما إذا كان الطلب مطلقا و القيد راجعا إلى المادة فإن فائدة انشائه واضحة، لتحقق الوجوب بالفعل و تكون سائر مقدمات الواجب واجبة عدا الشرط الذي اخذ على سبيل الاتفاق كما سيأتي بيانه.

و بالجملة: ان الطلب المنشأ بالصيغة إذا لم يكن فعليا بان يكون القيد راجعا اليه فلا يتحقق طلب حقيقي قبل تحقق القيد لا تظهر لهذا الانشاء فائدة، و لذا قال: «فما فائدة الانشاء إذا لم يكن المنشأ به»: أي الطلب المنشأ به «طلبا فعليا و بعثا حاليا» لأن القيد إذا رجع إلى الطلب- كما هو رأي القائلين بالواجب المشروط- لا يكون المنشأ بالصيغة طلبا فعليا و بعثا حاليا حقيقيا الّا بعد تحقق الشرط.

(2) ذكر له- في قوله: قلت- فائدتين:

الأولى: ان هذا الخطاب و الإنشاء الذي كان الطلب الحقيقي فيه مشروطا بتحقق الشرط الفائدة في انشائه بنحو التعليق هو انه بعد تحقق الشرط لا يحتاج إلى انشائه ثانيا، لانه بمجرد تحقق الشرط يكون الانشاء المعلق على الشرط فعليا حقيقيا، و ربما

ص: 77

فافهم (1) و تأمل جيدا.

دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع

ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط، في محل النزاع أيضا، فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق، غاية

______________________________

يكون الآمر حال تحقق الشرط غير متمكن من الانشاء و الخطاب و بانشائه السابق تحقق طلبه و يكون فعليا حقيقيا، و الى هذا أشار بقوله: «لولاه لما كان فعلا متمكنا من الخطاب».

الفائدة الثانية: ان الواجب المشروط ربما يكون شرطه محققا بالنسبة إلى بعض المكلفين فيكون الطلب في حقه حقيقيا و لا يكون متحققا بالنسبة إلى الآخرين فيكون الطلب في حقهم طلبا تقديريا كالاستطاعة التي شرط وجوب الحج بها، فإن الوجوب بالنسبة إلى من عنده استطاعة وجوب فعلي حقيقي، و بالنسبة إلى غير المستطيع تقديري و معلق على تحقق الاستطاعة.

و الحاصل: ان الواجب المشروط لا يلزم ان يكون دائما غير فعلي حال انشائه، بل قد يكون حال انشائه فعليا حقيقيا بالنسبة إلى من تحقق عندهم شرط الوجوب، و الى هذا أشار بقوله: «هذا مع شمول الخطاب كذلك»: أي مع كونه واجبا مشروطا «للايجاب فعلا» فيكون الواجب المشروط في حين انشائه واجبا فعليا «بالنسبة إلى الواجد للشرط» كما عرفت ذلك فيمن تحقق عنده شرط فعلية الخطاب بالحج و هي الاستطاعة «فيكون بعثا فعليا بالاضافة اليه و تقديريا بالنسبة إلى الفاقد له»: أي بالنسبة إلى الفاقد للشرط: أي غير المستطيع.

(1) يمكن ان يكون إشارة إلى انه لا يلزم ان يكون للانشاء حال عدم الشرط فائدة، إذ لا يجب على المولى ان يؤخر إنشاءه إلى حصول شرط الوجوب بعد ان كان يمكنه الانشاء معلقا على الشرط فهو احد الطريقين فيكون مخيرا بين تاخير الانشاء إلى زمان حصول الشرط و بين ان ينشأ معلقا على الشرط.

ص: 78

الامر تكون في الاطلاق و الاشتراط تابعة لذي المقدمة (1) كأصل الوجوب بناء على وجوبها من باب الملازمة (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها، و المعلول تابع للعلة فإن كان وجوب ذيها فعليا حقيقيا كان وجوبها فعليا حقيقيا و ان كان وجوب ذيها تقديريا يكون وجوبها تقديريا، و اذا كان وجوب المقدمة تابعا فالمقدمة في الاطلاق و الاشتراط- أيضا- كذلك، فمقدمة الواجب المطلق واجبة مطلقا و مقدمة الواجب المشروط مشروطة مثله.

فاذا عرفت هذا تعرف انه لا وجه لتخصيص النزاع بخصوص مقدمة الواجب المطلق و خروج مقدمة الواجب المشروط عن محل النزاع، بل هي داخلة- أيضا- غايته انها من الواجب المشروط على وفق ذيها، و لذا قال: «الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع» فبناء على الملازمة تكون واجبة مشروطة.

(2) أي كما أنها في أصل وجوبها تابعة لوجوب ذيها كذلك في اطلاقها و اشتراطها تابعة له أيضا.

لا يقال: ان سبب حكم العقل بوجوب المقدمة انه إذا تعلق الطلب الحقيقي بذي المقدمة فيكون المولى بالفعل طالبا لإيجادها، و حيث يتوقف ايجاد ذي المقدمة على المقدمة فيلازمه تحقق طلب من المولى لايجاد المقدمة لتوقف ذيها عليها، اما الواجب المشروط فقبل تحقق الشرط لا طلب حقيقي بالفعل متعلقا بايجاد ذي المقدمة فلا يلزم ان يتحقق طلب للمقدمة قبل تحقق الشرط.

فانه يقال: قد عرفت ان وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها و المعلول تابع لعلته فعلا و تقديرا، و لا يعقل ان يتبعه فعلا و لا يتبعه تقديرا.

و بعبارة اخرى: ان ارادة ذي المقدمة فعلا يلازمه ارادة المقدمة فعلا، و اما قبل تحقق الشرط فهناك شوق لم يبلغ حد الارادة متعلق بذي المقدمة و يكون هذا الشوق

ص: 79

و أما الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه مما لا شبهة فيه، و لا ارتياب: أما على ما هو ظاهر المشهور و المنصور، فلكونه مقدمة وجوبية و أما على المختار لشيخنا العلامة أعلى اللّه مقامه فلانه و إن كان من المقدمات الوجودية للواجب، إلا أنه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه، فانه جعل الشي ء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب و يتعلق به الطلب و هل هو إلا طلب الحاصل (1)؟

______________________________

إرادة بالفعل عند تحقق الشرط، و يلازمه- أيضا- شوق يتعلق بمقدماته و يكون هذا الشوق ارادة فعلية- أيضا- عند تحقق الشرط، فانه سيأتي ان عمدة أدلة القائلين بالملازمة هي شهادة الوجدان: بان من اراد شيئا اراد مقدماته و لا بد ان يكون- أيضا- اذا اشتاق إلى الشي ء اشتاق إلى مقدماته.

(1) لا يخفى ان الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر القضية سواء كان على المذهب المعروف من رجوع القيد إلى الهيئة و أن الوجوب بالفعل معلق على تحقق الشرط أو كان راجعا إلى المادة كما هو مختار الشيخ (قدس سره)- لا يعقل ان يكون داخلا في محل النزاع و ان يقال بوجوبه المقدّمي، أما على المذهب المعروف في الواجب المشروط فلوضوح ان الوجوب بالفعل معلق على تحققه فقبل تحقق الشرط لا وجوب بالفعل فلا يعقل كون الشرط واجبا بوجوب فعلي مقدّمي، لأن الوجوب الفعلي معلق عليه و لا وجوب تقديري له أيضا، لأن الوجوب التقديري انما يكون لما يمكن أن يكون له وجوب فعلي، و هذا الشرط المعلق عليه الوجوب الفعلي لا يعقل أن يكون له وجوب فعلي، لانه قبل تحققه لا وجوب فعلي لذي المقدمة حتى يسري اليه و بعد تحققه لا يعقل ان يكون واجبا لانه من تحصيل الحاصل، إذ الغرض من ايجاب الشي ء تحصيله و المفروض انه قد حصل فلا معنى لتحصيله، هذا على ما هو المشهور

ص: 80

نعم على مختاره (قدس سره) لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه، لتعلق بها الطلب في الحال على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال، و ذلك لان إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي، و الواجب إنما هو استقبالي، كما يأتي في الواجب المعلق، فإن الواجب المشروط على مختاره، هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق، فلا تغفل.

______________________________

و المعروف في الواجب المشروط من رجوع القيد إلى الهيئة و انه لا طلب فعلي و لا وجوب كذلك قبل تحقق الشرط.

و أما على مختار الشيخ من رجوع القيد الى المادة فان الشرط على هذا ليس مقدمة وجوب كما هو بناء على كونه من قيود الهيئة بل هو من المقدمات الوجودية كسائر الشرائط للواجب الّا أن هذا الشرط بالخصوص اخذ على نحو لا يعقل ان يترشح عليه الوجوب، فإن قول القائل: ان جاءك زيد فاكرمه- بناء على رجوعه إلى المادة- ان المطلوب هو اكرام زيد المقيد بتحقق مجيئه من باب الاتفاق، و مع فرض اخذه شرطا من باب الاتفاق لا يعقل ان يكون واجبا، فإن لازم كونه واجبا وجوب تحصيله، و من الواضح ان وجوب تحصيله ينافي كونه ماخوذا على سبيل الاتفاق، لأن الماخوذ حصوله على سبيل الاتفاق لازمه انه لا يجب تحصيله، ففرض كونه واجبا بالوجوب المقدمي انه يجب تحصيله، و قد فرض انه لا يجب تحصيله فيلزم الخلف من كونه واجبا بالوجوب المقدمي.

و منه يتضح: ان المحذور فيه ليس طلب الحاصل- كما مرّ بناء على رجوع القيد إلى الهيئة- بل محذوره الخلف، فما يظهر من المصنف: من كون المحذور فيه- أيضا- طلب الحاصل لا يخلو من مسامحة إلّا ان يؤوّل كلامه: بان هذا الشرط قبل حصوله لا يعقل ان يكون واجبا لانه اخذ على سبيل الاتفاق و بعد حصوله لا يعقل لانه من طلب الحاصل.

ص: 81

هذا في غير المعرفة و التعلم من المقدمات (1).

______________________________

(1) قد عرفت انه على رأي الشيخ- من رجوع القيد إلى المادة- ان الهيئة غير مقيدة بالشرط، فالوجوب الذي هو مفادها لا يكون مقيدا و مشروطا بالشرط، و إذا لم يكن مشروطا بشي ء فيكون فعليا، و اذا كان الشرط الراجع إلى المادة محقق الوقوع في المستقبل: بان علم بمجي ء زيد في غد فالواجب يكون محققا في المستقبل، و اذا كان الوجوب فعليا و الواجب محققا في ظرفه فلا بد و ان يسري الوجوب إلى ساير مقدماته الوجودية بالفعل، اذ لا مانع عن سريان الوجوب لفرض تحقق الوجوب بالفعل و معلومية تحقق الواجب في ظرفه فتكون مقدماته الوجودية واجبة.

نعم، لو كان الواجب غير معلوم التحقق في ظرفه لا تكون مقدمات الواجب الوجودية معلومة الوجوب، لأن الغرض من وجوبها توقف وجود الواجب عليها، و متى كان الواجب غير معلوم التحقق لا يعقل ان تكون مقدماته الوجودية معلومة الوجوب، لعدم معلوميّة ما هو الغرض من وجوب مقدماته.

و على كل فقد اتضح: ان الواجب المشروط على رأي الشيخ: من رجوع القيد فيه إلى المادة و كون الهيئة الدالة على الوجوب غير مقيدة يرجع إلى الواجب المعلق، لأن الواجب المعلق كما سيأتي بيانه- كون الوجوب فيه فعليا و حاليا و الواجب استقباليا، و ليس هذا إلّا الواجب المشروط على رأي الشيخ الذي علم بتحقق شرطه في المستقبل، و الفرق بينهما في التسمية، فإن صاحب الفصول يسميه بالواجب المعلق، و الشيخ يسميه بالواجب المشروط و القيد راجع إلى المادة، و إلّا فلا فرق بينهما في الحقيقة، و سيأتي في الواجب المعلق وجوب جميع مقدمات الواجب المعلق، و اذا كان الواجب المشروط عند الشيخ يرجع إلى الواجب المعلق فلا بد من التزامه بوجوب جميع مقدماته عدا الشرط الذي اخذ في المادة، و الى هذا أشار بقوله: «لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه» لما عرفت ان المقدمة التي علّق عليها الطلب و الوجوب لا يعقل وجوبها حتى على رأي الشيخ من عدم تعلق الوجوب

ص: 82

و أما المعرفة، فلا يبعد القول بوجوبها، حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار قبل حصول شرطه، لكنه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها إلا مع الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقل بعده بالبراءة، و إن العقوبة على المخالفة بلا حجة و بيان، و المؤاخذة عليها بلا برهان (1).

______________________________

عليها و رجوع القيد إلى المادة، و لكن لو كانت هناك مقدمات اخرى لم يعلّق عليها الطلب «لتعلق بها الطلب في الحال» لأن الوجوب فعلي.

(1) تعلم الاحكام و معرفتها باوامرها و نواهيها مما لا اشكال في وجوبه، لقيام الاجماع و الاخبار على ذلك، كما ذكروا ذلك عند البحث في هذه المسألة مفصلا في شرائط الاصول من مباحث البراءة، و قد وقع الكلام في ان وجوبها هل هو وجوب مقدمي أو انه نفسي أو انه عقلي ارشادي، و اذا امكن القول: بان وجوبها مقدمي في الواجبات المطلقة فلا يمكن القول به في الواجبات المشروطة لعدم الوجوب قبل تحقق الشرط، فانه إذا كان ذو المقدمة غير واجب قبل تحقق شرطه فلا يعقل القول بوجوب المقدمة الساري وجوبها اليها من وجوب ذيها، و هذا الاشكال هو السبب في التعرض لها في المقام، فانه بناء على الواجب المشروط و ان القيد راجع إلى الهيئة و انه لا وجوب قبل تحقق الشرط لازمه عدم وجوب المعرفة قبل تحقق الشرط، لأن المقدمة تابعة في الاطلاق و الاشتراط لذيها- بناء على كون وجوب المعرفة وجوبا مقدميا- و لا يمكن القول: بان وجوب المعرفة وجوب مقدّمي، لانه قد قام الاجماع و الاخبار على وجوب المعرفة مطلقا في الواجبات المطلقة و المشروطة.

و قد اختار المصنف ان وجوبها ليس وجوبا مقدميّا من باب الملازمة بينها و بين وجوب ذيها، بل هي واجبة لاستقلال العقل بوجوبها بملاك وجوب الفحص عن اوامر المولى و نواهيه عقلا لئلا يقع العبد في مخالفة المولى في احكامه المنجزة، فإن العبد

ص: 83

فافهم (1).

______________________________

الملتفت إلى انه غير مهمل و انه له تكاليف منجزة عليه و يجب امتثالها و لا تعلم تلك التكاليف- عادة- الّا بالبحث و الفحص عن تلك الاحكام و معرفتها و تعلمها لئلا يقتحم فيما يخالف المولى، و ان اهماله للفحص و التعلم خروج عن زي الرقيّة و رسم العبودية، فالفحص و التعلم واجب بوجوب عقلي، و لا فرق في حكم العقل بذلك في الواجبات المطلقة و المشروطة و لذا قال (قدس سره): «فلا يبعد القول بوجوبها»:

أي بوجوب الفحص و التعلم «حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار» و هو رجوع القيد إلى الهيئة و ان الوجوب مشروط و قبل تحقق الشرط لا وجوب، و مع ذلك يجب الفحص و التعلم في الواجب المشروط «قبل حصول شرطه لكنه لا بالملازمة»: أي ليس الوجوب وجوبا مقدميا من باب الملازمة حتى يقال: بانه لا مجال في الواجب المشروط قبل حصول شرطه «بل من باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الانام بمجرد قيام احتمالها» فإن العقل حيث يحتمل وجود احكام منجزة لا يحصل التوقي عن اقتحامها إلّا بالفحص و التعلم، فيحكم بوجوب الفحص و التعلم و انه لو لم يفحص و يتعلم و وقع في مخالفة المولى يستحق العقاب و الذم، فباحتمال العقل وجود احكام منجزة يحكم بوجوب الفحص و التعلّم. نعم، بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالاحكام يحكم بالبراءة لو وقع في مخالفتها، و ان العقاب عليها عقاب بلا بيان.

فاتضح: ان الملاك في وجوب التعلم و المعرفة عند العقل هو احتمال وجود احكام منجزة لا يحصل التوقي من الاقتحام فيها الّا بالفحص و التعلم، فالمعرفة واجبة بوجوب عقلي لا بوجوب مقدّمي، فلا اشكال في وجوبها قبل تحقق الشرط، لأن وجوبها عقلي بملاك غير ملاك الوجوب المقدمي.

(1) لعله يشير بقوله: فافهم- إلى انه على هذا المبنى لا فرق بين المعرفة و ساير مقدمات الواجبات المشروطة قبل تحقق شرطها، لأن تعلم الواجب المشروط قبل تحقق شرطه

ص: 84

تذنيب

تذنيب: لا يخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا، و أما بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك على الحقيقة على مختاره (قدس سره) في الواجب المشروط، لان الواجب و إن كان أمرا استقباليا عليه، إلا أن تلبسه بالوجوب في الحال، و مجاز على المختار، حيث لا تلبس بالوجوب عليه قبله، كما عن البهائي رحمه اللّه تصريحه بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط، بعلاقة الاول أو المشارفة (1).

______________________________

انما هو لاحتمال ان لا يسع الوقت بعد تحقق الشرط لمعرفة الواجب و امتثاله فينتهي الحال إلى ترك الواجب في ظرفه باختياره، و على هذا المبنى فلا فرق بين المعرفة و ساير مقدمات الواجب المشروط التي يحتمل انه إذا لم تتهيأ قبل تحقق الشرط قد تؤدي إلى ترك الواجب في ظرفه، و لعله لا يلتزم به القائلون بوجوب المعرفة.

(1) قد تقدم ان المشتق حقيقة في المتلبس، و مطابقه الذي يصح حمله عليه حقيقة المتلبس بالمبدإ، فاذا كان الحمل بلحاظ حال التلبس فهو حقيقي و ان كان التلبس في الماضي أو المستقبل. و لا إشكال في ان حمله بالفعل على من يتلبس بالمبدإ في المستقبل مجاز قطعا، و لا إشكال- أيضا- في ان لفظ الواجب مشتق من المشتقات.

و لا يخفى ان الواجب المشروط الذي يتحقق شرطه في المستقبل ليس بواجب فعلا بناء على مذهب المشهور: من كون القيد راجعا إلى الهيئة، و ان الشرط من مقدمات الوجوب لا الواجب، و أما بناء على مسلك الشيخ (قدس سره) و ان القيد يرجع إلى المادة فيكون من مقدمات الواجب دون الوجوب، و ان الوجوب فعلى فيكون الواجب المشروط على هذا واجبا بالفعل لتلبسه بالوجوب بالفعل، فاذا اطلق لفظ الواجب على الواجب المشروط باعتبار حال تلبسه فهو حقيقة على مسلك المشهور و على مسلك الشيخ، و انما الفرق بينهما انه على مسلك الشيخ هو مطابق له بالفعل، و على مسلك المشهور يكون مطابقا له في حال تحقق الشرط، و هذا مراده (قدس سره)

ص: 85

و أما الصيغة مع الشرط، فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها على مختاره (قدس سره) في الطلب المطلق، و على المختار في الطلب المقيد، على نحو تعدد الدال و المدلول، كما هو الحال فيما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد (1).

______________________________

«على الحقيقة مطلقا»: أي على مذهب الشيخ و على مذهب المشهور، لما عرفت ان الاطلاق بلحاظ حال التلبس.

و اما اطلاق لفظ الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حاله قبل حصول شرطه، فعلى مسلك المشهور مجاز لانه من اطلاق المشتق على من سيتلبس بالمبدإ في المستقبل و هو من المجاز قطعا، و اما على مسلك الشيخ فهو من الاطلاق الحقيقي لانه متلبس بالمبدإ في تلك الحال، لأن الوجوب عنده فعلي قبل حصول الشرط، و لذا قال (قدس سره): «و اما بلحاظ حال قبل حصوله»: أي اطلاق الواجب على الواجب المشروط في حالة قبل حصول شرطه «فكذلك على الحقيقة على مختاره»:

أي ان اطلاقه عليه بلحاظ تلك الحال فهو- أيضا- من الاطلاق الحقيقي على مسلك الشيخ لما قد عرفت: من ان الواجب المشروط على مسلكه وجوبه فعلي قبل حصول شرطه، فهو متلبس بالوجوب قبل حصول شرطه، و ان كان ظرف اتيان الواجب منوطا بتحقق الشرط في المستقبل، و لذا قال (قدس سره): «لأن الواجب و ان كان امرا استقباليا»: أي ظرف اتيانه استقبالي لانه منوط بتحقق الشرط في المستقبل «إلّا ان تلبسه بالوجوب في الحال».

و أما على مسلك المشهور الذي هو المختار للماتن، فقد عرفت ان اطلاقه بلحاظ حال الواجب قبل حصول شرطه فهو من المجاز، و لذا قال: «و مجاز على المختار حيث لا تلبس» للواجب المشروط «بالوجوب عليه»: أي على المختار الذي هو مسلك المشهور «قبله»: أي قبل حصول الشرط.

(1) لا يخفى ان الصيغة عند المصنف موضوعة للوجوب الذي هو المقسم للمطلق و المشروط، لأن الهيئة موضوعة للبعث الوجوبي المتعلق بالمادة، فالاطلاق

ص: 86

.....

______________________________

و الاشتراط خارجان عما هو الموضوع له في هيئة الصيغة، و لذا يصح تقسيمه إلى الوجوب المطلق و المشروط، فتقول: افعل تنقسم إلى الوجوب المطلق و المشروط.

و المصنف ذكر اولا المستعمل فيه الصيغة في الواجب المشروط، و الفرق بينه و بين الشيخ، ثم عطف عليه الصيغة المستعملة في الواجب المطلق المقابل للمشروط.

و حاصل ما ذكره: ان الصيغة في الواجب المشروط على كل من رأي المصنف و الشيخ مستعملة في الوجوب و الطلب، و انما الفرق بينهما ان القيد على رأي الشيخ في الواجب المشروط يرجع إلى المادة، فالوجوب المستفاد من الصيغة وجوب مطلق غير مقيد، و على رأي المصنف حيث ان القيد يرجع إلى الهيئة فالشرط راجع إلى الوجوب إلّا ان الهيئة قد دلت على ذات المقيد و هو الوجوب و الشرط دل على قيده، فالهيئة مستعملة في نفس الوجوب أيضا، و المجموع قد دل على الطلب المقيد، و لذا قال (قدس سره): «و اما الصيغة مع الشرط فهي حقيقة على كل حال»: أي انها على كل حال مستعملة في الوجوب حقيقة، غايته ان الشيخ لا يرى الوجوب المستفاد من الصيغة مقيدا لأن القيد عنده من قيود الواجب الذي هو المادة دون الوجوب، فلا بد و ان يكون الطلب و الوجوب المستفاد من الصيغة هو المطلق و لذا قال:(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 2 ؛ ص87

لاستعمالها على مختاره»: أي على مختار الشيخ « (قدس سره) في الطلب المطلق».

و أما على مختار المصنف- من رجوع القيد إلى الهيئة، و ان الوجوب هو الذي يلحقه الشرط و القيد فائضا الصيغة مستعملة في ذات المقيد الذي هو الطلب و القيد مستفاد من الشرط و لذا قال: «و على المختار في الطلب المقيد»: أي مستعملة في الطلب المقيد و لكن «على نحو تعدد الدال و المدلول» فالصيغة لم تستعمل في الوجوب المشروط- بما هو مشروط- بل قد استعملت في الوجوب، و الشرط قد استفيد من الدال الآخر، ثم عطف على الصيغة في الواجب المشروط الصيغة في الواجب المطلق، و ان الصيغة فيه- أيضا- مستعملة في الوجوب و الاطلاق- أيضا- مستفاد من الدال الآخر، غايته ان الدال الآخر هو مقدمات الحكمة و لذا قال:

ص: 87


1- آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

لا المبهم المقسم (1) فافهم (2).

______________________________

«كما هو الحال فيما إذا اريد منها المطلق المقابل للمقيد»: أي كما ان الوجوب المشروط مستفاد بنحو تعدد الدال و المدلول كذلك الوجوب المطلق المقابل للمشروط- أيضا- وجوبه مستفاد من الصيغة و اطلاقه من دال آخر و هو مقدمات الحكمة، فالوجوب المطلق مستفاد بنحو تعدد الدال و المدلول كالحال في الواجب المشروط.

(1) لا يخفى ان الوجوب المطلق تارة يراد منه ما يقابل المشروط، و اخرى يراد منه ما يقابل المطلق و المشروط الذي هو المقسم للوجوب المطلق و الوجوب المشروط، ففيما إذا كان المراد منه المطلق المقابل للمشروط فالمراد من الاطلاق هو السعة المقابل للتقييد و الاشتراط، و حيث انه موضوع لنفس الوجوب فلا بد و ان تكون السعة مستفادة من دال آخر و هو مقدمات الحكمة، و اما إذا كان المراد منه المطلق الذي هو المقابل للوجوب المطلق و المشروط و هو المقسم لهما فالصيغة تكون مستعملة في نفس ما وضعت له من دون ضم شي ء اليها فلا حاجة إلى دال آخر فتعدد الدال و المدلول في الوجوب المطلق المقابل للوجوب المقيد: أي المشروط، لا في الوجوب المطلق المقابل لكليهما الذي هو المقسم لهما.

و الحاصل: ان تعدد الدال و المدلول في الوجوب المطلق الذي هو قسم مقابل للوجوب المشروط، لا في الوجوب المطلق الذي يراد منه المقسم لهما الذي هو مبهم من حيث السعة و التقييد، و لذا اطلق عليه المبهم، لأن المطلق المقابل للمقيد تستفاد منه السعة فلا يكون الطلب المستفاد منه مبهما بل مبيّنا بالسعة و الاطلاق، بخلاف المطلق المقسم فانه لا يستفاد منه سعة و لا تقييد فهو مبهم.

(2) لعله يشير بقوله: «فافهم» إلى ان الصيغة على رأي الشيخ في الشرط لا ينبغي ان يستفاد منها الوجوب المطلق المقابل للمشروط، لانها على رأيه موضوعة بالوضع العام و الموضوع له الخاص، فمدلولها جزئي و الجزئي غير قابل للاطلاق و التقييد.

ص: 88

تقسيم الواجب إلى المعلق و المنجز
اشارة

و منها: تقسيمه إلى المعلق و المنجز، قال في الفصول إنه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، و لا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، كالمعرفة، و ليسم منجزا، و إلى ما يتعلق وجوبه به، و يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، و ليسم معلقا كالحج، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة، أو خروج الرفقة، و يتوقف فعله على مجي ء وقته، و هو غير مقدور له، و الفرق بين هذا النوع و بين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب، و هنا للفعل. انتهى كلامه رفع مقامه.

لا يخفى أن شيخنا العلامة أعلى اللّه مقامه حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى، و جعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا و إثباتا، حيث ادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك، أي إثباتا و ثبوتا، على خلاف القواعد العربية و ظاهر المشهور، كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي، أنكر على الفصول هذا التقسيم، ضرورة أن المعلق بما فسره، يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك، كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذ هناك معنى آخر معقول، كان هو المعلق المقابل للمشروط.

و من هنا انقدح أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط، بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور، و القواعد العربية، لا الواجب المعلق بالتفسير المذكور. و حيث قد عرفت بما لا مزيد عليه امكان رجوع

______________________________

أو انه يشير إلى التأمل و التدقيق في ان الوجوب المطلق المقابل للمشروط اطلاقه كالاشتراط مستفاد من دال آخر، غايته ان الدليل عليه هو مقدمات الحكمة، و أما نفس الصيغة فغير موضوعة له.

ص: 89

الشرط إلى الهيئة، كما هو ظاهر المشهور و ظاهر القواعد، فلا يكون مجال لانكاره عليه (1).

______________________________

(1) ينقسم الوجوب عند صاحب الفصول 7] إلى ثلاثة اقسام: منجّز، و معلّق، و مشروط. و المنجّز ما كان وجوبه فعليا، و الواجب فيه- أيضا- كذلك و مثل له بالمعرفة، و المعلق ما كان وجوبه فعليا و الواجب معلق على شي ء غير حاصل، كالحج بعد الاستطاعة و قبل وقته، و المشروط ما كان الوجوب فيه غير فعلي: بان كان معلقا على شرط غير حاصل كالحج قبل تحقق الاستطاعة.

و ينقسم الوجوب عند الشيخ إلى قسمين: مطلق، و مشروط. و المطلق هو ما كان وجوبه فعليا و الواجب لم يكن مشروطا بشرط غير حاصل، و المشروط ما كان وجوبه فعليا و الواجب فيه مشروط بشرط غير حاصل.

و لا يخفى ان ظاهر عبارة الفصول المنقولة في المتن- اولا- هو اختصاص الواجب المعلق بما كان شرط الواجب امرا غير مقدور، و لكن الذي يظهر من كلامه بعد ذلك انه لا اختصاص للواجب المعلق بغير المقدور، بل يعم حتى ما كان الشرط للواجب فيه مقدورا و لكنه اخذ على نحو الإنفاق.

و لا يخفى- أيضا- ان الفرق بين الوجوب المطلق و المشروط عند الشيخ هو كون الاول فعليا منجزا، و الثاني فعليا غير منجز على ما يظهر من البرهان الذي اقامه على إنكار الواجب المعلق- كما مر-.

و ملخصه ان الارادة المنبعثة عن المصلحة القائمة بالفعل تارة تكون لا على تقدير و غير معلقة على شي ء فهي ارادة مطلقة و منجزة.

و اخرى تكون الارادة المنبعثة عن المصلحة القائمة بالفعل غير منجزة و انما تكون منجزة على تقدير شرط يرتبط بالفعل المتعلق للارادة.

ص: 90

.....

______________________________

و الاول هو الواجب المطلق، و الثاني هو الواجب المشروط و لذلك بعد هذا التقسيم انكر الواجب المعلق.

إذا عرفت هذا يتضح: ان الواجب المشروط عند الشيخ هو الواجب المعلّق عند الفصول. و الشيخ في الحقيقة انما أنكر الواجب المشروط عند المشهور الذي يكون الشرط فيه راجعا إلى الوجوب لا إلى الفعل الواجب، و اقام البرهان على امتناع رجوع الشرط إلى الوجوب ثبوتا و اثباتا.

أما ثبوتا فلأن الهيئة التي مفادها الوجوب هي من المعاني الحرفية، و المعنى الحرفي جزئي غير قابل للاطلاق و التقييد.

و اما إثباتا فلأن المادة: أي الفعل الذي فيه المصلحة اما مطلقة أو مشروطة، و أما نفس الارادة و الوجوب فليس فيه مصلحة لا مطلقة و لا مشروطة فلذلك كان القيد لبّا يرجع إلى المادة لا إلى الهيئة- كما مر مفصلا- فالشرط يرجع إلى المادة ثبوتا لأن المادة قابلة للاطلاق و التقييد لأن فيها المصلحة التي هي تكون تارة مطلقة و اخرى مشروطة، فالاثبات- أيضا- يقضي بان المادة هي التي تكون مطلقة و مشروطة، و الى ما ذكرناه أشار المصنف بقوله: «حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى» يحتمل ان يكون مراده من ذاك المعنى هو الواجب المعلق عند الفصول، و يحتمل ان يكون اراد بذاك المعنى هو الواجب المشروط عند الشيخ من رجوع القيد إلى المادة، فيكون قوله: «جعل الشرط» تفسيرا لذاك المعنى الذي أشار اليه.

قوله: «ثبوتا و اثباتا» قد عرفت مراده من الثبوت و الاثبات.

قوله: «ما تقدم عن البهائي» و هو تصريح البهائي: بان اطلاق الواجب على الواجب المشروط مجاز قبل تحقق شرطه و لو كان فيه فعليا و القيد يرجع إلى المادة لكان الاطلاق حقيقيا لفعلية الوجوب.

ص: 91

نعم يمكن أن يقال إنه لا وقع لهذا التقسيم، لأنه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط و خصوصية كونه حاليا أو استقباليا لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم، و إلا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات، و لا اختلاف فيه، فإن ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا كما يأتي إنما هو من أثر إطلاق وجوبه و حاليته، لا من استقبالية الواجب (1).

______________________________

قوله: «انكر على الفصول الخ» لأن التقسيم عنده كما عرفت ثنائي و المشروط يرجع إلى المعلق، عند الفصول فلذا لا مجال عنده للواجب المعلق اذ لا يعقل ان يكون الواجب المعلق شيئا مقابلا للواجب المشروط.

قوله: «انما انكر الواجب المشروط الخ» لأن الواجب المشروط عنده هو المعلق عند الفصول، فهو في الحقيقة قد انكر الواجب المشروط الذي يكون القيد فيه راجعا إلى الهيئة الذي هو الواجب المشروط عند المشهور.

(1) بعد ان كان ايراد الشيخ على الفصول بعدم تعقل المعلق في غير محله- أورد المصنف عليه: بان هذا التقسيم لا موقع له فيما هو المهم في المقام، لأن الكلام في وجوب المقدمة و انها تابعة لوجوب ذيها في الاطلاق و الاشتراط، و ان وجوبها مناط بفعلية وجوب ذيها، و المعلق وجوبه فعلي كالمنجّز فمقدمته واجبة مثله، فليس لهذا التقسيم اثر في وجوب المقدمة بل هي واجبة سواء أ كان الوجوب منجزا ام لا و لا ربط لها بكون الواجب في المنجّز حاليا و في المعلق استقباليا لأنها انما تتبع الوجوب الفعلي و الوجوب فيها على حد سواء، و لذا قال (قدس سره): «و لا اختلاف فيه»: أي ان صحة التقسيم منوطة بما إذا كان اختلاف فيما هو المهم، و الحال لا اختلاف فيما هو المهم في هذا التقسيم «فإن ما رتبه عليه»:

أي الاثر الذي رتبه صاحب الفصول على المعلق من وجوب مقدماته «فعلا كما يأتي إنما هو اثر اطلاق وجوبه» و كون وجوبه غير مشروط بشي ء لأن الشرط في المعلق يعود للواجب لا للوجوب، و وجوب المقدمات يتبع اطلاق

ص: 92

فافهم (1).

ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق، و هو أن الطلب و الايجاب، إنما يكون بازاء الارادة المحركة للعضلات نحو المراد، فكما لا يكاد تكون الارادة منفكة عن المراد، فليكن الايجاب غير منفك عما يتعلق به، فكيف يتعلق بأمر استقبالي؟ فلا يكاد يصح الطلب و البعث فعلا نحو أمر متأخر (2).

______________________________

الوجوب «و حاليته» و لا ربط لوجوب المقدمة بالواجب حتى يكون وجوبها في المنجز غير وجوبها في المعلق، لأن الفرق في المعلق و المنجز انما هو في الواجب لا في الوجوب.

(1) و لعله أشار بقوله: «فافهم» إلى ان الفصول انما صح له التقسيم باعتبار كون المعلق يشترك مع الواجب المشروط في كون زمان الواجب فيهما متأخرا، و يفترق المعلّق عن المشروط ان زمان الوجوب فيه متقدم، و وجوب المقدمة منوط بتقدم زمان الوجوب، و الّا لو كان الوجوب متأخرا كزمان الواجب كما هو في المشروط لما وجبت مقدماته.

(2) لقد أشكل على الواجب المعلّق باشكالات: منها هذا الذي أشار اليه المنسوب إلى صاحب تشريح الاصول 8].

و حاصله: ان الارادة التشريعية هي بازاء الارادة التكوينية، و الارادة التكوينية- كما عرفوها-: هي الجزء الأخير من العلة التي تتحرك بها العضلات نحو الفعل المراد، فلا يعقل انفكاك زمان وجود المراد عن زمان وجود الارادة و إلّا لزم تخلف المعلول عن علته التامة، لأن المفروض ان الارادة هي الجزء الاخير من العلة التامة فلا بد من كون العلة تامة، و مع تمام العلة، لا يعقل تخلف المعلول عنها.

ص: 93

قلت: فيه أن الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي، كما تتعلق بأمر حالي، و هو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل، ضرورة أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة و كثير المئونة ليس إلا لاجل تعلق إرادته به، و كونه مريدا له قاصدا إياه، لا يكاد يحمله على التحمل إلا ذلك (1) و لعل الذي أوقعه في الغلط ما

______________________________

و الفرق بين الارادة التكوينية و التشريعية هي ان الاولى هي ارادة الفعل للفاعل نفسه: بان يريد فيفعل، و الثانية هي ارادة الفعل من الغير، فكما لا يمكن تخلف المراد عن الارادة التكوينية زمانا فكذلك لا يمكن تخلف المراد التشريعي عن الارادة التشريعية زمانا، فكيف يعقل ان يكون الوجوب الذي هو الارادة التشريعية و الطلب من الغير متحققا في زمان لا يكون المطلوب فيه و المراد معقول التحقق؟ لوضوح اشتراط حصوله بزمان متأخر بحيث لو كان المكلف في تمام الانقياد و الطاعة لا يعقل ان يتحقق منه الامتثال، و المفروض ان الارادة التشريعية و الطلب و البعث بازاء الارادة التكوينية و بعث الشخص نفسه إلى الفعل بحيث لو حلت محلها لعملت عملها، فعلى هذا لا يعقل ان يكون الوجوب حاليا و الواجب استقباليا و لذا قال: «فكما لا يكاد تكون الارادة منفكة عن المراد»: أي إذا تمّ عدم معقولية انفكاك الارادة التكوينية عن المراد التكويني «فليكن الايجاب غير منفك عما يتعلق به» لأن الايجاب هو الارادة التشريعية التي هي بمنزلة الارادة التكوينية «فكيف يتعلق بأمر استقبالي».

(1) توضيحه: ان الارادة ليست هي إلّا الشوق المؤكد الذي يبعث المريد على تحصيل متعلق ارادته، و دون هذه المرتبة لا يسمى بالارادة، فما لم يبلغ الشوق إلى حد يكون باعثا لصاحبه على تحصيل ما تعلقت به ارادته لا يسمى بالارادة، لأن الارادة هي الشوق المؤثر بالفعل، و الشوق غير الباعث على تحصيل المراد ليس مؤثرا بالفعل فليس هو بارادة لعدم بلوغه حد التأثير.

ص: 94

.....

______________________________

و لا شبهة- وجدانا- في ان الشوق الذي ينبعث منه تحريك العضلات إلى مقدمات المراد قد بلغ حد الارادة، لوضوح تأثيره في تحصيل المراد.

و البرهان على بلوغه لحد الارادة ان ارادة المقدمات معلولة لارادة ذي المقدمات فما لم تكن هناك ارادة لذي المقدمة لا تنبعث منها ارادة المقدمة و بالوجدان انه ربما يكون الزمان الذي يمكن فيه حصول المراد لا يحصل إلّا بعد ازمنة متعددة تكون ظروفا للمقدمات التي يتوقف عليها حصوله.

فاتضح مما ذكرنا: ان الارادة المتعلقة بالمراد موجودة قبل الزمان الذي يمكن فيه حصول المراد، و هو الزمان الذي يكون فيه متحركا نحو تحصيل المقدمات التي لا يمكن ان يحصل المراد الّا بعد تحققها و تحصيلها. و اذا تم البرهان على تحقق الارادة في وقت لا يمكن فيه حصول المراد لتوقفه على مقدماته- اتضح ان الارادة كما تتعلق بأمر فعلي حالي تتعلق- أيضا- بأمر استقبالي.

و بعبارة اخرى: ان الارادة ليست هي الّا الشوق التام في كونه سببا للمراد، و بحيث لا نقصان في ذات كونه شوقا للمراد.

تارة: يكون المراد لا مقدمات له فيحصل بمجرد بلوغ الشوق إلى ذلك الحد.

و اخرى: يكون له مقدمات فلا يعقل حصوله الّا بعد مقدماته و لكن لا نقصان في ذات الشوق المتعلق بالمراد، لوضوح انه بعد حصول المقدمات لا يترقى الشوق المتعلق بالمراد من حد الضعف إلى القوة، بل هو على ما هو عليه قبل تحقق جميع المقدمات، و لو لم يكن بالغا إلى حد التمام في الشوقية لما انبعثت منه ارادة تحصيل المقدمات، فالشوق المتعلق بما له مقدمات تام في سببيته و انما لم يتحقق المراد لوجود المانع و هو توقفه على المقدمات، أمّا ذات السبب هو الشوق المتعلق بالمراد فلا نقصان فيه.

و قد اتضح مما ذكرنا وجه قوله: «ان الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلق بأمر حالي»، و قد أشار إلى البرهان الذي ذكرناه بقوله: «ليس إلّا لأجل

ص: 95

قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد، و توهم أن تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد، و قد غفل عن أن كونه محركا نحوه يختلف حسب اختلافه، في كونه مما لا مئونة له كحركة نفس العضلات، أو مما له مئونة و مقدمات قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له، و الجامع أن يكون نحو المقصود (1)، بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الارادة

______________________________

تعلق إرادته»: أي ان تحمل المشاق في تهيئة المقدمات و تحصيلها ليس الّا لأجل تعلق ارادته به: أي بذي المقدمة، لأنه من إرادته لذي المقدمة تنشأ ارادة المقدمات و تحصيلها، ففي زمان إرادة المقدمات التي هي المعلول لارادة ذي المقدمة لا بد و ان تكون العلة التي هي ارادة ذي المقدمة موجودة لعدم إمكان تحقق المعلول في زمان و لا تكون العلة متحققة في ذلك الزمان، فلا بد في ذلك الزمان و هو زمان المقدمات من تحقق «كونه مريدا له»: أي مريدا لذي المقدمة «قاصدا اياه»: أي قاصدا لذي المقدمة، و لو لا تحقق كونه مريدا لذي المقدمة و تحقق قصده التام له الذي لا نقصان فيه لما تحقق له قصد المقدمات و تحمل المشاق في المقدمات و انه «لا يكاد يحمله على التحمل»: أي على تحمل مشاق المقدمات «الا ذلك»: أي إلّا قصده و ارادته التامة لذي المقدمة.

(1) و حاصله بيان احتمال السبب لهذا القائل- بعدم امكان تعلق الارادة بأمر استقبالي-: هو انه قد سمع ان القوم يعرفون الارادة بانها الشوق المؤكد المحرك للعضلات، و توهم ان مرادهم هو ان الارادة البالغة لحد السببية التامة كونها تحرك العضلات نحو المراد الاصلي: أي المراد الذي تعلّقت به اولا و هو ذو المقدمة، فما لم يكن بحيث تتحرك العضلات اليه لا يكون الشوق المتعلق به ارادة، فالشوق انما يكون ارادة حيث يكون زمان المراد حاليا، و أما اذا كان زمانه استقباليا فلا يعقل ان تتحرك

ص: 96

.....

______________________________

العضلات اليه، و لذا ذهب إلى عدم امكان تعلق الارادة بأمر استقبالي، و عليه تبيّن محالية الواجب المعلق، لأن الارادة التشريعية بإزاء الارادة التكوينية.

و هذا توهم باطل بعد ان عرفت ان الشوق المتعلق بالمراد الاستقبالي لا نقصان في ذاته، و لو كان ناقصا لما نشأت منه ارادة المقدمات.

و مراد القوم في تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات هو كون الشوق بالغا في ذاته إلى حد التمامية بحيث انه لو كان المراد مما ليس له مقدمات لتحركت العضلات اليه، و ان كان مما له مقدمات فتتحرك العضلات لمقدماته، فمرادهم من تحريك العضلات الأعم من كونها لنفس المراد أو لمقدماته اولا، ثم اليه لعدم امكان حصوله الّا بعد تحقق مقدماته، و الذي يدلّك على كون الشوق المؤكد التام هو المحرك للعضلات بنحو اعم- من كونه لنفس المراد أو لمقدماته- ان نفس تحريك العضلات ربما يكون هو المراد الاصلي، كما لو كان الغرض الاصلي قائما بنفس تحريك العضلات كما في الرياضة البدنية، فإن نفس تحريك العضلات هو المطلوب بالأصالة، و ربما لا تكون حركة العضلات مطلوبة بالاصالة بل كانت مطلوبة لأن يتعقبها تحقق المراد المتعلق للغرض بالاصالة، كما لو كان المراد بالاصالة الوصول إلى مكان فإن حركة العضلات تكون مطلوبة بالتبع لأن طلبها انما هو لكونها مقدمة للوصول، و لا إشكال ان الشوق المتعلق بالوصول إلى مكان الذي كانت حركة العضلات مقدمة له هو كالشوق المتعلق بنفس حركة العضلات، و على كل منها يصدق انه شوق مؤكد محرك للعضلات.

فتبيّن: ان مرادهم في التعريف بالمحرك للعضلات هو الاعم من كونه محركا لذات المراد أو لمقدماته، اذ لا فرق بين مقدميّة نفس تحريك العضلات، و بين غيره من المقدمات التي يتوقف عليها تحقق المراد بالاصالة، و لذا قال: «و الجامع ان يكون نحو المقصود»: أي ان مرادهم من تحريك العضلات هو الأمر الجامع بين حركة العضلات لنفس المراد أو حركة العضلات لمقدماته، فالجامع لهما ان يكون الشوق

ص: 97

بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الارادة، و إن لم يكن هناك فعلا تحريك لكون المراد و ما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مئونة أو تمهيد مقدمة، ضرورة أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي، محتاج إلى ذلك (1) هذا مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر متأخر عن زمان البعث،

______________________________

بالغا إلى حد يحرك العضلات نحو المراد سواء كان اليه بالذات أو تحريكا إلى مقدماته، لأن التحريك إلى مقدماته انما نشأ من الشوق المؤكد التام المتعلق به.

(1) حاصله: اقامة دليل آخر على ان مراد القوم من الشوق المحرك للعضلات هو المرتبة التي لا نقصان فيها من حيث كونها شوقا، بحيث يحرك العضلات لو لا المانع و لو لم يحرك العضلات فعلا لا إلى المطلوب بالذات و لا إلى مقدماته، و ذلك فيما إذا كان المطلوب امرا استقباليا و لم يكن له مقدمات فهناك مانع من تحريك العضلات اليه، لانه امر استقبالي و ليس له مقدمات حتى يكون تحريك للعضلات اليها، و لكن الشوق في حد ذاته كان شوقا لا نقصان فيه، فمثل هذا الشوق المؤكد هو الارادة عندهم و ان لم يحرك العضلات اصلا.

و الدليل على كونه هو ارادة و ان لم يحرك هو مقايسة هذا الشوق لو كان متعلقا بشي ء محبوب جدا للمريد، فانه بالوجدان إذا قيس إلى شوق آخر متعلق بشي ء آخر، و كان هذا الآخر اقل اهمية و محبوبية عند المريد من الشوق الاول و لكنه ما كان هناك مانع له من تحريك العضلات اليه، أو كان الشوق الثاني- الذي هو اقل في حد الشوقية من الشوق الاول- متعلقا بأمر استقبالي و لكنه كان محتاجا إلى تهيئة مقدمات، فإن الشوق الثاني يحرك العضلات إما اليه أو إلى مقدماته مع انه اقل في حد ذات الشوقية من الشوق الاول. فكيف يعقل ان يكون الشوق الثاني ارادة مع انه اقل في حد الشوقية من الاول و لا يكون الشوق الاول ارادة؟ و الى هذا أشار بقوله:

«ضرورة ان شوقه اليه ربما يكون اشد» بان يكون متعلق هذا الشوق الاول له اهمية

ص: 98

ضرورة أن البعث إنما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به، بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة، و على تركه من العقوبة، و لا يكاد يكون هذا إلا بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان، و لا يتفاوت طوله و قصره، فيما هو ملاك الاستحالة و الامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب، و لعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه، و الاطناب إنما هو لاجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب (1).

______________________________

جدا عند المريد، فلا بد و ان يكون اشد «من الشوق المحرك فعلا نحو أمر حالي» فيما كان امرا حاليا لا مانع من تحريك العضلات اليه، أو كان متعلقه امرا استقباليا و لكن كان له مقدمات تحتاج إلى تهيئة فانه يتحرك نحو مقدماته، و لذا قال: «أو استقبالي محتاج إلى ذلك»: أي يحتاج إلى مقدمات فيكون الشوق محركا- أيضا- و لكن إلى المقدمات.

و على كل فهذا الشوق الذي هو اقل في الشوقية من الاول لا يعقل ان يكون ارادة لكونه محركا للعضلات، و لا يكون الشوق الاول- مع انه اتم منه في الشوقية- ارادة لكونه لا يحرك العضلات، إذ لا يعقل ان يكون الناقص ارادة و لا يكون التام ارادة، و الكمال في حد الذات الذي هو العلة في تحريك العضلات اولى بان يكون موجبا لصدق الارادة من تحريك العضلات الذي هو معلول و لازم للشوق، فيكون المقياس في صدق الارادة تحريك العضلات، و لا يكون المقياس في صدقها تمامية ذات الشوق و كماله، كما عرفت في ان الشوق الاول المتعلق بما له الاهمية أتم من الشوق الثاني المتعلق بما أهميته اقل منه.

(1) لا يخفى ان المستشكل على الواجب المعلق قال: انه كما لا يمكن الانفكاك بين الارادة التكوينية و المراد التكويني، كذلك لا يمكن الانفكاك بين الارادة التشريعيّة و المراد التشريعي، فلا يعقل ان يكون البعث حاليا و المبعوث اليه امرا استقباليا.

ص: 99

و ربما أشكل على المعلق أيضا، بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث، مع أنها من الشرائط العامة (1).

______________________________

فاورد عليه المصنف بقوله: «هذا» و حاصله: لا بد من الانفكاك بين الارادة التشريعية و المراد التشريعي سواء امكن الانفكاك بين الارادة التكوينية و المراد التكويني- كما مرّ البرهان عليه- أو لم يمكن الانفكاك كما يدعيه المستشكل في الارادة التكوينية: بتوهم انها الجزء الأخير من العلّة، لأن الارادة التشريعية ليست هي الجزء الاخير من العلة قطعا، فإن البعث المتعلق بشي ء انما هو بداعي جعل الداعي للمكلف إلى الانبعاث، و لا يعقل ان يكون هذا البعث داعيا للمكلف إلى انبعاثه عنه الا بعد تصور المكلف له و التامل فيما يترتب عليه من اطاعة المولى فحينئذ ينبعث عنه، فالأمر المنجز المتعلق بشي ء حالي لا مقدمات له اصلا لا بد و ان يتاخر زمان الانبعاث عنه عن زمانه الذي هو زمان البعث و لو بزمان قصير.

و من الواضح انه لا فرق بين الطول و القصر في زمان الانفكاك، فاذا كان الانفكاك لازما و لو زمانا قصيرا في الامر المنجز الذي لا حالة منتظرة للانبعاث عنه، فكيف يكون الانفكاك في الزمان الطويل كما في الواجب المعلق مانعا؟، و ان من الواضح: انه إذا كان الانفكاك بين البعث و الانبعاث مستحيلا فلا يعقل ان يقع الانفكاك بينهما لا في زمان قصير و لا طويل، و قد عرفت أنه لا بد من الانفكاك بزمان ما، و لذا قال (قدس سره): «و لا يتفاوت طوله و قصره فيما هو ملاك الاستحالة».

(1) هذا من جملة الاشكالات التي أوردت على الواجب المعلق.

و حاصله انه لا إشكال في ان كون البعث بعثا فعليا مشروطا بالشرائط العامة، التي من جملتها كون المكلف قادرا على اتيان متعلق التكليف، و اذا لم يكن قادرا فلا يعقل ان يكون البعث بالنسبة اليه فعليا.

و لا ريب انه إذا كان زمان الاتيان بمتعلق التكليف استقباليا لا قدرة للمكلف فعلا على اتيان متعلق التكليف، و اذا لم يكن للمكلف قدرة بالفعل على اتيان متعلق

ص: 100

و فيه: إن الشرط إنما هو القدرة على الواجب في زمانه، لا في زمان الايجاب و التكليف، غاية الامر يكون من باب الشرط المتأخر، و قد عرفت بما لا مزيد عليه أنه كالمقارن، من غير انخرام للقاعدة العقلية أصلا، فراجع (1).

______________________________

التكليف لا يعقل ان يكون البعث اليه فعليا، لما عرفت من كون البعث الفعلي يتوقف على القدرة و هي مفقودة في المقام، فلا يعقل ان يكون البعث فعليا و في الحال و متعلق التكليف امرا استقباليا لا قدرة للمكلف على اتيانه بالفعل، و قد عرفت انه لا بد في الواجب المعلق ان يكون البعث فعليا و في الحال، و المبعوث اليه امرا استقباليا.

(1) حاصل الجواب عن هذا الاشكال ان القدرة التي هي شرط في كون التكليف فعليا هي قدرة المكلف على المبعوث اليه في زمان اتيان المبعوث اليه لا في زمان البعث، حيث ان الفعل المشترط بقدرة المكلف- من ناحية عدم امكان تكليف المكلف بما هو خارج عما يستطيع و يطيق و الذي يلزم به هذا الشرط الفعلي- ليس هو الاعم من القدرة في زمان التكليف مستمرة إلى زمان اتيان المكلف به، بل خصوص القدرة عليه في زمانه، فإن المكلف القادر على ما كلف به في زمانه لم يكلف بما هو خارج عن وسعه و طاقته.

و لا يخفى ان القدرة حيث انها شرط في كون التكليف فعليا إذا لم تكن في زمان البعث متحققة و كانت متحققة في زمان الواجب فلا بد و ان يكون كونها شرطا في التكليف قد اخذ في التكليف بنحو الشرط المتأخر و هو ان لحاظ المكلف قادرا في زمان الواجب هو الشرط في فعلية التكليف، و قد مر عليك معقولية الشرط المتأخر و انه ليس من المتأخر بل هو من المقارن، و الى هذا أشار بقوله: «غاية الامر يكون من باب الشرط المتأخر».

ص: 101

اشكال المصنف (ره) على صاحب الفصول (ره)

ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور، (1) بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر، أخذ على نحو يكون

______________________________

(1) يظهر من المصنف ان صاحب الفصول القائل بالواجب المعلق يخصه بخصوص ما إذا كان المتوقف عليه الواجب هو الزمان المتأخر، كالحج- مثلا- الذي لا يمكن الاتيان بالواجب فيه الا في ايام مخصوصة من ذي الحجة.

فأورد عليه: بأنه لا ينبغي تخصيص الواجب المعلق بذلك لأن الواجب المعلق ما كان الوجوب فيه فعليا و الواجب متأخرا، و تأخر الواجب كما يكون لتقييده بالزمان المتأخر، كذلك يكون متأخرا لتقييده بشي ء يكون حصوله الاتفاقي شرطا في الواجب، و هو و ان كان مقدورا عليه بالفعل إلّا انه لم يكن نفس وجوده شرطا في الواجب ليكون الواجب من المنجز بالفعل، بل كان حصوله- من باب الاتفاق- شرطا.

و بعبارة اخرى: ان الشرط اخذ على نحو لا يترشح اليه الوجوب من الواجب.

و مما ذكرنا يتضح: ان العبارة ينبغي ان تكون هكذا: «بل ينبغي تعميمه إلى امر مقدور متأخر اخذ على نحو لا يكون موردا للتكليف و يترشح عليه الوجوب من الواجب» باسقاط لفظة أولا من آخر العبارة و زيادة لفظة «لا» الداخلة على يكون في صدر العبارة كما انه ذكر كون العبارة هكذا بعض افاضل مقرري بحث المصنف قدس سرهما. و اما النسخ الموجودة المطبوعة فالعبارة فيها هكذا: «بل ينبغي تعميمه إلى امر مقدور متأخر اخذ على نحو يكون موردا للتكليف و يترشح عليه الوجوب من الواجب اولا» و هي لا تخلو عن اشكال، لأن الواجب المعلق معقول في الفرضين المذكورين، و هما كون تقييد الواجب فيه بالزمان المتأخر أو تقييده بحصول بعض مقدماته على سبيل الاتفاق، و مثل هذه المقدمة غير واجبة التحصيل لفرض كون اخذها على سبيل الاتفاق و ان حصولها بسبب طبيعي لها لا انها واجبة التحصيل، فوجوب تحصيلها لترشح الوجوب اليها خلف الفرض، و حيث انها غير موجودة في زمان البعث فيكون الوجوب الفعلي للواجب الذي اخذ فيه حصول

ص: 102

.....

______________________________

بعض مقدماته من باب الاتفاق و بسببه الطبيعي من الواجب المعلق، و اما كون المقدمة مقدورة و متأخرة و يترشح عليها الوجوب ففيه اشكال، لأن كونها مقدورة يترشح عليها الوجوب لا يجامع كونها متأخرة لانها إذا لم يكن حصولها الاتفاقي شرطا فانه يجب تحصيلها بالفعل، و اذا كانت متأخرة لتأخر زمانها ففيه:

اولا: ان الواجب يكون زمانه متأخرا فيدخل في الفرض الاول.

و ثانيا: ان كون زمانها متأخرا ينافي كونها مقدورة لأنها بالفعل غير مقدورة بل مقدورة في ظرفها.

و ثالثا: ان غرض المصنف الايراد على الفصول من حيث تخصيصه للواجب المعلق بخصوص ما كان مقيدا بالزمان المتأخر، و ليس غرضه بيان ان المقدمة المتأخرة تارة تكون غير واجبة التحصيل و اخرى لا تكون كذلك 9].

ص: 103

موردا للتكليف، و يترشح عليه الوجوب من الواجب، أو لا، لعدم

ص: 104

تفاوت فيما يهمه (1) من وجوب تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب على المعلق، دون المشروط، لثبوت الوجوب

______________________________

(1) أي ان السبب في ذكر الواجب المعلق و انه في قبال الواجب المشروط كالواجب المنجز هو كون الواجب المشروط حيث ان الوجوب فيه كان مشروطا بشي ء فلا وجوب له بالفعل، و اذ لم يكن للواجب وجوب بالفعل لا يترشح منه الوجوب على مقدماته، اذ لا يعقل تحقق المعلول الذي هو وجوب المقدمات قبل تحقق علته التي هي وجوب نفس الواجب، بخلاف الواجب المعلق فإن الوجوب فيه فعلي حالي فيترشح منه الوجوب على مقدماته قبل حضور زمان الواجب و يجب تحصيلها بالفعل اذا كانت هذه المقدمات لا يمكن ان تحصل في زمان الواجب، و على هذا فلا فرق في الواجب المعلق عن زمان وجوبه بين كونه مقيدا بزمان متأخر أو مقيدا بمقدمة اخذ حصولها على سبيل الاتفاق، و حيث لم تكن حاصلة بالفعل و الواجب مقيد بها فلا بد و ان لا يكون واجبا منجزا بالفعل، و حيث كان وجوبه بالفعل فهو من الواجب المعلق و يجب شرعا تحصيل مقدمات الواجب قبل زمان الواجب، و اذا كان المهم هذا فلا فرق- حينئذ- في تأخر الواجب المعلق بين كون تاخره لتأخير زمانه، أو لتأخر مقدمته التي اخذت على نحو يكون حصولها بسببها الطبيعي لا ان تكون واجبة التحصيل، و لذا قال (قدس سره): «لثبوت الوجوب الحالي فيه»: أي في الواجب المعلق «فيترشح منه الوجوب على المقدمة بناء على الملازمة» اذ بناء على عدم الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها شرعا لا وجوب شرعي للمقدمة في كل واجب سواء كان منجزا أو معلقا أو مشروطا، و الوجوب فيها يكون عقليا لا شرعيا، فلا يحصل فرق مهم بين المعلق و المشروط بل بين المنجز و المشروط، ثم قال (قدس سره): «دونه»: أي دون الواجب المشروط «لعدم ثبوته فيه»: أي لعدم ثبوت الوجوب بالفعل في الواجب المشروط حتى يترشح على مقدماته، لوضوح ان الوجوب في الواجب المشروط لا يكون «الا بعد الشرط».

ص: 105

الحالي فيه، فيترشح منه الوجوب على المقدمة، بناء على الملازمة، دونه لعدم ثبوته فيه إلا بعد الشرط.

نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر، و فرض وجوده، كان الوجوب المشروط به حاليا أيضا، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضا حاليا، و ليس الفرق بينه و بين المعلق حينئذ إلا كونه مرتبطا بالشرط، بخلافه، و إن ارتبط به الواجب (1).

______________________________

(1) ظاهر هذا الكلام انه استثناء من الواجب المشروط، و انه ليس كل واجب مشروط يلزم ان لا يكون وجوبه حاليا، بل رب واجب مشروط كان الوجوب فيه حاليا و هو ما إذا كان الشرط للوجوب متأخرا في التحقق لكنه لحظ شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخر، فانه إذا كانت شرطيته للوجوب بنحو الشرط المتأخر الراجع إلى كون لحاظه شرطا عند التأويل- كما سبق بيانه- فإن مثل هذا الواجب المشروط يكون وجوبه حاليا و تجب جميع مقدماته لفرض فعلية وجوبه حالا، و ينحصر الفرق- حينئذ- بينه و بين الواجب المعلق: ان الواجب المعلق لم يكن الوجوب فيه مرتبطا بالشرط، بل الواجب فيه هو المرتبط بالشرط، و الواجب المشروط بالشرط المتأخر كسائر افراد الواجب المشروط الوجوب فيه مرتبط بالشرط، إلّا ان هذا الواجب المشروط كان ارتباطه بالشرط بنحو الشرط المتأخر، و الى ما ذكرنا أشار بقوله:

«نعم إذا كان الشرط على نحو الشرط المتأخر و فرض وجوده» لا يخفى ان قوله:

و فرض وجوده هو كعطف تفسير على الشرط المتأخر لانه ما لم يكن شرط الوجوب مفروض الوجود لا يكون الوجوب حاليا و انه مأخوذ بنحو الشرط المتأخر، و متى اخذ الشرط مفروض الوجود «كان الوجوب المشروط به حاليا أيضا» و متى كان الوجوب حاليا «ف» لا بد أن «يكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب- أيضا- حاليا» لما عرفت: من ان وجوب المقدمات بالفعل تتبع حالية الوجوب «و ليس الفرق بينه»: أي بين الواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر «و بين

ص: 106

تنبيه: قد انقدح من مطاوي ما ذكرناه أن المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية، و كونه في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها هو فعلية وجوب ذيها، و لو كان أمرا استقباليا، كالصوم في الغد و المناسك في الموسم، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه و لو متأخرا، أو مطلقا، منجزا كان أو معلقا (1)، فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب

______________________________

الواجب المعلق حينئذ» بكون الوجوب في المعلق حاليا و في المشروط ليس بحالي، بل الوجوب في كليهما حالي و ليس الفرق بينهما- حينئذ- «الا كونه»: أي الا كون الوجوب في الواجب المشروط «مرتبطا بالشرط بخلافه»: أي بخلاف الواجب المعلق، فإن الوجوب فيه ليس مرتبطا بالشرط «و ان ارتبط به الواجب»: أي و ان ارتبط الشرط في الواجب المعلق بالواجب، فإن الوقت- مثلا- في الواجب المعلق شرط مرتبط بالواجب لا بالوجوب، و لكنه يظهر من كلامه اخيرا ان الغرض من هذا ليس صرف التنبيه على الاستثناء من الواجب المشروط، بل هو مقدمة لما يأتي من كلامه (قدس سره) انه لا ينحصر التفصي في الجواب عن اشكال وجوب مقدمات الواجب الذي كان زمانه متأخرا في القول بالواجب المعلق، بل يمكن مع القول بالواجب المشروط التزام وجوب المقدمات لكون الشرط اخذ بنحو الشرط المتأخر، و على هذا فلا يكفي الالتزام بالشرط المتأخر عن الالتزام بالواجب المعلق لأن وجوب المقدمات قبل زمان الواجب لا يصح الالتزام به إلّا بنحو الواجب المعلق، و اللّه العالم.

(1) يحتوي هذا التنبيه على مطلبين:

المطلب الاول: بيان المقدمة التي يترشح عليها الوجوب من ذيها و المقدمة التي لا يترشح عليها الوجوب منه.

و المطلب الثاني: ما اشرنا اليه من انه لا ينحصر الجواب عن اشكال وجوب المقدمة التي يجب الاتيان بها مع كون زمان الاتيان بذيها متأخرا في الواجب المعلق

ص: 107

.....

______________________________

كما في الفصول، أو برجوع القيد إلى المادة كما عن الشيخ الذي يرجع هذا- أيضا- إلى الواجب المعلق و ان ابى الشيخ عن تسميته بالواجب المعلق.

و توضيح المطلب الاول: انه حيث قد عرفت ان وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها فلا بد إذا كان وجوب المقدمة حاليا و فعليا ان يكون وجوب ذيها فعليا و حاليا- أيضا- لعدم معقولية تحقق المعلول قبل تحقق علته، و الى هذا أشار بقوله: «ان المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية و كونه»: أي و كون وجوبها فعليا و «في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها» بالفعل «هو فعلية وجوب ذيها» هذه الجملة هي الخبر لقوله: ان المناط. فاذا كان المناط في فعلية وجوب المقدمة المترشح من ذيها هو فعلية وجوبها فحينئذ لا بد و ان ينحصر في الافراد الآتية فإنها هي التي تكون وجوب ذي المقدمة فيها فعليا سواء كان زمان الواجب الذي هو ذو المقدمة متأخرا و استقباليا أو كان حاليا و فعليا- أيضا-.

الأول: من هذه الافراد هو الواجب الذي كان زمان الاتيان به متأخرا و لكن كان وجوبه مشروطا بالنسبة إلى ذلك الزمان بنحو الشرط المتأخر، كأن يأمر المولى- فعلا و حالا- بالصوم، أو يأمر- فعلا- باتيان المناسك في أيامها المعلومة من ذي الحجة، فزمان الواجب في هذا الامر استقبالي و الزمان كان شرطا لوجوب هذا الواجب بنحو الشرط المتأخر.

و قد عرفت ان الشرط الملحوظ بنحو الشرط المتأخر يرجع إلى المقارن، و حينئذ يكون شرط الوجوب في هذا متحققا، و متى كان شرط الوجوب متحققا لا بد و ان يكون الوجوب متحققا، فالأمر- فعلا- بالصوم في الغد و بالحج في ايام معلومة يمكن ان يكون وجوبه الفعلي مستندا إلى كونه من الواجب المشروط الملحوظ بنحو الشرط المتأخر، و الى هذا أشار بقوله: «هو فعلية وجوب ذيها و لو كان امرا استقباليا»:

أي و لو كان ذو المقدمة امرا استقباليا «كالصوم في الغد و المناسك في الموسم» فالامر في المثالين حالي و فعلي، و لذا يجب الاتيان بجميع ما يتوقف عليه الصوم في الغد من

ص: 108

أيضا، أو مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف، كما إذا أخذ عنوانا للمكلف، كالمسافر و الحاضر و المستطيع إلى غير ذلك، أو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله، و تقدير وجوده بلا اختيار أو باختياره موردا للتكليف، ضرورة أنه لو كان مقدمة الوجوب أيضا، لا يكاد يكون هناك وجوب إلا بعد حصوله، و بعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل كما أنه إذا أخذ على أحد النحوين يكون كذلك، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف، و مع حصوله

______________________________

المقدمات بالفعل، و يجب الاتيان بجميع ما تتوقف عليه المناسك من المقدمات بالفعل لأن وجوب ذي المقدمة فعلي فيترشح منه وجوب ساير مقدماته و ان كان نفس ذي المقدمة امرا استقباليا.

و السبب في كون الوجوب فعليا هو ان الشرط له- و هو الزمان المتأخر- اخذ فيه بنحو الشرط المتأخر، و الى هذا أشار بقوله: «كان وجوبه مشروطا بشرط موجود اخذ فيه و لو متأخرا» و لا يخفى ان قوله: و لو متأخرا انما حسن هذا الترقي لقوله:

كان وجوبه مشروطا بشرط موجود، فإن وجود الشرط متحقق و ان كان الشرط متأخر الوجود، لانه قد اخذ بنحو الشرط المتأخر الذي كان اللحاظ فيه هو الشرط و هو متحقق و مقارن.

الفرد الثاني من المقدمة التي تجب بالفعل و يترشح عليها الوجوب من ذيها هي مقدمة الواجب المطلق، و هو الواجب الذي لم يكن لوجوبه شرط، و هو فردان: الواجب المنجز، و الواجب المعلق، لأن الواجب المعلق الشرط فيه يرجع إلى الواجب. لا للوجوب و الاول كوجوب المعرفة فانها من الواجب المنجز، و الثاني كالحج- بناء على كون الزمان شرطا للواجب لا للوجوب- فانه حينئذ من الواجب المعلق، و أما إذا كان الزمان شرطا للوجوب فانه يكون من الوجوب المشروط بالشرط المتأخر- كما تقدم- و الى هذين أشار بقوله: «أو مطلقا منجزا كان أو معلقا».

ص: 109

لا يكاد يصح تعلقه به، فافهم. إذا عرفت ذلك (1)، فقد عرفت أنه لا إشكال أصلا في لزوم الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر

______________________________

(1) لا يخفى ان الكلام في تقسيم المقدمة الوجودية: أي مقدمة الواجب، و بيان ان بعضها يترشح عليها الوجوب، و بعضها لا يترشح عليها و قد ذكر ما يترشح عليها الوجوب ثم شرع في ما لا يترشح عليها الوجوب من المقدمة الوجودية: أي مقدمة الواجب. فما معنى ذكره لمقدمة الوجوب.

و الجواب عنه: ان كل ما كان مقدمة للوجوب و يتوقف عليه وجوب الواجب فهو من مقدمات الواجب، لأن تحقق الواجب بما هو واجب يتوقف على وجوبه المتوقف على تلك المقدمة، فمقدمة الوجوب هي- أيضا- من مقدمات الواجب. و لما ذكر الواجب المشروط بالشرط المتأخر و الواجب المعلق و انه يترشح الوجوب فيهما إلى المقدمة استثنى من ذلك المقدمة التي علق عليها الوجوب و انها مما لا يترشح عليها الوجوب، و قوله: «أيضا» لبيان ما ذكرنا: من ان المقدمة المعلق عليها الوجوب هي- أيضا- معلق عليها الواجب و من مقدماته.

و على كل فالمقدمات التي لا يترشح عليها الوجوب ثلاث:

الفرد الأول: مقدمة الوجوب التي أشار اليها بقوله: «فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا» و من الواضح استحالة ترشح الوجوب، فإن المراد بمقدمة الوجوب هي التي علق تحقق الوجوب على تحقق ذاتها في الخارج، لا انه علق عليها بنحو الشرط المتأخر، و مثل هذه المقدمة لا يعقل ان يترشح عليها الوجوب فيأمر بايجادها و تحصيلها، لوضوح انه قبل تحققها لا وجوب للواجب حتى يترشح عليها و بعد تحققها و ان تحقق الوجوب إلّا انها لا معنى لترشحه عليها، فإن طلبها بعد تحققها من طلب الحاصل و الى هذا أشار- فيما ياتي- بعد ذكر السبب في عدم امكان ترشح الوجوب في الفردين الآتيين بقوله: «ضرورة انه لو كان مقدمة الوجوب أيضا» الظاهر ان يريد بقوله: أيضا- انه لو كان الشرط مقدمة للوجوب كما انه مقدمة

ص: 110

.....

______________________________

للواجب، و يحتمل بعيدا ان يريد- بقوله: أيضا هنا العطف على الفردين المتقدمين من المقدمات التي لا يترشح عليها الوجوب.

و على كل فمقدمة الوجوب لا يعقل ان يترشح عليها وجوب من الواجب لانه «لا يكاد يكون هناك وجوب الا بعد حصوله» لا يخفى ان تذكير الضمير في حصوله باعتبار كونها شرطا و لفظ الشرط مذكر «و بعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل».

الفرد الثاني: من المقدمة أو الشرط الذي لا يترشح عليه الوجوب هو ما إذا اخذ الشرط عنوانا للمكلف كعنوان المسافر و عنوان الحاضر فإن مرجعه إلى كون السفر و الحضور شرطا للتقصير و الإتمام لكنه اخذه عنوانا للمكلف، فقال: الحاضر يتم و المسافر يقصر، و المستطيع يحج، أو غير ذلك من العناوين كقوله: الشاك يبني على الاكثر، و الساهي يسجد، و مثل هذا لا يعقل ان يترشح عليه الوجوب كما سيأتي.

الفرد الثالث: هو الشرط للفعل الواجب، لكنه اخذ الفعل الواجب مقيدا بهذا الشرط بما انه يحصل على سبيل الاتفاق، و هذا الشرط- الذي قد قيد الواجب به بما انه اتفاقي- على نحوين:

الأول: ان لا يكون وجوده اختياريا للمكلف و تحت قدرته، كالوقت فانه ليس من افعال المكلف فلا يكون واقعا تحت قدرته و اختياره.

الثاني: ان يكون اختياريا للمكلف و يمكن ان يقع بمباشرته أو تسبيبه و لكنه اخذ على نحو يكون حصوله بسببه، كمجي ء زيد- بناء على كونه من قيود المادة- فانه يمكن ان يقع المجي ء من زيد بتسبيب من المكلف لكنه اخذ على نحو ان يكون حاصلا بطبعه، أو يكون الشرط اختياريا و مباشريا كدخول المكلف نفسه الدار- مثلا- و لكنه اخذ على نحو يكون دخوله الدار حيث يكون المكلف اراد دخول الدار لغرض له تعلق بدخول الدار لا ان يكون مطلوبا منه دخول الدار. و على كل فالجامع بين هذين النحوين ان يكون حصول الشرط بنحو الاتفاق و بسببه الطبيعي.

ص: 111

عليه بعد زمانه، فيما كان وجوبه حاليا مطلقا، و لو كان مشروطا بشرط متأخر، كان معلوم الوجود فيما بعد، كما لا يخفى، ضرورة فعلية

______________________________

و الحاصل: ان الشرط الذي اخذ عنوانا للمكلف، و الشرط قيدا لفعل الواجب يكون حصوله من باب الاتفاق يستحيل ان يكونا موردا للتكليف و ان يترشح لهما الوجوب من الواجب، لانه فيما اخذ عنوانا للمكلف لا يعقل ان يحصل الوجوب المعلق على العنوان الا بعد تحقق العنوان، فقبل تحقق العنوان لا وجوب حتى يترشح إلى العنوان، و بعد تحقق العنوان لا يعقل ان يترشح عليه الوجوب لحصول العنوان فلا معنى لوجوب تحصيله، و اما في الشرط الذي اخذ على سبيل الاتفاق فلانه و ان كان مقدمة للواجب، و يمكن ان يكون موردا للتكليف فيما إذا كان اختياريا للمكلف إلّا ان ترشح الوجوب عليه يوجب الخلف، لأن المفروض انه اخذ على نحو يكون وجوده بسببه الطبيعي بطلب من المولى، ففرض ترشح الوجوب اليه لازمه ان يكون بطلب المولى و هو خلف المفروض.

و بالجملة: ان الذي اخذ عنوانا، و الذي كان ماخوذا بنحو الاتفاق لا يعقل ان يترشح عليهما وجوب، لانه في الأول يلزم طلب الحاصل، و في الثاني يلزم الخلف.

و مما ذكرنا ظهر: ان في عبارة المتن مسامحة لانه قال: «كما انه إذا اخذ على احد النحوين يكون كذلك»: أي مثل مقدمة الوجوب من لزوم طلب الحاصل، و قد صرح به بقوله: «فلو لم يحصل لما كان إلى آخر كلامه».

و قد عرفت ان لزوم الحاصل انما يلزم في الشرط الماخوذ عنوانا للمكلف، و أما الشرط الماخوذ من باب الاتفاق فليس محذوره طلب الحاصل بل الخلف، لأن هذا الشرط الاتفاقي ان كان شرطا للوجوب أيضا فانه يلزم من طلبه طلب الحاصل، لانه قبل تحققه لا وجوب و بعد تحققه يكون من طلب الحاصل، إلّا انه لا معنى لجعله قسما مقابلا لمقدمة الوجوب، و اذا كان شرطا للواجب فقط و لكنه اخذ من باب الاتفاق فمحذوره الخلف كما عرفت، و لعله إلى هذا أشار بقوله: فافهم.

ص: 112

وجوبه و تنجزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته، فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة، و لا يلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، و إنما اللازم الاتيان بها قبل الاتيان به، بل لزوم الإتيان بها عقلا، و لو لم نقل بالملازمة، لا يحتاج إلى مزيد بيان و مئونة برهان، كالاتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه (1).

______________________________

(1) هذا هو المطلب الثاني الذي اشرنا اليه.

و حاصله: انه وقع الاشكال في وجوب مقدمة الواجب الذي يكون زمانه متأخرا، كالحج- مثلا- بعد الاستطاعة فإن زمان اتيانه في الايام المعلومة من ذي الحجة مع انه يجب تهيئة الزاد و الراحلة و جملة من مقدمات سفره إلى الحج وجوبا شرعيا بعد الاستطاعة و قبل زمان الحج.

فذهب الفصول إلى الواجب المعلق، و ذهب الشيخ في مقام التفصي عنه إلى رجوع القيد إلى المادة، الذي قد عرفت انه يرجع إلى الواجب المعلق ليتحقق الوجوب الحالي و ان كان متعلقه- و هو الواجب- امرا استقباليا، و متى كان الوجوب حاليا فلا بد و ان يترشح إلى المقدمات، فلا يكون باس بوجوب اتيان مقدمات الواجب قبل حلول زمانه.

و المصنف تفصى عن الاشكال بكون الزمان المتأخر الذي هو ظرف لاتيان الواجب شرطا للوجوب قد اخذ بنحو الشرط المتأخر، فهذا الزمان شرط للواجب بذاته و بنفسه، لانه لا يصح اتيان الواجب في غيره من الازمنة و هو شرط للواجب و لكنه بنحو الشرط المتأخر، فيكون الوجوب الذي كان الزمان شرطا له بنحو الشرط المتأخر وجوبا حاليا، و اذا كان الوجوب حاليا يترشح على مقدمات الواجب قبل حلول زمان اتيان الواجب، و تكون هذه المقدمات زمان اتيانها قبل زمان اتيان الواجب، لا زمان وجوبها قبل زمان وجوبه، لما عرفت: من ان وجوبه حالي لا استقبالي، و انما الواجب فقط استقبالي، و الى هذا أشار بقوله: «لا اشكال اصلا في

ص: 113

.....

______________________________

لزوم الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه بعد زمانه» انما قيد المقدمة بكونها لا يقدر عليها بعد زمان الواجب لأن الاشكال انما يتضح وروده في مثل هذه المقدمة، أما المقدمة التي لاتيانها مجال بعد زمان الواجب فلا يتضح الاشكال فيها، لامكان الالتزام بانها قبل زمان الواجب ليست واجبة و انما تجب بعد زمان الواجب، فالمقدمة التي لا يمكن الاتيان بها الا قبل زمان الواجب هي مورد الاشكال، و لذا قال: لا اشكال في وجوبها و لزوم الاتيان بها قبل زمان الاتيان بالواجب، لأن وجوب الواجب ليس بمتأخر، بل وجوبه حالي فعلي لأن الزمان شرط للوجوب بنحو الشرط المتأخر، و لذا قال: «فيما كان وجوبه حاليا مطلقا»: أي ليس بمشروط بشرط متأخر و ليس بمقارن، بل شرطه مقارن لانه اخذ الشرط فيه بنحو الشرط المتأخر و هو شرط مقارن لا متأخر، كما عرفت ذلك في الكلام في الشرط المتأخر- فيما سبق- و لذلك عقب هذا الاطلاق بقوله: «و لو كان مشروطا بشرط متأخر كان معلوم الوجود» فإن الشرط الذي غير معلوم الوجود لا يكون اخذه بنحو الشرط المتأخر موجبا للعلم بتحقق الوجوب حالا و بالفعل، لأن تصوره موجودا في ظرفه هو الشرط المقارن للوجوب، و اذا لم يكن له تحقق في ظرف يمكن ان يتحقق فيه لا يكون الشرط المقارن للوجوب معلوم التحقق، فلذلك قيد الشرط المتأخر بكونه معلوم الوجود فيما بعد و اذا كان معلوم التحقق كان الوجوب فعليا و لذا قال: «ضرورة فعلية وجوبه و تنجزه»: أي يكون وجوب الواجب فعليا و منجزا، و حيث ان كل ما كان له مقدمة لا يكون مقدورا عليه إلّا باتيان مقدمته تمهيدا له فيجب الاتيان بها تمهيدا للواجب و تهيئة للقدرة عليه، و الى هذا أشار بقوله: «بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة»: أي فيترشح الوجوب من وجوب هذا الواجب الذي هو استقبالي و وجوبه حالي، لانه كان شرطه ماخوذا بنحو الشرط المتأخر على مقدمات الواجب لأن المترشح منه و هو وجوب الواجب حالي و فعلي لا استقبالي.

ص: 114

فانقدح بذلك أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق، أو بما يرجع إليه، من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط (1).

______________________________

فعلى القول بالملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدماته يترشح الوجوب منه على مقدماته، فوجوب المقدمة يكون شرعيا مترشحا من وجوب الواجب الذي وجوبه حالي و هو استقبالي، و لا يلزم على هذا وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، بل وجوبها كان في زمان وجوب ذيها و مترشحا منه و لم يكن قبله، فيكون من تحقق المعلول قبل علته بل من تحقق المعلول لتحقق علته، فإن علته وجوب الواجب و قد عرفت انه حالي لأن شرطه بنحو الشرط المتأخر، و لذا قال (قدس سره): «و لا يلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها و انما اللازم الاتيان بها قبل الاتيان به» و المقدمة لا بد من ان يكون اتيانها قبل اتيان ذيها، سواء قلنا بوجوبها الشرعي الترشحي، أو قلنا بعدم الملازمة و انه لا وجوب شرعي، و انما وجوبها عقلي يحكم العقل بلزوم اتيانها لتوقف وجود الواجب عليها، فإن وجوبها ضروري عند المنكرين للوجوب الشرعي و الملازمة بين وجوب ذي المقدمة و وجوبها، و في الواجب المطلق- بناء على الملازمة- تجب مقدماته قطعا و يكون الاتيان بها قبل الاتيان بالواجب، و الى هذا أشار بقوله: «بل لزوم الاتيان بها عقلا و لو لم نقل بالملازمة ... إلى آخر كلامه».

(1) لا إشكال انه بعد وجود طريق ثالث لوجوب المقدمة التي يكون زمان الاتيان بالواجب فيها متأخرا- غير طريق الفصول و غير طريق الشيخ من الواجب المعلق أو كون القيد راجعا إلى المادة- و هو كون الشرط بنحو الشرط المتأخر لا يكون الأمر في الجواب عن الاشكال تقدم زمان وجوب المقدمة على زمان الاتيان بالواجب منحصرا في طريقة الفصول و في طريقة الشيخ التي قد عرفت انها ترجع إلى مقالة الفصول، و هذا الانقداح واضح و من الامور التي قياساتها معها.

ص: 115

فانقدح بذلك: أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، كالغسل في الليل في شهر رمضان و غيره مما وجب عليه الصوم في الغد، إذ يكشف به بطريق الإنّ عن سبق وجوب الواجب، و إنما المتأخر هو زمان إتيانه، و لا محذور فيه أصلا، و لو فرض العلم بعدم سبقه، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري (1)، فلو

______________________________

(1) بعد ما عرفت انه لا مانع من ان يكون الواجب الذي كان زمان الإتيان به استقباليا ان يكون وجوبه حاليا و فعليا و ان الوجوب للمقدمة يترشح من الوجوب الفعلي- تعرف انه في الموارد التي قام الدليل على اتيان المقدمة واجبة بوجوب شرعي و كان زمان الواجب فيها متاخرا و استقباليا يكشف بطريق الإن ان وجوب هذا الواجب كان متقدما و حاليا، إما بنحو الواجب المشروط بالشرط المتأخر أو كان بنحو الواجب المعلق، كقيام الدليل على وجوب الغسل للمستحاضة في الليل بنحو كونه شرطا لصوم الغد، فإن مثل هذا يكشف ان وجوب الصوم كان متقدما في الليل إما بنحو الشرط المتأخر أو بنحو الواجب المعلق، و ان المتأخر زمان الاتيان بالواجب لا زمان وجوبه بل زمان وجوبه متقدم، و اذا كان متقدما فيترشح منه الوجوب على ما يتوقف صحة الصوم في الغد و هو الغسل في الليل، و هو على القاعدة لأن العلة لم تكن متأخرة عن المعلول بل في زمانه، و الى هذا أشار بقوله: «كالغسل في الليل في شهر رمضان و غيره»: أي و غير شهر رمضان كصوم بدل الهدي «ممن وجب عليه الصوم في الغد اذ يكشف به»: أي يكشف بواسطة وجوب هذه بعنوان كون وجوبها وجوبا مقدميا شرعيا، و هو معلول لوجوب ذي المقدمة، فوجود هذا الوجوب المقدمي الشرعي يكشف عن وجوب ذيها في ذلك الوقت و الزمان، لأن وجود المعلول يكشف عن وجود العلة و هو الكشف الإني و لذا قال: «بطريق الإن عن سبق وجوب الواجب و انما المتأخر هو زمان اتيانه»: أي اتيان هذا الواجب لا زمان وجوبه، و لو علمنا ان وجوب هذا الواجب ليس بمتقدم بل هو متأخر

ص: 116

نهض دليل على وجوبها، فلا محالة يكون وجوبها نفسيا و لو تهيؤا، ليتهيأ بإتيانها، و استعد لايجاب ذي المقدمة عليه، فلا محذور أيضا (1).

______________________________

- أيضا- كالواجب: بان كان الزمان- مثلا- شرطا للوجوب بنفسه لا بنحو الشرط المتأخر و حيث كان الزمان متأخرا فلا بد و ان يكون الوجوب متأخرا- أيضا-، و اذا كان الوجوب المتأخر لا يعقل ان تكون المقدمة لهذا الواجب واجبة قبل زمان وجوبه لعدم معقولية تحقق المعلول قبل تحقق علته، فلا بد و ان لا يكون وجوب هذه المقدمة وجوبا غيريا مقدميا، لانه من المستحيل تأثير العلة حال عدم وجودها و الى هذا أشار بقوله: «و لو فرض العلم بعدم سبقه لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري».

(1) مع العلم بعدم سبق وجوب ذيها لا يعقل ان يكون وجوب هذه المقدمة غيريا ترشحيا، لأن الوجوب الغيري هو الوجوب المترشح من وجوب الواجب النفسي، و حيث علمنا بعدم سبق وجوب الواجب النفسي فلا محالة لا يكون وجوب هذه المقدمة وجوبا غيريا، بل لا بد و ان يكون وجوبها نفسيا بغرض التهيؤ إلى الواجب النفسي و الاستعداد له.

نعم، لا بد و ان نقول في الواجب النفسي بانه لا يلزم ان يكون وجوبه لغرض متعلق بذاته أو لعنوان حسن في نفس متعلقه، بل الواجب النفسي هو الواجب الذي لم يترشح وجوبه من واجب آخر، سواء كان الغرض من وجوبه شيئا يتعلق بذاته أو بغيره، و المفروض في المقام ان هذا الوجوب لم يترشح من وجوب ذي المقدمة لفرض العلم بعدم سبق وجوب ذي المقدمة، فوجوبها ليس بوجوب غيري ترشحي، و اذا لم يكن الوجوب غيريا كان نفسيا و ان الغرض منه التهيؤ و الاستعداد لأن يجب على المكلف واجب آخر في ظرفه، لأن المفروض انه إذا تركت هذه المقدمة لا يمكن ان يقدر المكلف على اتيان الواجب في ظرفه، فالمولى حفظا لامكان اتيان الواجب في ظرفه يوجب هذه المقدمة قبل زمان وجوب ذيها بوجوب نفسي،

ص: 117

إن قلت: لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي المقدمة لزم وجوب جميع مقدماته و لو موسعا، و ليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر (1).

______________________________

و لا محذور في هذا الوجوب النفسي للمقدمة، لانه لا يلزم ان يكون وجوب المقدمة دائما وجوبا غيريا ترشحيا.

نعم، الوجوب الغيري الترشحي لا بد و ان يكون لمقدمة واجب و لا يلزم ان يكون كل وجوب- عرض للمقدمة- وجوبا غيريا ترشحيا، و اذا لم يكن وجوبها غيريا فلا يكون من تحقق المعلول قبل تحقق علته، إذ المعلول لوجوب ذي المقدمة هو الوجوب الغيري فلا يعقل تحققه قبل تحقق الوجوب النفسي لذي المقدمة، و الى ما ذكرنا أشار بقوله: «فلا محذور أيضا».

(1) قد عرفت انه إذا وجبت المقدمة قبل زمان ذيها كشف بطريق الإن عن تقدم وجوب ذيها ما لم يعلم بعدم تقدمه فنلتزم بالوجوب النفسي للمقدمة، و على هذا:

أي لو فرضنا تقدم وجوب مقدمة من مقدمات الواجب و لم نكن نعلم بعدم السبق فيكون هذا الوجوب للمقدمة كاشفا عن تقدم وجوب ذي المقدمة، و اذا تقدم وجوب ذي المقدمة فلا بد من الالتزام بوجوب جميع مقدمات هذا الواجب قبل زمانه و لا يقتصر على خصوص المقدمة التي قام الدليل على وجوبها.

نعم، يكون وجوب المقدمات مختلفا، فإن كانت المقدمات موسعة بمعنى انها يقدر عليها قبل زمانه و في زمانه فيكون وجوبها وجوبا موسعا مما قبل زمان الواجب إلى آخر زمان الواجب بمقدار اتيانها و اتيانه، و ان كانت مضيقة و هي التي يكون ظرف اتيانها قبل زمان الواجب كغسل المستحاضة ليلا مثلا فيكون وجوبها وجوبا مضيقا.

ثم لا يخفى أن لازم الواجب الموسع انه لو علم المكلف اتفاقا انه لا يقدر عليه في بعض الازمنة المتأخرة يكون وجوب المبادرة اليه في الزمان الذي يقدر عليه لازما،

ص: 118

قلت: لا محيص عنه، إلا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة، و هي القدرة عليه بعد مجي ء زمانه، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه، فتدبر جدا (1).

______________________________

و الظاهر ان القوم لا يلتزمون بذلك: بمعنى انه لو قام دليل على وجوب بعض مقدمات الواجب المتأخر ظرف اتيانه لا يلتزمون بوجوب جميع مقدماته وجوبا موسعا بحيث لو لم يبادر اليها قبل زمانه و صادف عجزه عنها في زمان الواجب كان تاركا للواجب النفسي لترك مقدماته في وقت كان قادرا عليها، و الى هذا أشار بقوله: «و ليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة إلى آخره».

(1) حاصله انه لا بد من الالتزام بذلك في المقدمات التي لم يؤخذ في الواجب قدرة خاصة توجب اختصاص المقدمة بزمان الواجب كالواجب.

و توضيحه ببيان امرين:

الأول: ان الوجوب المترشح من الواجب انما يترشح لما يتوقف عليه الواجب، فاذا كان شي ء في وقت لا يتوقف عليه الواجب و في وقت آخر يتوقف عليه فالوجوب انما يترشح إلى ذلك الشي ء في وقت التوقف، اذ هو في الحقيقة في غير ذلك الوقت ليس بمقدمة للواجب.

الثاني: ان الواجب الذي له مقدمات انما يكون مقدورا عليه بالقدرة على مقدماته، فلكل مقدمة بالنسبة إلى الواجب قدرة مخصوصة بينه و بين مقدمته.

فاذا عرفت هذا نقول: انه ربما يكون مأخوذا في الواجب بالنسبة إلى بعض مقدماته قدرة خاصة، فمثل الطهارة بالنسبة إلى الصلاة قد اخذ في الصلاة، قدرة خاصة بالنسبة اليها، و هي القدرة على الطهارة في وقت الإتيان بالصلاة، فالمكلف مأمور بالصلاة، التي يتمكن من الطهارة لها في وقت اتيانها، و مثل هذه القدرة على الطهارة هي المأخوذة في الصلاة و مما تتوقف عليها الصلاة، أما الطهارة قبل وقت الصلاة فبحكم العدم من حيث توقف الصلاة عليها، فلا يكون للطهارة

ص: 119

تتمة: قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل، و كونه موردا للتكليف و عدمه، فإن علم حال قيد فلا إشكال (1)، و إن دار أمره ثبوتا

______________________________

وجوب غيري مترشح من وجوب الصلاة إلا في وقت الصلاة، و أما قبل وقتها فانه و ان كان للصلاة وجوب إلّا انه لا يترشح على الطهارة.

و بعبارة اخرى: ان الوقت كما انه ظرف و شرط لإتيان الصلاة كذلك هو شرط للطهارة التي تكون مقدمة للصلاة، فقبل الوقت لا تكون الطهارة مقدمة للصلاة حتى يترشح لها الوجوب. أما بقية مقدمات الصلاة التي لم يؤخذ في كونها مقدمة قدرة خاصة و لا يكون الوقت شرطا لمقدميتها كما هو شرط للصلاة فإنها تكون واجبة بالوجوب الذي كان قبل وقت الصلاة، و الى هذا أشار بقوله: «لا محيص عنه»:

أي لا محيص عن الالتزام بسريان الوجوب إلى جميع المقدمات قبل زمان الواجب التي لم يؤخذ فيها قدرة خاصة و لا يكون الوقت شرطا لها كما هو شرط للواجب.

نعم، في المقدمة التي اخذ فيها قدرة خاصة و كان الوقت شرطا لها- أيضا- لا بد من الالتزام بوجوبها في الوقت لا قبله، لما عرفت انها قبل الوقت هي بحكم العدم من حيث كونها مقدمة يتوقف عليها الواجب، و لذا قال: «إلّا إذا اخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة و هي القدرة عليه»: أي على الواجب «بعد مجي ء زمانه»: أي بعد مجي ء زمان الواجب «لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه»: أي لا أن القدرة التي بين الواجب و مقدماته تكون مطلقة و مستمرة في زمان الاتيان به و ابتداؤها من زمان وجوبه، فمن في قوله: من زمان وجوبه للابتداء، و في قوله: في زمانه هي بمعنى إلى: أي تكون القدرة مستمرة من زمان وجوب الواجب الذي هو قبل وقته الى زمانه: أي زمان الاتيان به في وقته الماخوذ فيه.

(1) قد ظهر- مما مر- ان القيد إذا كان راجعا إلى الهيئة- و هي الوجوب- لا يجب تحصيله، و اذا كان راجعا إلى المادة- و هي الواجب- فإن لم يؤخذ على سبيل الاتفاق وجب تحصيله شرعا بناء على الملازمة و عقلا بناء على عدم الملازمة.

ص: 120

بين أن يكون راجعا إلى الهيئة، نحو الشرط المتأخر أو المقارن، و أن يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب (1)، فإن كان في مقام الاثبات ما يعين حاله، و أنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية فهو، و إلا فالمرجع هو الاصول العملية (2).

______________________________

(1) لا يخفى انه انما يدور امره في مرحله الثبوت حيث لم يعلم حاله، إذ الكلام في القيد الذي علم انه قيد في خطاب المولى و لم يعلم حاله، فلا بد- حينئذ- في مرحلة الثبوت و الإمكان- قبل الرجوع إلى القواعد العربية و الظهورات العرفية في الكلام المتداول-:

انا نحتمل ان يكون راجعا إلى الهيئة فلا يجب تحصيله قطعا، إلّا انه يحتمل ان يكون بنحو الشرط المتأخر فيكون الوجوب حاليا فتجب مقدمات الواجب قبل زمانه، و يحتمل ان يكون بنحو الشرط المقارن و ان نفسه هو الشرط لا لحاظه و حيث كان بنفسه و بذاته متأخرا فلا بد من تأخر الوجوب و كونه مقارنا لتحققه فلا وجوب قبل تحققه فلا تجب مقدمات الواجب قبل زمانه.

و نحتمل ان يكون راجعا إلى المادة، و هو تارة يكون غير واجب التحصيل كما إذا اخذ حصوله بنحو الاتفاق و بطبعه، و اخرى يكون واجب التحصيل كما إذا لم يؤخذ كذلك.

(2) قد عرفت ان هذه الاحتمالات انما هي في مرحلة الثبوت قبل الرجوع إلى مرحلة الإثبات المستفادة من القواعد العربية، و أما بعد الرجوع إلى القواعد العربية فربما يتعين حال القيد، كما عرفت في ان الظاهر من قول القائل: ان جاءك زيد فاكرمه كونه راجعا إلى الهيئة و هو مقدمة وجوب، و حيث لم يكن الوجوب مفروض الوجود فلا يكون اخذ القيد بنحو الشرط المتأخر، و ربما يكون الرجوع إلى القواعد موجبا لكونه راجعا إلى المادة كقوله: صل عن طهارة، و حيث لم يؤخذ على سبيل الاتفاق فيجب تحصيله، و ربما يكون ماخوذا على سبيل الاتفاق كما لو قال: صل

ص: 121

و ربما قيل في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة و المادة، بترجيح الاطلاق في طرف الهيئة، و تقييد المادة، بوجهين (1):

أحدهما: إن إطلاق الهيئة يكون شموليا، كما في شمول العام لافراده، فإن وجوب الاكرام على تقدير الاطلاق، يشمل جميع

______________________________

إلى اربع جهات في القبلة المشتبهة و ان لم يكن حال القيد معلوما- بان كان مستفادا من الاجماع- و لم يعرف انه راجع إلى الهيئة أو المادة فالمرجع هو الاصول العملية، فتجري البراءة بالنسبة إلى الوجوب قبل وقت الواجب، و تجري البراءة بالنسبة إلى وجوب المقدمات قبل زمان الواجب أيضا، و اذا شك في كون القيد واجب التحصيل تجري البراءة أيضا، و على كل فلا بد من الرجوع إلى ما تقتضيه الاصول من البراءة أو غيرها.

(1) يظهر من تقريرات الشيخ انه إذا دار الامر بين كون القيد راجعا إلى الوجوب المستفاد من الهيئة أو الى الواجب الذي هو المادة، و لم يكن هناك ما يعين احدهما من القواعد المعروفة المتبعة في مقام الظهور- فلا وجه للرجوع إلى الاصول العملية، بل هناك ما يقتضي كون القيد راجعا إلى المادة و مقيدا لاطلاقها، و اطلاق الهيئة يبقى على حاله غير مقيد، لأن الشرط لا شبهة في كونه قيدا يرجع إما إلى تقييد اطلاق الهيئة أو تقييد اطلاق المادة.

و لا يخفى ان هذا الكلام منه (قدس سره) جار على مسلك القوم القائلين بمعقولية رجوع القيد إلى الهيئة، اما بناء على ما تقدم من مسلكه من عدم معقولية الرجوع إلى الهيئة فلا وجه لهذا الدوران عنده، بل القيد على مسلكه متعين رجوعه إلى المادة، و خصوصا بناء على دليله الاول في عدم امكان تقييد الهيئة من انها معنى حرفي غير قابل للاطلاق و التقييد. و على كل فقد ذكر وجهين في لزوم رجوع القيد إلى المادة و ابقاء اطلاق الهيئة على حاله:

ص: 122

التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له، و إطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة (1).

______________________________

(1) و حاصل هذا الوجه انه لا اشكال ان الصيغة- مثلا- مشتملة على هيئة تدل على الوجوب و مادة هي متعلق الوجوب، فأكرم زيدا- مثلا- له هيئة تدل على الوجوب و له مادة تدل على ان متعلق هذا الوجوب هو اكرام زيد، و لا اشكال ان الامر المتعلق بطبيعة من الطبائع يكفي في امتثاله ايجاد الطبيعة في ضمن أي فرد من افرادها، فشمول طبيعة الاكرام المأمور بها للافراد التي تتحقق طبيعة الاكرام في ضمنها عموم بدلي، فيدل اطلاق المادة على ان أي فرد من افراد هذه الطبيعة إذا جي ء به على البدل يتحقق المأمور به و يحصل الامتثال، فشمول المادة بالنسبة إلى افراد الاكرام الممكن تحققها في ازمنة متعددة على البدل، و ليس على نحو الشمول الاستغراقي لعدم وجوب جميع افراد الاكرام في جميع الازمنة، بل و لا فردين من أفراد الاكرام في حالة واحدة، بل المطلوب الذي يتحقق الامتثال به هو فرد واحد من الاكرام دائما. هذا بالنسبة إلى جميع افراد الاكرام المتعاقبة في الازمنة، و كذا بالنسبة إلى افراد الاكرام العرضية التي يمكن وقوعها أو بعضها في زمان واحد، كاكرامه بالضيافة و باحترامه و تبجيله فانه يمكن ان يقع التبجيل و الضيافة في زمان واحد فانه- أيضا- بدلي بالنسبة اليها، و اما الوجوب المستفاد من الهيئة فشموله بالنسبة إلى جميع الازمنة التي يمكن ان يتحقق الاكرام فيها استغراقي، فانه يجب طبيعة الاكرام البدلي في هذا الزمان و في الزمان الثاني و في الثالث، فشمول الوجوب لافراد الوجوب بنحو الشمول و الاستغراق، فالمستفاد من الهيئة شمول استغراقي كالعام الاستغراقي و المستفاد من شمول المادة شمول بدلي، و اذا دار الأمر بين تقييد ما يدل على الاستغراق و بين ما يدل على البدل فيتعين تقييد الشمول البدلي دون الاستغراقي، و كأنه يرجع إلى ان ما يدل على الشمول الاستغراقي اقوى مما يدل على الشمول البدلي، و لعله لكون العموم البدلي مقيدا بكونه واحدا و انه يكتفى فيه بفرد واحد

ص: 123

ثانيهما: إن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة و يرتفع به مورده، بخلاف العكس، و كلما دار الامر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

أما الصغرى، فلاجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة و بيان لاطلاق المادة، لانها لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادة، فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد و عدمه.

و أما الكبرى، فلان التقييد و إن لم يكن مجازا إلا أنه خلاف الاصل (1)، و لا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق، و بين أن يعمل عملا

______________________________

فهو بعد ان تقيد لبا: بانه يكتفي فيه بالواحد فهو في معرض التقييد، بخلاف العموم الاستغراقي فانه شمولي لجميع الافراد، فليس في نفس شموله و استيعابه تقييد فهو أبعد عن التقييد و ليس في معرضه.

(1) حاصل هذا الثاني: هو انه قد عرفت ان القيد الذي يلحق الهيئة يلحق المادة قطعا، فانه من الواضح انه إذا كان الوجوب مقيدا بالوقت- مثلا- فلا بد و ان يكون الواجب مقيدا به أيضا، فإن وجوب الاكرام إذا كان مقيدا بوقت فمن الضروري ان الاكرام لا يعقل ان يكون قبل الوقت الذي تقيد به وجوب الاكرام، و أما إذا كان الوقت قيدا للمادة- و هي الاكرام- فإن الوجوب يمكن ان يتقيد- أيضا- بالوقت و يمكن ان لا يتقيد: بان يكون الوجوب قبل وقت الواجب و هو الاكرام.

فاذا اتضح هذا: نقول ان القيد إذا كان راجعا إلى الهيئة يلزم تقييدان: تقييد الهيئة و تقييد المادة، لما عرفت من القيد الراجع إلى الهيئة راجع إلى المادة و مقيد لها أيضا، فاذا دار امر القيد بين كونه راجعا إلى الهيئة أو راجعا إلى المادة يتعين رجوعه إلى المادة، لأن رجوعه إلى المادة لا يلازمه تقييد الهيئة، فحينئذ يكون لنا تقييد واحد و هو تقييد المادة فقط، و كلما دار الامر بين تقييدين و تقييد واحد فلا بد

ص: 124

يشترك مع التقييد في الاثر، و بطلان العمل به و ما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الاستاذ العلامة أعلى اللّه مقامه (1)، و

______________________________

من الاقتصار على تقييد واحد، لأن التقييد خلاف الاصل و ان لم نقل بان التقييد يقتضي المجازية كما هو مذهب سلطان العلماء(1) لكنه مع ذلك خلاف الاصل، لوضوح ان التقييد و التخصيص كحجة مزاحمة لحجية الاطلاق و العموم يرفع بواسطتها اليد عن الاطلاق و العموم، فما لم تكن تلك الحجة واضحة لا يزاحم الاطلاق و العموم في حجيتهما على الشمول الاطلاقي أو العمومي فالتقييد خلاف الاصل الاولي، فاذا دار الامر بين ان نرتكب خلاف الاصل في مقامين أو في مقام واحد يقتصر على المقام الواحد، و بعد ان علمنا ان هنا قيدا إما ان يلحق الهيئة أو المادة و لكنه علمنا- أيضا- ان لحوقه للهيئة يلزم منه تقييدان و هو مخالفة للاصل في مقامين و لحوقه للمادة يلزم منه تقييد واحد، فلا بد من الاقتصار على التقييد الواحد و مخالفة الاصل في مقام واحد فقط، فهنا صغرى و كبرى ثابتتان ينتج من الجمع بينهما لزوم رجوع القيد إلى المادة.

اما الصغرى، فقد عرفت انه يلزم من رجوع القيد إلى الهيئة تقييدان، و من رجوعه إلى المادة تقييد واحد.

و اما الكبرى، و هي ان التقييد خلاف الاصل فلا بد من الاقتصار على مخالفة الاصل بمقدار الضرورة، و حيث كان التقييد لازما فلا بد و ان نقتصر على تقييد واحد و ينتج من هذا لزوم رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

(1) هذا هو كجواب عن اشكال يمكن ان يورد عليه.

و حاصله: ان ما ذكرت من انه كما دار الامر بين تقييدين أو تقييد واحد فالتقييد الواحد اولى انما يتم في غير المقام، كمثل ان تتقدم جملتان او جمل ثم يلحقها قيد

ص: 125


1- راجع معالم الاصول: ص 156 حجري.

أنت خبير بما فيهما أما في الاول: فلان مفاد إطلاق الهيئة و إن كان شموليا بخلاف المادة، إلا أنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها، لانه أيضا

______________________________

فنشك في كونه راجعا إلى كلتيهما أو إلى واحدة منها و هي الاخيرة فقط فنقتصر على الاخيرة، اما في مثل المقام فليس كذلك فانه ليس لنا إلّا جملة واحدة و القيد لاحق لها قطعا، غايته انه إذا لحق الهيئة كان هناك تقييد واحد و لكن يلحقه و يتبعه من غير مئونة بل للملازمة الضرورية تقييد آخر و هو تقييد المادة، بخلاف ما إذا لحق المادة فانه لا يلازمها تقييد الهيئة، و هذا غير الجملتين فانه لا ملازمة ضرورية بين تقييد احداهما و تقييد الاخرى، بل تقييد كل منهما في عرض تقييد الأخرى، و في المقام إذا رجع القيد إلى الهيئة فتقييد المادة ليس في عرض تقييد الهيئة بل في طوله و ملازم له و بتبعه.

و بعبارة اخرى: انه إذا لحق القيد للهيئة ليس هناك مخالفة للاصل في مقامين بل مخالفة واحدة غايته يلازمها بالضرورة و الاستلزام مخالفة اخرى. هذا هو الاشكال.

فاجاب عنه بقوله: «لا فرق في الحقيقة» إلى آخر كلامه.

و حاصل الجواب: انه بعد ما عرفت ان التقييد معناه مزاحمة الحجة القائمة على الاطلاق و رفع اليد عنها فمخالفة الاصل انما هي لكون الاصل يقتضي عدم مزاحمة الحجة القائمة إلّا بحجة واضحة- يتضح انه لا فرق فيه عند الحقيقة بين التقييد العرضي و بين التقييد الطولي، و هو ان يعمل عملا لازمه و اثره رفع اليد عن اطلاقين، و في المقام و ان لم يكن تقييد المادة في عرض تقييد الهيئة إلّا ان لازم رجوع القيد إلى الهيئة بطلان اطلاق المادة و رفع اثره و عدم العمل به، بخلاف رجوعه إلى المادة فانه لا يلزم فيه بطلان اطلاق الهيئة و رفع اثره و عدم العمل به، و هذا هو الذي أشار اليه بقوله: «و لا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق»: أي لا فرق في مخالفة الاصل بين التقييد للاطلاق عرضا «و بين» التقييد الطولي و هو «ان يعمل عملا يشترك مع التقييد» العرضي «في الاثر و بطلان العمل به».

ص: 126

كان بالاطلاق و مقدمات الحكمة، غاية الامر أنه تارة يقتضي العموم الشمولي، و أخرى البدلي، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا، كما لا يخفى. و ترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لاجل كون دلالته بالوضع، لا لكونه شموليا، بخلاف المطلق فإنه بالحكمة، فيكون العام أظهر منه، فيقدم عليه، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس، فكان عام بالوضع دل على العموم البدلي، و مطلق بإطلاقه دل على الشمول، لكان العام يقدم بلا كلام (1).

______________________________

(1) و حاصل الجواب عن دليله الاول- و هو ترجيح جانب تقييد اطلاق المادة لكونه بدليا، و ابقاء اطلاق الهيئة بحاله من دون تقييد لكونه اطلاقا شموليا-: ان الاطلاق في الهيئة و المادة و ان كان كما ذكر: من كونه شموليا استغراقيا في الهيئة و بدليا في المادة، إلّا ان مجرد ذلك لا يقتضي رجوع القيد إلى المادة بعد ان كان الاستغراقية في الهيئة و البدلية في المادة كل منهما مستفاد من الاطلاق و مقدمات الحكمة.

نعم، لو كان الاستغراقية في الهيئة مستفادة من الوضع و البدلية في المادة مستفادة من الاطلاق لكان موجبا لترجيح تقييد المادة و ابقاء اطلاق الهيئة بحاله.

و بعبارة اخرى: ان الترجيح انما يكون لأقوائية الدلالة، لا لسعة المدلول. و من الواضح ان الفرق بين الهيئة و المادة انما هو في سعة الهيئة بالاستغراقية و ضيق المادة للبدلية، و اما الدلالة ففي كل منهما على حد سواء، لأن كلا منهما مستفاد من الاطلاق.

و الذي يدلك على ان المدار على اقوائية الدلالة دون سعة المدلول ان البدلية لو كانت مستفادة من الوضع، و السعة و الاستغراق مستفادة من الاطلاق لترجح تقييد الهيئة و ابقاء المادة بحالها.

و بالجملة: ان الترجيح لعموم العام لانه وضعي على اطلاق المطلق لكونه بمقدمات الحكمة لأقوائية الدلالة الوضعية على الدلالة الاطلاقية، و أما إذا كان كل

ص: 127

و أما في الثاني: فلأن التقييد و إن كان خلاف الاصل، إلا أن العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة، و انتفاء بعض مقدماته، لا يكون على خلاف الاصل أصلا، إذ معه لا يكون هناك إطلاق، كي

______________________________

من الدلالتين بالاطلاق- كما في المقام- فلا ترجيح لإحداهما على الاخرى، لأن شمول الهيئة لجميع افراد الوجوب المفروضة انما هو بالاطلاق و مقدمات الحكمة، و إلّا فالهيئة لم توضع للدلالة على الاستغراق بل الهيئة دالة على طبيعة الوجوب، و حيث يمكن ان يكون مستغرقا لجميع الافراد و لا معين لفرد خاص من افراد الوجوب فلو اراد المولى فردا خاصا لبينه، و كذلك الحال في المادة فإن الشمول على البدل مستفاد من الاطلاق أيضا، فإن المادة تدل على طبيعة الاكرام و حيث انه تتحقق الطبيعة بفرد من افرادها و لا ترجيح لفرد على فرد فلا بد ان يكون المراد واحدا على البدل، و لو اراد فردا خاصا لبينه، فالدلالة في كلتيهما بالاطلاق فلا موجب لترجيح تقييد احداهما على الأخرى.

و الحاصل: ان المدار على الاظهرية و هي انما تكون في الدلالة لا في المدلول، و لذا قال (قدس سره): «فلو فرض انهما في ذلك على العكس»: أي كانت المدلولية غير الاستغراقية و هي البدلية مستفادة من دلالة وضعية و كانت المدلولية الاستغراقية مستفادة من الاطلاق لتعين تقييد المدلولية الاستغراقية لأن دلالتها اضعف من دلالة الشمول البدلي و الشمول البدلي اظهر دلالة فهو اقوى و اظهر، و عبارة المتن واضحة.

و أما ما ذكرناه: من كون البدلية في معرض التقييد دون الاستغراقية ففيه:

اولا: ان الشمول البدلي ليس تقييدا، و كيف يكون تقييدا و هو شمول أيضا؟

غايته انه حيث كان متعلقه الطبيعة و الطبيعة تحصل بفرد من افرادها- عقلا- فتكون النتيجة واحدا على البدل.

و ثانيا: ان كونه في معرض التقييد ليس من المرجحات العقلائية و لا الشرعية.

ص: 128

يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل.

و بالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الاصل، إلا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، و مع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور، كان ذاك العمل (1) المشارك مع التقييد في

______________________________

(1) حاصل ما ذكره جوابا عن دليله الثاني المؤلف: من الصغرى و هي كون لازم تقييد الهيئة تقييدين و تقييد المادة تقييدا واحدا، و من كبرى و هي ان التقييد خلاف الاصل فيقتصر فيه على تقييد واحد و هو تقييد المادة.

و توضيح الجواب عنه: و هو يرجع إلى المناقشة في الكبرى، و هو ان التقييد المخالف للاصل هو ان يتم اطلاق المطلق و يكون له ظهور تام في اطلاقه، و حينئذ إذا دار الامر بين تقييدين و تقييد واحد يتعين التقييد الواحد، و في المقام ليس كذلك لأن الكلام في الصيغة المقترنة بما نشك رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادة فلا يتم في المقام اطلاق حتى يكون مخالفته من مخالفة الاصل، لأن من جملة شروط تمامية الاطلاق و جريان مقدمات الحكمة ان يكون الكلام خاليا من القرينة أو مما يحتمل قرينيته، أما إذا كان الكلام محفوفا بما يحتمل قرينيته، بل هو محفوف بمقطوع القرينية و انما الاحتمال في تعيين مرجع هذه القرينة فلا يتم الاطلاق الذي تكون مخالفته مخالفة للاصل، بل في المقام تقييد لو رجع إلى أي منهما سواء إلى الهيئة أو إلى المادة لا يكون من التقييد المخالف للاصل، لعدم تمامية الاطلاق في المقام لا للهيئة و لا للمادة، فلا يكون المورد من موارد الكبرى المسلمة.

و ما ذكرناه في الجواب اوضح مما تؤدي اليه عبارة المتن، فإن المتحصل منها ان التقييد و ان كان خلاف الاصل إلّا ان رجوع القيد إلى الهيئة الذي لازمه تقييد المادة ليس فيه مخالفة للاصل، لانه برجوع القيد إلى الهيئة لا يتم الاطلاق في المادة، لأن تمامية الاطلاق فيها يتوقف على عدم القرينة و برجوع القيد إلى الهيئة يكون قرينة على

ص: 129

الاثر، و بطلان العمل بإطلاق المطلق، مشاركا معه في خلاف الاصل أيضا (1).

______________________________

تقييد المادة قبل تمامية الاطلاق و جريان مقدمات الحكمة فيها، فلا يكون تقييد المادة الملازم لتقييد الهيئة من مخالفة الاصل لانه قال في المتن: «فلان التقييد و ان كان خلاف الاصل إلّا ان العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة»: أي ان العمل الذي هو رجوع القيد إلى الهيئة اللازم منه تقييد المادة أيضا يوجب هذا العمل عدم جريان مقدمات الحكمة في المادة، لأن جريان مقدمات الحكمة المتوقف عليها الاطلاق انما يتم حيث لا قرينة، فاذا رجع القيد إلى الهيئة كان قرينة على تقييد الهيئة قبل ان يتم في المادة اطلاق بجريان مقدمات الحكمة فيها، و لازم هذا الرجوع «انتفاء بعض مقدماته»: أي انتفاء بعض مقدماتها: أي بعض مقدمات الحكمة و هو عدم القرينة.

و قد عرفت: انه إذا رجع القيد إلى الهيئة تكون هناك قرينة على تقييد المادة، و مع وجود القرينة على تقييدها كيف يتم فيها الاطلاق؟ و اذا لم يتم فيها الاطلاق لا يكون تقييدها اللازم لتقييد الهيئة من التقييد المخالف للاصل، فهذا العمل الذي يلازمه تقييد ان «لا يكون على خلاف الاصل اصلا اذ معه لا يكون هناك اطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل» و هو التقييد للاطلاق بعد تماميته.

و بعبارة اخرى: ان التقييد المخالف للاصل هو التقييد المخالف للظهور، و لا ينعقد للمادة ظهور بعد رجوع القيد إلى الهيئة فلا يكون تقييدها مخالفا للاصل و الى هذا أشار بقوله: «و بالجملة» إلى آخر كلامه.

(1) قد عرفت ان رجوع القيد إلى الهيئة تقييد للهيئة و يلازمه ان لا يبقى مجال معه لاطلاق المادة و هذا في مقام الاثر كتقييد المادة صريحا. قوله: «مشاركا معه في خلاف الاصل»: أي ان هذا العمل و هو رجوع القيد إلى الهيئة يشارك تقييد المادة

ص: 130

و كأنه توهم: أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت، و رفع اليد عن العمل به، تارة لاجل التقييد، و أخرى بالعمل المبطل للعمل به، و هو فاسد، لانه لا يكون إطلاق إلا فيما جرت هناك المقدمات (1).

نعم إذا كان التقييد بمنفصل، و دار الامر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهم مجال، حيث انعقد للمطلق إطلاق، و قد استقر له ظهور (2)

______________________________

الصريح في بطلان اطلاقها، و لكنه لا يشارك التقييد الصريح في مخالفة الاصل، لأن التقييد الصريح لا يكون إلّا بعد تمامية الظهور في اطلاق المطلق، و هنا لا يتم اطلاق المطلق حتى يكون تقييده من مخالفة الاصل فهو يشارك التقييد في الاثر و لا يشاركه في مخالفة الاصل.

(1) حاصله: انه فرق بين الظهور المستفاد من العموم و المستفاد من الاطلاق، فإن الظهور العمومي وضعي للفظ و دلالته ذاتية عليه فيكون تقييده و تخصيصه من مخالفة الاصل، و الظهور الاطلاقي انما هو بمقدمات الحكمة و لا دلالة ذاتية وضعية للفظ عليه، بل انما يتم بعد تمامية جميع مقدماته التي منها عدم القرينة و هي منتفية في المقام فلا يكون التقييد فيه مخالفا للاصل، بخلاف الظهور الوضعي فإن تقييده صريحا أو العمل اللازم منه تقييده مخالف للاصل، و لذا قال: «و هو فاسد»: أي توهم ان اطلاق المطلق كعموم العام توهم فاسد، لأن عموم العام ثابت لذات اللفظ بواسطة الوضع، و اطلاق المطلق انا يتم بجريان مقدمات الحكمة غير الجارية كما عرفت.

(2) حاصله: انه قد عرفت ان الكلام في الشرط المتصل بالصيغة المشترك رجوعه إلى الهيئة أو الى المادة، اما إذا كان هذا الشرط جاء بكلام منفصل و شك في رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادة فما ذكره يتم في انه ينبغي ان يكون راجعا إلى المادة، لانه بعد ان تم الكلام الاول يتم الظهور فيكون هناك ظهوران: ظهور للهيئة و ظهور للمادة، و يلزم من رجوعه إلى الهيئة- عمل لازمه- تقييدان، و من رجوعه إلى المادة تقييد واحد،

ص: 131

و لو بقرينة الحكمة (1) فتأمل (2).

______________________________

ففي رجوعه إلى الهيئة يلزم زيادة مخالفة الاصل فيقتصر على الاقل مخالفة و هو رجوع القيد إلى المادة.

(1) لانه سيأتي- على رأي المصنف- ان اطلاق المطلق و تمامية ظهوره يتوقف على عدم القرينة في نفس الكلام الملقى لا على عدم القرينة إلى الابد، و اذا كان القيد في كلام منفصل و الكلام الاول خال من القرينة يتم الظهور في المادة أو الهيئة، و يلزم الاقتصار على الاقل مخالفة و هو تقييد المادة فقط، دون تقييد الهيئة الذي يكون من لوازمه تقييد المادة أيضا.

(2) يمكن ان يكون اشارة إلى ان ما ذكره الشيخ- أيضا- لا يتم في القرينة المنفصلة بناء على مذاقه في الاطلاق، لأن مسلكه في الاطلاق يتوقف على عدم القرينة إلى الابد لا على عدم القرينة في الكلام الملقى فقط، فمتى وجد بيان انهدم الاطلاق فلا يكون التقييد على هذا مخالفا للاصل أيضا، و يمكن ان يكون اشارة إلى ما ذكره سابقا في القرينة المتصلة من الفرق بين عموم العام و اطلاق المطلق، و انه يتم في عموم العام دون اطلاق المطلق فانه- أيضا- لو كان العموم وضعيا أيضا، لا يتم لعدم تمامية الظهور فيه- أيضا- لانه من موارد احتفاف الكلام بمحتمل القرينية فلا يتم ظهور حتى في الوضعيات، فلا فرق بين العموم المستفاد من الوضع و الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة.

و يمكن ان يكون اشارة إلى ان هذا الفرض في المقام محال، لعدم امكان ان يكون القيد راجعا إلى الهيئة و المادة معا في كلام واحد، فلا يعقل ان ينعقد للكلام ظهور في رجوع القيد اليهما معا، و عليه فلا بد و ان يكون الكلام المشكوك في كون القيد راجعا فيه إلى الهيئة أو المادة مجملا، و حينئذ فلا محالة يكون الكلام المنفصل بيانا لهذا الاجمال، و اللّه العالم.

ص: 132

تقسيم الواجب إلى النفسي و الغيري
اشارة

و منها: تقسيمه إلى النفسي و الغيري، و حيث كان طلب شي ء و إيجابه لا يكاد يكون بلا داع، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب، لا يكاد التوصل بدونه إليه، لتوقفه عليه، فالواجب غيري، و إلا فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه، كالمعرفة باللّه، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه، كأكثر الواجبات من العبادات و التوصليات هذا (1)، لكنه لا يخفى أن الداعي لو كان هو

______________________________

(1) لا يخفى ان قوله-: و منها تقسيمه إلى النفسي و الغيري إلى قوله ثم انه لا اشكال- يحتوي على ما ذكره التقريرات تعريفا للواجب النفسي و الغيري، و الايراد على تعريف التقريرات، ثم الاشكال على اشكاله على التقريرات، و الجواب عنه، ثم يذكر ما ينبغي ان يكون جوابا عما اشكله على تعريف التقريرات، ثم ذكر احتمال ان تعريف القوم للواجب النفسي و الغيري يرجع إلى تعريف التقريرات، و ان ما اورده عليه التقريرات غير تام لأن مرادهم منه يرجع إلى ما ذكره هو.

فإن القوم عرفوا النفسي: بانه ما امر به لنفسه و الواجب الغيري ما امر به لغيره.

فاورد عليهم في التقريرات: بان تعريف الواجب النفسي غير منعكس لخروج جملة الواجبات النفسية عنه، فإن الواجبات النفسية على نحوين:

الأول: ان يكون الواجب النفسي بنفسه و بذاته محبوبا كمعرفة اللّه فانه بنفسه محبوب و مطلوب.

و الثاني: كجملة الواجبات النفسية الأخر فانها ليست بذاتها محبوبة، بل المحبوب و المطلوب في الحقيقة هو ما يترتب عليها من الآثار، فالواجب في الحقيقة و المحبوب في الواقع هو اثرها المترتب عليها، فإن معراجية المؤمن و النهي عن الفحشاء المترتبة على الصلاة- مثلا- هي المحبوبة و المطلوبة في الواقع، و مثل هذه الواجبات على تعريف القوم تخرج عنه، فالتعريف غير منعكس: أي غير جامع لجميع افراد المعرّف.

ص: 133

.....

______________________________

و أورد على تعريف الغيري بانه غير مطّرد: أي غير مانع من دخول غير افراد المعرّف فإن الواجب الغيري الذي عرفوه: بانه ما امر به لغيره يشمل الواجبات الغيرية، كمقدمة الواجب فإنها امر بها لغيرها، و يشمل الواجبات النفسية المذكورة التي خرجت عن تعريف الواجب النفسي فإنها قد امر بها لغيرها، لما عرفت ان المطلوب و المحبوب في الحقيقة فيها هو آثارها لا هي بنفسها فيصدق عليها ما عرفوا به الواجب الغيري، فلذلك عدل في التقريرات عن تعريف القوم و عرفهما بما ذكره في المتن و ذكر له مقدمة: و هي انه لا اشكال ان الوجوب من غير داع محال لعدم الجزاف و التشهّي في الواجبات الشرعية فلا بد و ان تكون لغرض و داع دعا إلى ايجابها، و الى هذه المقدمة أشار بقوله: «و حيث كان طلب شي ء و ايجابه لا يكاد يكون بلا داع» و حينئذ نقول ان الداعي إلى إيجاب الواجب ان كان هو التوصل به إلى واجب آخر لتوقف هذا الواجب الآخر عليه بحيث لولاه لا يحصل التوصل و التمكن منه فهذا الواجب غيري، و إذا لم يكن الداعي إلى وجوب الواجب هو التوصل به إلى واجب آخر فالواجب نفسي، سواء كان هذا الواجب النفسي محبوبا و مطلوبا لذاته كمعرفة اللّه أو كان محبوبا لما يترتب عليه من الفائدة و الاثر الذي هو المحبوب في الحقيقة.

فتحصل مما ذكر: ان الواجب الغيري ما وجب للتوصل به الى واجب آخر، و الواجب النفسي ما وجب لا لواجب آخر «سواء كان الداعي» إلى وجوب هذا الواجب «محبوبية» هذا «الواجب بنفسه كالمعرفة باللّه أو» كان الداعي إلى وجوبه محبوبيته لا بنفسه بل «بما له من فائدة مترتبة عليه كاكثر الواجبات من العبادات» كالصلاة و الزكاة و الغسل و الوضوء، فإن الغرض من الزكاة تنمية الاموال و الضمان الاجتماعي للفقراء، و الغرض من الغسل و الوضوء هو النور المترتب عليهما و الذي به تندفع ظلمة الحدث الاكبر و الاصغر، و مثلها «التوصليات» كالتطهير من الخبث و ازالة القذارة و دفن الميت و ساير الواجبات الكفائية التي بها يحصل النظام الاجتماعي.

ص: 134

محبوبيته كذلك أي بما له من الفائدة المترتبة عليه كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا، فإنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما، لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة (1).

______________________________

(1) لما فرغ من تعريف التقريرات للواجب النفسي و الغيري- اورد عليه بقوله: لكنه.

و حاصله: ان تعريف التقريرات للواجب النفسي غير صحيح- أيضا- فانه عرّف الواجب النفسي: بانه ما كان وجوبه لا بداع التوصل به إلى واجب آخر سواء كان محبوبا بذاته أو محبوبا لما يترتب عليه من الآثار و الفوائد فإن الواجبات التي كان المحبوب فيها في الحقيقة آثارها تكون واجبات غيرية، لأن المحبوب في الحقيقة و المطلوب واقعا هو آثارها فتكون هي قد وجبت للتوصل بها إلى واجب آخر، لأن الفائدة المترتبة عليها إما ان تكون غير لازمة التحصيل و على هذا لا يعقل ان يكون الأمر في تلك الواجبات وجوبيّا اذ لا يعقل ان تكون واجبة لغاية غير واجبة، و ان كانت تلك الآثار المترتبة عليها واجبة التحصيل فالواجب في الحقيقة تلك الآثار و الفوائد المترتبة عليها التي هي اللازم تحصيلها، فإن ما يلزم تحصيله هو الواجب، و عليه فتكون تلك الواجبات انما وجبت لأنها يتوصل بها إلى ما هو الواجب و اللازم التحصيل، و هذا مراده من قوله: «لا يخفى ان الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك أي بما له من الفائدة المترتبة عليه» فيكون الواجب في مثل هذه الواجبات في الحقيقة و الواقع هو ما لها من الفائدة المترتبة عليها، و على هذا «كان الواجب في الحقيقة» في مثل هذا الواجب الذي كانت الفائدة المترتبة عليه هي المحبوبية «واجبا غيريا» لأن الواجب في الحقيقة فائدته لا هو، و انما وجب هو للتوصيل به إلى الفائدة المترتبة فيصدق عليه حد الواجب الغيري، و الدليل على ذلك ما ذكره بقوله: «فانه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة».

ص: 135

فإن قلت: نعم و إن كان وجودها محبوبا لزوما، إلا أنه حيث كانت من الخواص المترتبة على الافعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف (1)، لما كاد يتعلق بها الايجاب.

قلت: بل هي داخلة تحت القدرة، لدخول أسبابها تحتها، و القدرة على السبب قدرة على المسبب، و هو واضح، و إلا لما صح وقوع مثل التطهير و التمليك و التزويج و الطلاق و العتاق إلى غير ذلك من المسببات، موردا لحكم من الاحكام التكليفية (2).

______________________________

(1) حاصل ان قلت: ان تلك الواجبات التي تكون الفائدة المترتبة عليها محبوبة حبا لزوميا لا يصدق عليها تعريف الواجب الغيري و يصدق عليها تعريف الواجب النفسي لا غير، لأن تلك الآثار و الفوائد المترتبة و ان كانت محبوبة لزوما إلّا انها ليست بواجبة، و اذا لم تكن واجبة كان تلك الواجبات ليست واجبا غيريا، لأن تلك الآثار المترتبة عليها ليست واجبة فليست هي مما يتوصل بها إلى الواجب، و السبب في كون تلك الآثار ليست بواجبة هي انه يشترط في الواجب ان يكون مقدورا للمكلف بها، و تلك الآثار و الفوائد ليست بمقدورة و انما هي مما تترتب على المقدور و هي تلك الواجبات التي تلك الآثار و الفوائد تترتب عليها، و قوله: «لما كاد يتعلق بها الإيجاب» هو كتعليل لقوله: «حيث كانت من الخواص المترتبة» و توضيحه ما بيناه.

(2) و حاصل الجواب ان تلك الآثار و ان كانت غير مقدورة مباشرة و بلا واسطة و لكنها مما تترتب على المقدور مباشرة و بلا واسطة و ذلك لا يمنع من التكليف بها، فإن القدرة التي هي شرط في التكاليف هي الاعم من كون المكلف به مقدورا بلا واسطة كاسباب تلك الآثار أو كونه مقدورا بالواسطة كنفس تلك الآثار، فإنها و ان لم تكن من المقدور بلا واسطة لكنها من المقدور بالواسطة لكون اسبابها مقدورة بلا واسطة، و لو كان يشترط في المكلف به ان يكون مقدورا بلا واسطة لما تعلق

ص: 136

فالاولى أن يقال: إن الاثر المترتب عليه و إن كان لازما، إلا أن ذا الاثر لما كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله، بل و يذم تاركه، صار متعلقا للايجاب بما هو كذلك، و لا ينافيه كونه مقدمة لامر مطلوب واقعا، بخلاف الواجب الغيري، لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي، و هذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه، إلا أنه لا دخل له في إيجابه الغيري (1)، و لعله مراد من

______________________________

التكليف بايجاد التطهير و هو من المقدور بالواسطة لانه مما يترتب على غسل الاعضاء الذي هو المقدور بلا واسطة و لما تعلق التكليف بايجاد الملكية و التملك فانه من المقدور بالواسطة، فإن المقدور عليه بلا واسطة هو انشاء العقد الذي يترتب عليه التمليك و الملكية.

و بالجملة: ان جملة مما وقع التكليف به اما تكليفا أو وضعا هو من المسببات التي كانت مقدورة بواسطة القدرة على اسبابها.

قوله «من الاحكام التكليفية» كان ينبغي ان يعطف عليها الاحكام الوضعية أيضا، فإن ما ذكره من الامثلة بعضها حكمها تكليفي و بعضها وضعي إلّا انه حيث كان لا يخلو حكم وضعي من حكم تكليفي لذا ذكر الاحكام التكليفية فقط، و إلّا فالقدرة كما هي شرط في الحكم التكليفي هي شرط- أيضا- في الوضعي.

(1) و توضيحه: انه بعد ما عرفت-: من كون الواجب الذي يكون الداعي إلى ايجابه امرا خارجا عن ذاته هو واجب غيري، و الواجب النفسي ما كان الداعي إلى ايجابه امرا يختص بذاته- نقول بعد قيام القطع بكون هذه الواجبات غير المعرفة باللّه من الواجبات النفسية، فإن من المسلمات التي لا يشك فيها ان الحج و الصلاة و الزكاة و امثالها من الواجبات النفسية، و لم يتوهم احد و لم يشك في كون وجوبها غيريا من بدء الاسلام و عصر الائمة عليهم السّلام إلى هذا العصر، فيكشف هذا عن ان هذه الواجبات معنونة بعناوين حسنة بذاتها اوجب ايجابها و ان كان يلزمها آثار و مصالح

ص: 137

فسرهما بما أمر به لنفسه، و ما أمر به لاجل غيره، فلا يتوجه عليه الاعتراض بأن جل الواجبات لو لا الكل يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية، فإن المطلوب النفسي قلما يوجد في الاوامر، فإن جلها مطلوبات لاجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها (1)

______________________________

هي لازمة التحصيل- أيضا- إلّا ان تلك المصالح و الآثار ليست هي الداعية إلى ايجابها النفسي، بل الداعي الى ايجابها النفسي هو العناوين الحسنة المنطبقة على ذاتها، و هي بخلاف الواجبات الغيرية فلانه ليس الداعي إلى ايجابها الا كونها مقدمة لما هو الحسن و الواجب، و ليس الداعي إلى ايجابها الا كونها مقدمة كذلك، و ان كان ربما يكون في ضمن مقدمات الواجب ما فيه عنوان حسن منطبق على ذاته، كالوضوء و الغسل الواقعين مقدمة للصلاة- مثلا- إلّا ان وجوبهما لم يكن بداعي حسنهما الذاتي بل بداعي كونهما مقدمة لما هو الحسن و الواجب.

و بعبارة اخرى: ان المدار على الوجوب الفعلي لهذه الواجبات فإن كان بداعي الحسن المنطبق على ذاتها فهي واجبات نفسية، و ان كان بداعي كونها مقدمة لما هو الواجب و الحسن بالذات فهي واجبات غيرية.

فاندفع بما قلنا ما اشكل على تعريف الشيخ في التقريرات: من ان الآثار و المصالح المحبوبة اللازمة المترتبة على جل الواجبات النفسية توجب كونها واجبات غيرية، فإن هذه المصالح ليست هي الداعية إلى ايجابها بل الداعي إلى ايجابها هو العناوين الحسنة، و ان كانت تلك المصالح و الفوائد مما تترتب على تلك الواجبات النفسية فيصدق عليها انها الواجب الذي لم يكن الداعي إلى ايجابه التوصل به إلى الواجب، و هذا هو تعريف الواجب النفسي.

(1) أي ما صححنا به تعريف الواجب النفسي الذي عن التقريرات يمكن ان يصحح به تعريف القوم للواجب النفسي: بانه ما امر به لنفسه، و الواجب الغيري: بانه ما امر به لغيره، فإن مرادهم من قوله لنفسه و لغيره هو ان الأمر به تارة للعنوان الحسن

ص: 138

فتأمل (1).

______________________________

المنطبق عليه، و اخرى لكونه مقدمة لما هو الحسن، و ليس غرضهم بيان الفرق من حيث كون الداعي إلى الايجاب تارة محبوبية ذاته و اخرى المصالح و الغايات الخارجة عنه- فيرد عليهم ما اورده في التقريرات: من ان جل الواجبات النفسية انما وجبت لأجل الغايات المترتبة عليها الخارجة عنها.

و بما احتملنا: من كون مرادهم من قوله لنفسه هو العنوان الحسن، و من قولهم لغيره هو كونه مقدمة لما هو الحسن- يندفع عنهم ما اورده عليهم في التقريرات، و الى هذا أشار بقوله: «فلا يتوجه عليه»: أي على تفسير القوم و تعريفهم للواجب النفسي بانه ما امر به لنفسه و للواجب الغيري ما امر به لاجل غيره ما اورد عليهم «فلا يتوجه عليه»: أي لا يتوجه على التعريف المذكور للقوم «الاعتراض بان جل الواجبات» إلى آخر كلامه، و هذا هو اعتراض صاحب التقريرات على تعريف القوم، و قد عرفت انه يندفع عنهم بما احتملنا و فسرنا به تعريفهم.

(1) يمكن ان يكون إشارة إلى امور:

- منها: ان ما ذكره بقوله «و الاولى» لا يتم في الواجبات التي كان من المسلم انها نفسية و كان وجوبها لأجل ما يترتب عليها من المصالح و الغايات الخارجة عنها، كوجوب دفن الميت الذي علم ان وجوبه انما هو لحفظ كرامته مما يحل به من التشويه و التفسخ بعد الموت و لأجل ما يلزم من عدم دفنه من الاضرار بالغير من تعفنه و رائحته.

- و منها: ان العناوين الحسنة المنطبقة على هذه الواجبات هي- أيضا- ليست ذاتية لها بل عارضة و العناوين العارضة كالمصالح و الفوائد و الغايات الخارجة عنها المترتبة عليها، لأن عنوان الحسن بالذات ينحصر في عنوان العدل و الاحسان، كما ان عنوان القبح الذاتي ينحصر في الظلم و العدوان، و ما بقى من الاشياء انما تكون حسنة لانتهائها إلى ما هو الحسن بالذات و القبيح بالذات.

ص: 139

الشك في كون الواجب نفسيا أو غيريا

ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين، و أما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري، فالتحقيق أن الهيئة، و إن كانت موضوعة لما

______________________________

- و منها: ان ما ذكره في قوله: الاولى- لا يدفع ما يرد على التقريرات بعد تصريحه بان الواجب النفسي ما وجب لا لواجب آخر سواء كان الداعي إلى ايجابه محبوبيته الذاتية أو محبوبية لازمه، فانه في معزل عن العنوان الحسن الذي ذكره مناطا للوجوب النفسي.

- و منها: انه لو اجتمع في الشي ء عنوان حسن لذاته و امور مترتبة عليه لازمة الاستيفاء و خارجة عنه، فقد اجتمع فيه الملاكان: ملاك الوجوب النفسي و ملاك الوجوب الغيري فيتأكدان و يكون وجوبا واحدا و لكن لا يصح ان يكون واجبا نفسيا فقط.

- و منها: ان المدار في الغيرية ان يكون وجوب الشي ء مترشحا من واجب آخر قد وجب بخطاب يخصه، و المدار في النفسية ان لا يكون وجوبه مترشحا من واجب آخر، و اما كون الفوائد و المصالح المترتبة على الواجب النفسي هي محبوبة واقعا و يلزم استيفاؤها لا يضر فيما هو ملاك الوجوب، لانها بعد ان لم تكن تلك المصالح و الفوائد مما امر بها و ليس لها وجوب قد تعلق بها، فالواجبات المترتبة عليها تلك المصالح يصدق عليها انها واجبات لم يترشح الوجوب اليها من واجب آخر.

فما ذكره ايرادا على التقريرات غير وارد، و ما اورده التقريرات على القوم- أيضا- غير وارد، فإن مراد القوم في تعريف النفسي: ما امر به لنفسه: أي بان لا يكون الوجوب قد ترشح عليه من واجب آخر و مرادهم بالغيري: بانه ما امر به لغيره: أي ما كان وجوبه قد أتاه من ناحية وجوب آخر، و ليس نظرهم إلى الدواعي و المصالح التي تدعو إلى الوجوب.

ص: 140

يعمهما، إلا أن إطلاقها يقتضي كونه نفسيا، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم (1).

______________________________

(1) حاصله: انه لا اشكال فيما إذا علمنا حال الوجوب و انه نفسي أو غيري أو قام دليل من الخارج على كونه نفسيا أو غيريا، و انما الاشكال فيما إذا لم نعلم حاله و لم يقم دليل من الخارج على تعيين احدهما، و حينئذ لا بد من الرجوع إلى الاطلاق الذي يمكن ان يعين احدهما لو كان لنا إطلاق، و إلّا فالرجوع إلى ما تقتضيه الاصول.

و لا يخفى: ان الرجوع إلى الاطلاق يقتضي تعيين كون الوجوب نفسيا لا غيريا، و توضيحه بامرين:

الأول: انه قد عرفت ان الوجوب الغيري هو الوجوب المترشح من وجوب آخر، فهو الوجوب المربوط بوجوب آخر و الواجب النفسي هو الوجوب غير المربوط بوجوب آخر.

الثاني: ان قيد الوجوب الغيري قيد وجودي و هو ربط وجوبه بوجوب آخر، و الوجوب النفسي قيده عدم ربطه بوجوب آخر، و لا يخفى ان القيد في المقام هو الربط و عدم الربط، فاذا كان القيد هو ربط الوجوب لا بد من بيان له، و اما إذا كان القيد عدم الربط يكفي عدم بيان الربط بيانا له، فاذا كان المولى في مقام البيان و انتفى القدر المتيقن و لا قرينة شخصية فالكلام- حينئذ- خال عما يدل على ربط هذا الوجوب المستفاد من الصيغة بوجوب آخر، فلو كان هذا الوجوب وجوبا مربوطا لكان على المولى البيان، اما إذا كان غير مربوط كان عدم بيان الربط كافيا فيه، و حيث كان القيد في الغيرية هو الربط و في النفسية عدم الربط فالاطلاق في الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا: أي كونه وجوبا غير مرتبط.

و بعبارة اخرى: ان الوجوب النفسي ما كان وجوبه مرادا لنفس ذاته، و الوجوب الغيري ما كان مرادا لغير ذاته فيكفي ذكر نفس ذات الوجوب في كونه مرادا فيما كان الوجوب نفسيا، بخلاف الوجوب الغيري فإن ذكر نفس ذات

ص: 141

و أما ما قيل من أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة، لدفع الشك المذكور، بعد كون مفادها الافراد التي لا يعقل فيها التقييد، نعم لو كان مفاد الامر هو مفهوم الطلب، صح القول بالاطلاق، لكنه بمراحل من الواقع، إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الامر، و لا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب، فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الارادة و حقيقتها، لا بواسطة مفهومها، و ذلك واضح لا يعتريه ريب (1).

______________________________

الوجوب غير كاف فيه بل لا بد من ذكر ارتباطه بغيره، فالاطلاق يقتضي النفسية و ان كانت الهيئة لم توضع الا للوجوب الذي هو اعم من الوجوب النفسي و الغيري إلّا ان الاطلاق يقتضي كونه نفسيا، و الى هذا أشار بقوله: «ان الهيئة و ان كانت موضوعة لما يعمهما» إلى آخر كلامه.

و الحاصل: ان الشرط و القيد الوجودي- و هو كونه شرطا لغيره و من متعلقات وجوب آخر- هو الذي يجب على المتكلم الحكيم التنبيه عليه، بحيث لو لم ينبه عليه كان مخلا بغرضه، بخلاف عدم كونه من متعلقات غيره و عدم شرطيته لغيره لا يجب عليه التنبيه عليه، بل يكفي عدم بيان كونه من متعلقات الغير بيانا، و له ان يقتصر على الكلام الدال بذاته على صرف الوجوب معتمدا على كون الوجوب نفسيا على الاطلاق.

(1) لا يخفى ان النزاع بين التقريرات و المتن في ان الاطلاق الذي يمكن التمسك به في تعيين النفسية هو اطلاق المادة فقط، و ان الواجب البدلي المستفاد من المادة هو واجب نفسي لا غيري.

و كيفية التمسك باطلاقه لاثبات النفسية هو ما ذكر في اطلاق الهيئة كما هو رأي التقريرات، أو انه كما يمكن التمسك باطلاق المادة كذلك يمكن التمسك باطلاق الهيئة فيمكن التمسك بهما معا، و لكنه حيث يمكن التمسك باطلاق نفس الوجوب

ص: 142

.....

______________________________

الذي هو المستفاد من الهيئة لا نحتاج إلى التمسك بمتعلق الوجوب و هو الواجب المستفاد من المادة.

و على كل فالنزاع بين التقريرات و المتن في امكان التمسك باطلاق الهيئة و عدمه، فقوله: «و اما ما قيل من انه لا وجه للاستناد إلى آخره» هو ما ذكر في التقريرات دليلا على عدم امكان التمسك باطلاق الهيئة، و حاصله يتضح بامرين:

الأول: ان القابل لأن يكون له اطلاق أو تقييد هو المفهوم و نفس الماهية غير المراد منها فردا معينا من افرادها، اما لو كان المدلول المستفاد من الالفاظ فردا معينا من افراد الماهية فلا يعقل ان يكون له اطلاق أو تقييد، لأن الفرد المعين خاص جزئي غير قابل للاطلاق و التقييد.

الثاني: ان العقل انما يحكم بلزوم الامتثال إذا كان المراد هو الطلب الحقيقي الواقعي، اما نفس مفهوم الطلب فلا يحكم العقل بلزوم امتثاله.

فاذا عرفت هذا يتضح ان مفاد الهيئة لا يمكن التمسك باطلاقه لا لما ذكرناه سابقا: من انه معنى حرفي و هو جزئي، بل مع الغض عن ذلك، فلو قلنا: بان مفاد الحرف معنى كلي لا بد في المقام ان نقول ان مفاد الهيئة فرد جزئي لا اطلاق فيه، لما عرفت: من ان مفاد الهيئة هو الوجوب و الطلب الالزامي اللازم الامتثال، و ليس هو إلّا الطلب الحقيقي و الارادة الحقيقية المتعلقة بالمادة، فانه لو كان مفاد الهيئة هو مفهوم الطلب لما حكم العقل بلزوم امتثاله، فإن الطلب المستفاد من الهيئة هو الطلب المتعلق بالمادة الذي يتصف المتعلق لها بانه مطلوب. و لا شبهة ان المراد من هذا الوصف للمتعلق هو كونه مطلوبا بطلب واقعي و مرادا بارادة حقيقية، فانه لو كان المستفاد منها هو مفهوم الطلب لما صح اتصاف الفعل بانه مطلوب و مراد واقعا.

فاتضح مما ذكرنا: انه لا اطلاق للهيئة يدفع به الشك في كون الوجوب نفسيا أو غيريا و هو المراد بقوله: «لدفع الشك المذكور» و قد أشار إلى كون مفاد الهيئة ليس مفهوم الطلب بقوله: «نعم لو كان مفاد الامر»: أي الوجوب المستفاد من الحقيقة

ص: 143

ففيه إن مفاد الهيئة كما مرت الاشارة إليه ليس الافراد، بل هو مفهوم الطلب، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف، و لا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي، و الذي يكون بالحمل الشائع طلبا، و إلا لما صح إنشاؤه بها، ضرورة أنه من الصفات الخارجية الناشئة من الاسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو السبب لانشائه، كما يكون غيره أحيانا (1).

______________________________

لو كان «هو مفهوم الطلب صح القول بالاطلاق» لما عرفت: من ان القابل لأن يكون له اطلاق هو المفهوم دون الفرد الخاص و قد أشار إلى كون المستفاد منها ليس هو مفهوم الطلب بل مفادها الطلب الحقيقي و الارادة الحقيقية و هو امر خاص لا اطلاق له و لا تقييد بقوله: «لكنه بمراحل من الواقع»: أي ان كون مفادها هو مفهوم الطلب يبعد عن الواقع بمراحل.

و استدل على كون المستفاد منها ليس مفهوم الطلب بل مفادها الطلب الحقيقي و هو فرد خارجي جزئي لا اطلاق فيه بقوله: «إذ لا شك في اتصاف الفعل» إلى آخر كلامه، فتحصل من كلامه أنه لو قلنا ان الحرف لم يوضع بالوضع العام و الموضوع له الخاص فيكون جزئيا لا بد ان نقول ان مفاد الهيئة بالخصوص جزئي خاص للبرهان الذي أشار اليه: من اتصاف الفعل بالمطلوبية و ليس مفادها ماهية الطلب اللابشرط القسمي، و هو المراد بقوله: «مفهوم الطلب» فانه القابل للاطلاق و التقييد.

(1) حاصل الجواب: انه قد عرفت ان الوضع في الحروف قاطبة هو الوضع العام و الموضوع له العام، و لا خصوصية للهيئة من بين الحروف و لا يعقل ان تكون الهيئة دالة على فرد خاص من افراده، بل مدلولها لا بد و ان يكون: «هو مفهوم الطلب» «و لا يكاد» يعقل أن «يكون» مدلول الهيئة «فرد الطلب الحقيقي» الذي يكون هو الطلب بالحمل الشائع الصناعي، لما قد عرفت في مبحث الطلب و الارادة ان

ص: 144

.....

______________________________

المصنف يرى ان الحمل الشائع في الطلب و هو حمل الكلي على فرده يختص بحمل الطلب على فرده الحقيقي دون الانشائي و الذهني، و لذا قال: «و الذي يكون بالحمل الشائع طلبا».

و قد استدل على انه لا يعقل ان يكون مدلول الهيئة هو الفرد الحقيقي من الطلب و انه لا بد و أن تكون كسائر الحروف مدلولها الماهية لا بشرط القابلة للاطلاق و هي مفهوم الطلب لا فرد خاص منه-: بانه لا اشكال ان الصيغة المشتملة على الهيئة هي من المعاني الانشائية لا الاخبارية، و من الواضح ان القابل لأن يكون انشائيا و يطرقه الوجود الانشائي هو مفهوم الطلب و الماهية لا بشرط، و اما الفرد الحقيقي الخارجي لا يعقل ان يطرقه الوجود و التحقق الانشائي لإباء كل فعلية عن فعلية اخرى كما ان التحقق الانشائي لا يعقل ان يكون طلبا حقيقيا.

و من الواضح ان الطلب الحقيقي و الارادة الحقيقية وجود خارجي من موجودات عالم النفس كالحب و البغض و امثالهما و تتصف النفس به، فيقال: ان النفس مريدة و محبة و مبغضة، فالطلب الحقيقي من الصفات الخارجية اللاحقة للنفس الناشئة تلك الصفات من اسبابها كالملائمة لها اما بذاتها أو لما يترتب عليها من الاغراض و الفوائد الملاءمة للنفس تارة و المنافرة لها اخرى. و على كل فالوجود الخارجي لا يعقل انشاؤه بل القابل للانشاء هو المفهوم.

نعم، قد يكون الوجود الحقيقي للطلب هو السبب في الوجود الانشائي بانشاء مفهوم الطلب، و ربما لا يكون الطلب الحقيقي و الارادة الحقيقية بل يكون السبب لانشاء مفهوم الطلب هو الامتحان و الاعتذار و قد يكون غير ذلك كما أشرنا اليه في بعض المباحث المتعلقة بالصيغة و قد أشار إلى ما ذكرنا بقوله: «و إلّا لما صح انشاؤه بها»: أي لو كان المدلول للهيئة هو الطلب الحقيقي لما صح انشاؤه بهيئة الصيغة «ضرورة انه من الصفات الخارجية» إلى آخر كلامه، و قد أشار إلى ان الطلب

ص: 145

و اتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية و الارادة الحقيقية الداعية إلى إيقاع طلبه، و إنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي و تحريكا إلى مراده الواقعي لا ينافي اتصافه بالطلب الانشائي أيضا، و الوجود الانشائي لكل شي ء ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظه، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر.

و لعل منشأ الخلط و الاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق، فتوهم منه أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا، يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع، و لعمري إنه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له، و إن تعارف تسميته بالطلب أيضا، و عدم تقييده بالانشائي لوضوح إرادة خصوصه، و إن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها، كما لا يخفى.

فانقدح بذلك صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط، كما مر هاهنا بعض الكلام، و قد تقدم في مسألة اتحاد الطلب و الارادة ما يجدي في المقام.

هذا إذا كان هناك إطلاق (1)، و أما إذا لم يكن، فلا بد من الاتيان به

______________________________

الحقيقي ربما يكون هو السبب لانشاء مفهوم الطلب و قد يكون غيره بقوله: «نعم ربما يكون هو السبب لانشائه»: أي الطلب الحقيقي إلى آخره.

(1) يشتمل كلامه هذا- إلى قوله: و قد تقدم في مسألة اتحاد الطلب و الارادة ما يجدي في المقام- على امور:

- منها: ان الفعل المتعلق للطلب كما يوصف بكونه مطلوبا حقيقيا كذلك يتصف بكونه مطلوبا انشائيا، و انه متعلق للطلب الانشائي كما انه متعلق للطلب الحقيقي، لوضوح انه انما يتصف ماهية الطلب بانه حقيقي لكون الطلب الحقيقي نحو من انحاء

ص: 146

فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا، للعلم بوجوبه

______________________________

الطلب، و كما ان الطلب الحقيقي نحو من انحائه كذلك الطلب الانشائي نحو من انحائه ايضا.

- و منها: ان كون العقلاء يحكمون بان الذي يجب امتثاله هو الطلب الحقيقي لا ينافي ان يكون المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب، لأن حكم العقلاء انما هو لأجل انهم يحكمون بتطابق الارادة الانشائية للارادة الجدية و ان الارادة الجديّة هي السبب لإنشاء الارادة الاستعمالية و ربما يكون غيرها سببا للانشاء، فاذا كان السبب غير الارادة الجدية فالمتعلق للطلب يتصف بانه مطلوب انشائي لا غير.

- و منها: بيان حقيقة الانشاء و انه ليس إلّا قصد ايجاد المعنى باللفظ لا لغرض الحكاية بل يكون الغرض كون هذا المعنى المنشأ هو نحو وجود و ايجاد للمعنى، و هذا نحو من انحاء وجود المعنى كما مر تفصيله في اتحاد الطلب و الارادة.

- و منها: ان منشأ الاشتباه و الخلط في توهم ان مفاد الصيغة هو الطلب الحقيقي هو تعبيرهم ان مفادها هو الطلب من دون تقييد له بكونه انشائيا، و ينصرف غالبا من لفظ الطلب غير المقيد إلى الطلب الحقيقي، و لكن لا وجه لهذا التوهم و الانصراف، فانه انما يتم و يحسن فيما إذا لم يقم البرهان على عدمه، و عدم امكان إنشاء الطلب الحقيقي دليل على عدم كون مفاد الصيغة هو الطلب الحقيقي و لا بد و ان يكون مفادها ما يقبل الانشاء و هو مفهوم الطلب الذي بانشائه يكون طلبا انشائيا.

- و منها: ان هذا النوع من الخلط و الاشتباه هو من اشتباه المفهوم بالمصداق، فإن الطلب الحقيقي مصداق من مصاديق مفهوم الطلب الذي هو المنشأ و هو القابل لا غيره للانشاء، فتوهم ان المنشأ هو الطلب الحقيقي خلط منه بين المصداق و المفهوم.

و بعد ما ذكرناه من هذه الامور تتضح عبارة المتن و ما أراده منها تصريحا أو تلويحا.

ص: 147

فعلا، و إن لم يعلم جهة وجوبه، و إلا فلا، لصيرورة الشك فيه بدويا، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) حاصله انه إذا لم يكن هناك اطلاق: بان لم يحرز كون المولى في مقام البيان فلا بد من الرجوع إلى ما تقتضيه القواعد، و حيث علم انه واجب و شك في كيفية وجوبه و انه هل وجوبه نفسي أو غيري فاصل وجوبه محرز، فاذا علمنا بانه لو كان وجوبه غيريا و شرطا لشي ء فإن المشروط به قد تنجّز التكليف به فحينئذ نعلم تنجّز التكليف و فعليته في هذا المشكوك نفسيته أو غيريته، إذ لو كان نفسيا فتكليفه فعلي و لو كان غيريا فائضا التكليف به فعلي، لتنجز ما هو مشروط به فلا بد من الاتيان به للعلم بفعليته على كل حال، و اما إذا لم نعلم بفعليته لاحتمال كون المشروط به ليس بفعلي فتجري البراءة في فعليّته لاحتمال كون وجوبه غيريا و المشروط به ليس بفعلي و لا منجز، فيكون الشك في فعليته بدويّا و الشك البدوي مجرى البراءة و لذا قال:

«فلا بد من الاتيان به»: أي لا بد من الاتيان فعلا بهذا المشكوك نفسيته أو غيريته للعلم بفعلية الخطاب به اما لنفسيته أو لغيريته لأن ذلك «فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا»: أي فيما إذا علمنا بفعلية التكليف الذي احتمل كون هذا المشكوك شرطا له، و لا بد حينئذ من العلم بفعلية هذا التكليف المشكوك نفسيته أو غيريته اما لنفسه أو لغيره، و لذا قال: «للعلم بوجوبه فعلا و ان لم يعلم جهة وجوبه و الّا» و ان لم يكن ما احتمل كونه شرطا له بفعلي «فلا»: أي و حينئذ لا نعلم فعلية التكليف بهذا المشكوك لاحتمال كون وجوبه غيريا و لم يكن ما شرط به فعلى الوجوب، فتكون فعلية التكليف بهذا المشكوك مشكوكة بالشك البدوي فنجري فيه البراءة و لذا قال: «لصيرورة الشك فيه بدويا كما لا يخفى» و ربما يقال:

بانه فيما إذا علمنا فعلية هذا المشكوك اما لنفسه أو لغيره: بان كان ما احتمل كونه شرطا له قد تنجز وجوبه فحينئذ تارة نعلم على فرض كونه شرطا ليس بشرط متأخر عن المشروط به، و يكتفى في هذا الفرض باتيان هذا المشكوك مرة واحدة قبل اتيان

ص: 148

تذنيبان

تذنيبان الاول: لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي و موافقته، و استحقاق العقاب على عصيانه و مخالفته عقلا، و أما استحقاقهما على امتثال الغيري و مخالفته، ففيه إشكال (1)، و إن كان

______________________________

المشروط لانه اما متقدم عليه أو معه، و اما إذا احتملنا انه من الشرط المتأخر عن المشروط به فلا بد من اتيانه مرتين: مرة قبل المشروط و مرة بعد المشروط اداء لحق العلم الاجمالي.

و فيه: ان تنجز العلم الاجمالي انما هو بمقدار العلم به، و العلم قد قام على كون التكليف بهذا المشكوك فعليا، فإن كان منجزا فلا يعقل ان يكون شرطا بنحو الشرط المتأخر، اذ فعليته مع كونه متأخرا عن المشروط به لازمها كون خطابه و فعليته بنحو الواجب المعلق لا المنجز، و احتمال كون وجوبه فعليا و الواجب متأخرا بنحو الواجب المعلق يزيد على العلم بفعليته و هو مشكوك يحتاج إلى بيان، لأن كون وجوبه فعليا و الواجب أمرا متأخرا شي ء زائد يحتاج إلى بيان، و حيث ان المفروض انه لا بيان فكونه بنحو التعليق مجرى البراءة فيكتفى باتيانه مرة واحدة، و لذا لم يتعرض المصنف له و لا اظن ان يلتزم احد في الواجب النفسي الذي علم بفعليته و شك في كونه منجزا بالفعل أو معلقا يؤتى به في زمان آخر: بانه يجب اتيانه مرتين.

(1) ينبغي توضيح المقام بالكلام في نواح متعددة:

الأولى: ان المراد باستحقاق الثواب و العقاب ليس انه يجب على المولى ان يثيب عبده المطيع و يجب ان يعاقب عبده العاصي، بل المراد ان العقلاء يحكمون: بان ثواب المولى لعبده المطيع شي ء واقع في محله كما ان عقابه لعبده العاصي شي ء واقع منه في محله، و إلّا فمن الواضح ان العقلاء لا يحكمون بوجوب الثواب من المولى و بوجوب العقاب منه.

ص: 149

.....

______________________________

الثانية: ان حكم العقلاء باستحقاق الثواب و العقاب أو بمدح المطيع و ذم العاصي ليس خاصا في خصوص الاطاعة و العصيان لعنوان يخص باب الاطاعة و العصيان، بل لأن المورد من موارد القضية العامة: من حكمهم بحسن العدل و مدح فاعله و بقبح الظلم و ذم فاعله جلبا للخير و دفعا للشر حفظا للنظام و ابقاء للنوع و ان انقياد العبد و طاعته عدل منه في مراسم العبودية، و تجزؤه بعصيانه على مولاه ظلم و خروج عن مراسم الرقية، فالمطيع فاعل للعدل فيستحق المدح و الثواب جلبا للخير و العاصي فاعل للظلم فيستحق الذم و العقاب دفعا للشر.

الثالث: ان حكم العقل باستحقاق العبد للثواب و المدح و للعقاب و الذم انما يتم بالنسبة إلى اوامر سائر الموالي و عبيدهم حيث يكون الغرض عائدا إلى المولى فيما امر به و نهى عنه، و اما بالنسبة إلى مولى الموالي و خلقه فلا يتم ذلك، لوضوح ان الغرض من اوامره و نواهيه لا يعود اليه، و كيف و هو أغنى الاغنياء؟ و لذا فصل بعضهم: بان الثواب منه تعالى على المطيع تفضل منه إذ العبد لم يفعل باطاعته الا ما يعود نفعه اليه لا إلى المولى، و اما في معصيته فانه تمرد منه على مولاه المتلطف به الذي نهاه عن شي ء فعله مفسدة عليه، و هو ظلم من العبد و خروج من مراسم العبودية و قانون الرقية بالنسبة لهذا المولى اللطيف به المتفضل عليه باخراجه له من ظلمة المفسدة و دركها بنهيه له عنها.

و لكن يمكن ان يقال: ان الحق عدم التفصيل في هذه القضية، لانه بعد ما عرفت ان باب الاطاعة و العصيان انما هي من مصاديق القضيتين العقلائيتين و هما حسن العدل و مدح فاعله و قبح الظلم و ذم فاعله، فاطاعة العبد مولاه بما هي اطاعة منه له عدل منه و يستحق المدح عليها، و عصيانه بما هو عصيان لمولاه و تمرد عليه ظلم منه لمولاه و يستحق الذم عليه، و ليس في هاتين القضيتين اناطة بالغرض الداعي إلى امر المولى و نهيه، بل تراهم بالنسبة اليه- تبارك و تعالى- يقولون: ان مدحه ثوابه و ذمه عقابه و بهذا تظافرت الاخبار في زيادة درجات المطيعين و ما أعده لهم من جنانه

ص: 150

التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته و مخالفته، بما هو موافقة و مخالفة، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد، أو لثواب كذلك، فيما خالف الواجب و لم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها، أو وافقه و أتاه بما له من المقدمات.

نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة، و بزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له، من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الاعمال، حيث صار أشقها (1)،

______________________________

و الاخبار صريحة: بان لكل فعل من افعال العبد الإطاعية ثواب عظيم و اجر كبير و ان فضله- جل منعما- في انه يجازي بالحسنة عشرة امثالها و لا يقابل السيئة الا بمثلها إذا لم تسبق رحمته غضبه.

الرابعة: ان هذا مسلم بالنسبة إلى الاوامر و النواهي النفسية. و اما بالنسبة إلى الاوامر الغيرية فقد وقع الاشكال في استحقاق الثواب و العقاب عليها.

(1) و توضيح ذلك ان الاوامر الغيرية مع انها مثل الاوامر النفسية في انها لها وجود كما ان للاوامر نفسية وجودا لأنها معلولات لها و المعلول له حظ من الوجود مثل حظ علته، لا انه هناك امر واحد ينسب إلى الواجبات النفسية بالذات و الى الواجبات الغيرية بالعرض و ليس للامر الواحد الا إطاعة واحدة و عصيان واحد لكنها مع ذلك انها اوامر متحققة مثل الاوامر النفسية لا تستحق عقابا و لا ثوابا، لأنها وجودات قهرية وجدت ملازمة للاوامر النفسية وجدت لتوقف الواجب النفسي عليها.

و بعبارة اخرى: انها وجدت لأن من اراد شيئا اراد مقدمته لتوقفه عليها، لا انها انما وجدت لذاتها حتى يكون لها إطاعة و معصية، فليس الامر بها لأجل ما لها من الاهمية و الغرض الذاتي حتى يكون لها اطاعة و معصية، بل انما وجدت لأنها لا بد ان توجد قهرا للملازمة بين ارادة الشي ء و ارادة مقدماته، و ما كان كذلك لا يحكم العقلاء بان له اطاعة تستحق الثواب و لا معصية تستحق العقاب.

ص: 151

و عليه ينزل ما ورد في الاخبار من الثواب على المقدمات، أو على التفضل فتأمل جيدا (1)، و ذلك لبداهة أن موافقة الامر الغيري بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الامر النفسي لا توجب قربا، و لا مخالفته بما هو كذلك بعدا، و المثوبة و العقوبة إنما تكونان من تبعات القرب و البعد (2).

______________________________

نعم، ربما يتضاعف ثواب الواجب النفسي إذا كانت مقدماته ذات مشقة و كثيره من باب افضل الاعمال احمزها، و ربما يعاقب على ترك المقدمة لكنه ليس عليه بل على ترك الواجب لانه بتركها يترك الواجب، فالعقاب على تركه لا على ترك المقدمة و الى هذا أشار بقوله: «نعم لا باس باستحقاق العقوبة على المخالفة»: أي على المخالفة للواجب النفسي لا على المقدمة «عند ترك المقدمة» إلى آخر كلامه.

و يظهر منه ان المخالفة على ترك الواجب تحصل بمجرد ترك تلك المقدمة و لا يخلو عن نظر، فالواجب إذا كان ظرفه متأخرا انما يصدق ترك الواجب في ظرفه و اما عند ترك المقدمة فلا يصدق انه ترك الواجب، نعم يصدق ان الواجب محقق الترك في ظرفه، و لعله لهذا عبر بقوله: لا بأس.

(1) لما ذكر ان الواجب ذا المقدمات الكثيرة تزداد مثوبته لانه يصير من أشقّ الاعمال قال انه على هذا تنزل الاخبار الدالة على ان الثواب على المقدمات، فهي بمعنى انها سبب لزيادة الثواب على الواجب، فناسب ان يسند الثواب اليها.

أو نقول: ان الاخبار انما دلت على ان الثواب على المقدمات و لم تدل على ان الثواب عليها من باب الاستحقاق، فلا بد و ان يكون ثوابها من باب التفضل.

(2) لما ذكر فيما سبق بان ضرورة العقل تحكم بان الامر الغيري لا يقتضي استحقاق العقاب على مخالفته و عصيانه و لا استحقاق الثواب على موافقته و اطاعته بما هو امر غيري لضرورة حكم العقل بانه ليس للواجب النفسي ذي المقدمات الكثيرة الا استحقاق عقاب واحد على مخالفته، و لا يرى العقل تعدد العقاب لترك المقدمات و لتركه و كذلك الحال في مسألة الثواب. و هذه الضرورة حيث انها كفتوى من غير

ص: 152

اشكال و دفع

إشكال و دفع: أما الاول: فهو أنه إذا كان الامر الغيري بما هو لا إطاعة له، و لا قرب في موافقته، و لا مثوبة على امتثاله، فكيف حال بعض المقدمات كالطهارات، حيث لا شبهة في حصول الاطاعة و القرب و المثوبة بموافقة أمرها، هذا مضافا إلى أن الامر الغيري لا شبهة في كونه توصليا، و قد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة (1).

______________________________

بينة ذكر هذا الدليل، و السبب لحكم العقل بعدم الاستحقاق الا لعقاب واحد و هو على ترك الواجب النفسي و ان تعددت مقدماته لا على ترك المقدمات و إلّا لتعدد العقاب.

و حاصل هذا الدليل: ان الثواب و العقاب يدوران مدار القرب من المولى و البعد عنه، و لا قرب في اطاعة الامر الغيري و لا بعد في مخالفته، و انما القرب و البعد في اطاعة الواجب النفسي و عصيانه لذلك لم يكن للامر الغيري عقاب و لا ثواب.

و لكن هذا أيضا كدعوى بلا بينة، فانه لقائل ان يقول: انه بعد ان كان الامر الغيري في عرض الامر النفسي من حيث كونه له وجود و تحقق فلما ذا لا تكون اطاعته مقربة و معصيته مبعدة، فالاولى ان يعلل بما ذكرنا ليكون هو السبب في حكم العقل بعدم الاستحقاق و بعدم القرب و البعد، و لعل قوله (قدس سره): «لا بما هو شروع في اطاعة الامر النفسي» يشير إلى ما ذكرناه: من ان الامر الغيري حيث انه ارادة قهرية تابعة لارادة ذي المقدمة فليس الامر بها لاقتضاء ذاتها للامر، بل المقتضي لها هو الواجب النفسي، فليس لها اطاعة و انما يكون اتيانها شروعا في اطاعة الامر النفسي و من شئونها، و لذا لا توجب قربا لنفسها و لا بعدا لذاتها فلا يكون لها ثواب و لا عقاب اللذان هما من تبعات و لوازم القرب و البعد.

(1) الأول: هو الاشكال، و هو اشكالان أشار إلى اولهما بقوله: فهو انه إذا كان إلى آخره.

و الى ثانيهما: بقوله: هذا مضافا إلى ان الامر الغيري إلى آخره.

ص: 153

و أما الثاني: فالتحقيق أن يقال: إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة و عبادة، و غاياتها إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات، فلا بد أن يؤتى بها عبادة، و إلا فلم يؤت بما هو مقدمة لها، فقصد القربة فيها إنما هو لاجل كونها في نفسها أمورا عبادية و مستحبات نفسية،

______________________________

و حاصل الاشكال الاول: انه قد ثبت مما تقدم ان الامر الغيري بما هو أمر غيري لا مثوبة على امتثاله و لا اطاعة له اطاعة توجب قربا من المولى بموافقة ما امر به.

و قد مر ان هذا الحكم عقلي و الاحكام العقلية لا تخصيص فيها فلا فرق بين مقدمة و مقدمة، مع انه قد تظافرت الادلة على كون الطهارة من الوضوء و الغسل و بدلهما من التيمم لها ثواب لأن الوضوء نور و الغسل اعظم نورية من الوضوء كما هو لسان قوله عليه السّلام: (و أي وضوء أطهر من الغسل)(1) و دلت الادلة أيضا على انها مقربة من المولى، و قد تقدم ان الامر الغيري لا قرب فيه.

و الاشكال الثاني: هو ان الامر الغيري امر توصلي و لا سيما لما سيأتي، و تقدم:

من ان المقدمة ما هو بالحمل الشائع مقدمة لا عنوان مقدميتها، لأن التوقف على ذاتها لا على عنوان مقدميتها، فيحصل الامتثال بالمقدمة و ان لم يقصد بها امتثال امرها، فلا يشترط في مقدميتها قصد القربة مع انه قد دلت الادلة- أيضا- على ان الطهارات الثلاث: الوضوء و الغسل و بدلهما- و هو التيمم- لا تتم مقدميتها إلّا بقصد القربة، فاوامرها الغيرية قربية عبادية، و هذا مناف لما ذكرنا: من أن الامر الغيري توصلي لا تعبدي، و الى هذا أشار بقوله: «هذا مضافا إلى ان الامر الغيري لا شبهة في كونه توصليا» و الحال انه «قد اعتبر في صحتها»: أي في صحة الطهارات الثلاث «اتيانها بقصد القربة» فاوامرها تعبدية لا توصلية.

ص: 154


1- وسائل الشيعة ج 1: 513/ 1 باب 33 من ابواب الجنابة.

لا لكونها مطلوبات غيرية (1) و الاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنما هو لاجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث أنه لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة (1)، فافهم.

______________________________

(1) هذا هو الدفع لهذين الاشكالين.

و حاصله الذي به يندفع الاشكالان معا: هو ان ذا المقدمة توقفه يختلف فتارة يتوقف على ذات الشي ء، و اخرى يكون توقفه على الشي ء بما هو عبادة فيكون بما هو عبادة مقدمة، فلا تتحقق مقدميته إلّا إذا أتى به عبادة.

و بعبارة اخرى: ان الطهارات الثلاث بذاتها عبادات و مستحبات نفسية و هي مقدمة للواجب كالصلاة و الطواف- مثلا- بما هي عليه بذاتها و ذاتياتها، فاذا كانت بذاتها و بنفسها امورا عبادية فلا بد إذا توقف عليها الواجب ان تتحقق بما هي عليه و تحققها بما هي عليه يلزمه قصد القربة، فقصد القربة فيها لا لاقتضاء الامر الغيري للقربية، بل الامر الغيري يدعو إلى تحقق هذه الطهارات و تحقق هذه الطهارات لا يكون إلّا باتيانها بقصد القربة لتوقف تحققها بذاتها على قصد القربة، فلا بد من اتيانها بقصد القربة لتتحقق، لا لأن الامر الغيري يدعو إلى قصد القربة بل الامر الغيري يدعو إلى تحققها كما يدعو إلى ايجاد سائر المقدمات لتوقف الواجب عليها، و اما عباديتها فلأن تحققها بذاتها يتوقف على قصد القربة، و بهذا اندفع الاشكالان اما الاشكال الاول و هو ان اتيانها يقتضي الثواب فليس ذلك الاقتضاء من الامر الغيري فيها دون ساير المقدمات، بل لأنها بنفسها عبادة و العبادة اتيانها يقتضي ثوابا و قربا، فثوابها لذاتها و لانها بنفسها مستحبات نفسية لا لأن امرها الغيري يقتضي ثوابا و قربا، و الى هذا أشار بقوله: «فالتحقيق ان يقال: إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة و عبادة» لا لأجل امرها الغيري.

و اندفع الاشكال الثاني- أيضا- و هو كون الامر الغيري توصليا لا عباديا بل حيث لا اطاعة له و لا قرب فيه ليس فيه قابلية المقربية. فكيف تقع هذه الطهارات

ص: 155

.....

______________________________

عبادة و مقربة مع انها مقدمات و وجوبها غيري؟ و قد عرفت اندفاعه- أيضا- بما ذكرنا: من ان مقربيتها و عباديتها لا لاقتضاء امرها الغيري لذلك بل لتوقف تحقق ذاتها على اتيانها بقصد القربة، و الى هذا أشار بقوله: «و غايتها»: أي الواجبات النفسية «انما تكون متوقفة على احدى هذه العبادات»: أي متوقفة على وجودها و وجودها و تحققها يتوقف على عباديتها، فالواجبات النفسية تتوقف على عباديتها و اتيانها بقصد القربة لا لأن اوامرها الغيرية المترشحة من الواجبات النفسية تقتضي ذلك بل الذي اقتضى ذلك هو كون ذات هذه الطهارات لا تتحقق إلّا إذا اتي بها بقصد القربة، لا لدعوة من الامر الغيري للعبادية بل الامر الغيري يدعو الى تحقق ما هو مقدمة، و كون هذه الطهارات مقدمة و لها الاثر في الواجب النفسي يتوقف على وجودها و تحققها المتوقف على ايجادها بقصد القربة و لذا قال: «فلا بد ان يؤتى بها عبادة» إلى آخر كلامه، و هو واضح بعد ما ذكرنا.

(1) هذا دفع دخل يمكن ان يورد في المقام.

لا يخفى: ان كلامه لا يخلو عن إجمال، و يمكن ان يفسر بنحوين:

الاول، و حاصله: انه لا اشكال في ان الحكم الاستحبابي و الحكم الوجوبي من المثلين اللذين لا يعقل ان يجتمعا في شي ء واحد في زمان واحد: بان يكون مستحبا و واجبا فحكم هذه الطهارات الاستحبابي بعد عروض الوجوب الغيري يضمحل بحده و يندك في هذا الوجوب الغيري، لعدم معقولية بقائه بحده فاذا اضمحل الامر الاستحبابي فلم يبق الا الامر الغيري، و قد عرفت انه ليس له قابلية القربية فكيف يمكن ان تقع هذه الطهارات عبادية و لا أمر فيها يمكن ان يقصد امتثاله لاضمحلال امرها النفسي، و الامر الغيري غير قابل للعبادية.

و حاصل الجواب: انه بعد ما عرفت: من ان الامر الغيري انما يدعو إلى ما هو المقدمة، و مقدمية هذه الطهارات تتوقف على اتيانها بقصد القربة، و حيث ان امرها الاستحبابي قد اضمحل بواسطة عروض الوجوب الغيري فلا بد ان يقصد بها امتثال

ص: 156

.....

______________________________

امرها الغيري، إلّا أنّك قد عرفت ان هذا لا يدفع الاشكال، لأن الامر الغيري غير قابل للمقربية فلا بد اما ان يقال: ان هذه الأوامر الغيرية في الطهارات حيث انها خرجت من حد الضعف إلى حد القوة، فإن الامر النفسي الاستحبابي الذي كان فيها بواسطة عروض الوجوب عليه قد خرج من حد الضعف الاستحبابي إلى حد القوة الوجوبية فإنها كانت قبل عروض مقدميتها راجحة و ليست لازمة، و بعد ان صارت مقدمة لازمة فالرجحان الذي كان فيها موجود في ضمن الامر الغيري الوجوبي، لكن لا بحده من الضعف بل بحد آخر قوي، فهذا الامر الغيري فيها بالخصوص له قابلية الدعوة الى المقربية.

أو نقول: حيث ان الامر الغيري يدعو إلى ما هو المقدمة، و مقدمية الطهارات تتوقف على اتيانها عبادة و العبادية لا تنحصر في قصد الامر فلا بد من اتيانها بما هي عليه من رجحانها الذاتي و محبوبيتها الذاتية، لأن امرها النفسي الاستحبابي لا وجود له و امرها الغيري ليس فيه قابلية المقربية فيقصد رجحانها الذاتي و محبوبيتها الذاتية و هذا كاف في قربيتها، و لعله أشار الى ما ذكرنا بقوله: فافهم.

الاحتمال الثاني: هو ان الدخل الذي يشير إلى دفعه بقوله و الاكتفاء بقصد امرها الغيري- هو ان الامر الغيري لا يقتضي المقربية و قد قام الاجماع على لزوم اتيان هذه الطهارات بقصد القربة، و ذهب المشهور إلى الاكتفاء في قربيتها بقصد امرها الغيري، فانهم قالوا بامكان اتيانها بقصد غاياتها، و معنى اتيانها بقصد غاياتها هو قصد اتيانها ممتثلا بها الامر المترشح لها من غاياتها، و هذا كاف في قربيتها عندهم، و هو مناف لما تقدم: من ان الامر الغيري لا يقتضي المقربية، فأشار إلى دفعه بقوله: «فانما هو» و حاصله انه انما اكتفى المشهور بقصد امرها الغيري في قربيتها لا لأن الامر الغيري له اقتضاء القربية، بل لأن قصد امتثال الامر الغيري يلازمه قصد عباديتها، لأن الامر الغيري يدعو إلى ما هو المقدمة، و دعوته إلى ما هو المقدمة دعوة إلى اتيانها بما هي: من كونها عبادة، لأن الامر الغيري لا يدعو إلّا إلى

ص: 157

و قد تفصي عن الاشكال بوجهين آخرين:

______________________________

ما هو مقدمة و له الاثر المتوقف عليه ذو المقدمة، فيلازم قصد امرها الغيري قصد ما هو عبادة بذاته و حقيقته، فليست هذه العبادة ناشئة من نفس قصد امرها الغيري بل حيث ان الامر الغيري يدعو إلى اتيانها بذاتها و قصدها معناه انه قصد عباديتها فالاكتفاء بقصد الامر الغيري لانه يلازمه قصد ما هو عبادة، لأن المقصود الذي هو المقدمة هو عبادة، فلذا اكتفى المشهور بقصد أمرها الغيري في عباديتها، و هذا مراده من قوله: «لأجل انه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه»: أي ان الاكتفاء بقصد الامر الغيري في عباديتها لأجل انه يدعو إلى ذاتها و ما هو كذلك: أي و ما هو عبادة في نفسه «حيث انه» الامر الغيري «لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة» و لعل قوله «فافهم» يشير إلى ان قصد الامر لا ينبغي الاكتفاء به، فانه و ان كان يدعو إلى ما هو عبادة في نفسه الذي بعباديته يكون مقدمة إلّا انه حيث ان هذه الطهارات ليست عبادة بذاتها و الامر الغيري ليس فيه اقتضاء العبادة و لا امر فيها آخر غير الامر الغيري حتى تكون قصده موجبا لعباديتها.

نعم، لو كانت عبادة بذاتها أو امكن ان يجتمع مع الامر الغيري الامر النفسي المتعلق بها لصح الاكتفاء بقصد امرها الغيري لما يلازمه من قصد عباديتها، فلا بد ان نلتجئ إلى انه بقصد اتيانها بداعي امرها الغيري يتضمن رجحانها الذي في ضمنه فلذا يكتفى به.

فمحصل الجواب عن الاشكالين في الطهارات الثلاث: ان مقربيتها و ثوابها و عباديتها انما هو لأنها بنفسها مستحبات نفسية و بما هي مستحبات نفسية و راجحة محبوبة وقعت مقدمة و مطلوبة بالامر الغيري، فلا دخالة للامر الغيري لا في الثواب عليها و لا في عباديتها بل ثوابها و عباديتها لاستحبابها النفسي، و قد تفصى في التقريرات عن الاشكالين بوجهين غير ما ذكره المصنف: من كونها بنفسها مستحبات قد أشار اليها في المتن.

ص: 158

أحدهما ما ملخصه: إن الحركات الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها، من العنوان الذي يكون بهذا العنوان مقدمة و موقوفا عليها، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها، لكونه لا يدعو إلا إلى ما هو الموقوف عليه، فيكون عنوانا إجماليا و مرآة لها، فإتيان الطهارات عبادة و إطاعة لامرها ليس لاجل أن أمرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك، بل إنما كان لاجل إحراز نفس العنوان، الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها (1).

______________________________

(1) هذا اول الوجهين، و توضيحه: ان هذه الطهارات ليست مقدمة بما تشتمل عليه من الحركات الخاصة من غسل الوجه و اليدين، أو غسل الجسد كله أو ضرب الارض و المسح، بل هي مقدمة بما لها من العنوان المنطبق عليها، فلا تقع مقدمة الا بقصدها بعنوانها. و عناوين الافعال تارة تكون قهرية كقصد التنظيف- مثلا- لغسل الوجه فانه لا يحتاج إلى ازيد من قصد غسل الوجه، و اخرى لا يكون العنوان قهريا بل قصديا لا يتحقق إلّا بقصده، و عنوان هذه الطهارات الذي به تكون مقدمة قصدي لا قهري قضاء لحق مقدميتها فإنها به تكون مقدمة.

و لا يخفى عليك- أيضا- ان العنوان القصدي لا يلزم ان يقصد بالتفصيل بل يكفي في تحققه قصده بالاجمال، فاذا اتى بهذه الافعال بقصد امرها الغيري يتحقق قصد عنوان هذه الطهارات الذي به تكون مقدمة بنحو الاجمال و الارشاد، لأن الامر الغيري انما يدعو إلى ما هو مقدمة، فقصده قصدها بما هي مقدمة و قصدها بما هي مقدمة قصد اجمالي لعنوانها المنطبق عليها الذي به تكون عبادة و تقع مقدمة للصلاة مثلا، و ان قصد هذا العنوان الاجمالي الذي لها لا يكون إلّا باتيانها بقصد امرها الغيري المقدمي، فقصد امرها يوجب ان تقع عبادة لا لأن الامر الغيري يقتضي العبادية، بل لأن الامر الغيري يقتضي قصدها بالوضع الذي به تكون مقدمة، و هذا لا يكون إلّا بقصد ما لها من العنوان اجمالا و هذا- أيضا- لا يكون إلّا

ص: 159

و فيه: مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الاتيان بها كذلك، لامكان الاشارة إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر، و لو بقصد أمرها وصفا لا غاية و داعيا، بل كان الداعي إلى هذه الحركات

______________________________

بقصد اتيانها بامرها الغيري، و قد أشار إلى جميع ما ذكرنا في عبارة المتن فانه أشار إلى انها بعنوانها مقدمة لا بما هي حركات خاصة بقوله: «من العنوان الذي يكون بذاك العنوان مقدمة» و أشار إلى ان قصدها بما لها من العنوان لازم في مقدميتها بقوله: «فلا بد في اتيانها بذاك العنوان» و الى ان ذلك العنوان الذي لا بد منه يحصل من اتيانها بقصد امرها بقوله: «من قصد امرها» و الى ان قصد العنوان بنحو الاجمال و المرآتية كاف في مقام تحققه بقوله: «لكونه لا يدعو إلّا إلى ما هو الموقوف عليه فيكون عنوانا اجماليا و مرآة لها» و الى ان عباديتها المتحققة باتيانها بقصد امرها الغيري لا لأجل ان الامر الغيري يقتضي ذلك بل لأجل كونه وصلة لأن تقع مقدمة بما هي عليه من عنوانها بقوله: «فاتيان الطهارات عبادة و اطاعة لامرها ليس لأجل ان امرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك»: أي باتيانها عبادية «بل انما كان لأجل» ان قصد اتيانها بامرها الغيري به يحصل «احراز نفس العنوان الذي يكون» بما هي اتيانها «بذاك العنوان موقوفا عليها» و مقدمة.

فمحصل هذا الجواب الاول: ان قصد اتيانها بامرها الغيري لا لاقتضاء الامر الغيري لقصد امتثاله لما عرفت انه توصلي لا عبادي، بل لأن به يحصل الإشارة إلى عنوانها الذي به تكون مقدمة. و يظهر انه من الامور المسلمة عند التقريرات- بحسب ما دلت عليه عبارة المتن- ان قصد امتثال الامر الغيري موجبا لوقوعها عبادة إلّا انه لا اقتضاء في الامر الغيري لذلك لانه توصلي لا عبادي، و انما اضطرنا اليه في المقام لانه به يحصل القصد الاجمالي إلى العنوان الذي به تكون هذه الطهارات مقدمة و موقوفا عليها.

ص: 160

الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها، غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) ان ما اورده على هذا الوجه الاول من التقريرات امران:

الأول: ما أشار اليه بقوله: مضافا، و حاصله: انه إذا كان الغرض من قصد اتيانها بامرها الإشارة إلى العنوان المنطبق عليها لا ينحصر ذلك الغرض باتيانها بقصد امرها، بل يمكن ان يشار إلى عنوانها من دون اتيانها بقصد امرها: بان يؤتى بها موصوفة بانها لها امر غيري لا بجعل الامر الغيري داعيا و غاية إلى اتيانها و يكون الداعي إلى اتيانها غير قصد الامتثال، كما لو اتى بغسل الوجه و اليدين لأجل التبريد: بان قصد ان يبرد نفسه بغسل وجهه و يديه الموصوف هذا الغسل بكونه قد تعلق به امر غيري مقدمي، فانه إذا وصفه بكونه مامورا به فقد أشار إلى العنوان المنطبق على هذا الغسل للوجه و اليدين، فيحصل قصد العنوان الذي تكون هذه الطهارات به مقدمة من دون قصد عباديتها بقصد امتثال امرها، و الى هذا أشار بقوله: «و لو بقصد امرها وصفا» لهذه الطهارات «لا غاية و داعيا» الذي معناه اتيانها بقصد امرها «بل كان الداعي إلى هذه الحركات» الغسلية «الموصوفة بكونها مامورا بها شيئا آخر غير امرها» و لا يخفى ان شيئا آخر هو خبر لكان: أي كان الداعي إلى هذه الحركات شيئا آخر غير قصد الاتيان بها بامرها الغيري بل كان الداعي هو التبريد. و من الواضح ان في اتيانها موصوفة بكونها مامورا بها و لكن بداعي التبريد تحصل الإشارة الاجمالية المرآتية الى العنوان المنطبق عليها و لكن لا تقع عبادية.

و الثاني: ما أشار اليه بقوله: «انه غير واف» إلى آخره، و حاصله: قد عرفت ان قصد امتثال الامر الغيري لا يوجب القرب و الثواب، فلو فرضنا امكن ان تكون عبادة بقصد امرها فيدفع به اشكال العبادية إلّا انه لا يدفع بما ذكره من اتيانها بقصد امرها اشكال ترتب المثوبة و القربية عليها.

ص: 161

ثانيهما: ما محصله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة، إنما يكون لاجل أن الغرض من الامر النفسي بغاياتها، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك، لا باقتضاء أمرها الغيري. و بالجملة وجه لزوم إتيانها عبادة، إنما هو لاجل أن الغرض في الغايات، لا يحصل إلا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا، بقصد الاطاعة (1).

______________________________

و الحاصل: انه قد مر ان في الطهارات اشكالين:

احدهما: كون الامر المقدمي الغيري توصلي لا تعبدي و الطهارات امرها عبادي لا توصلي.

ثانيها: ان الامر الغيري لا يقتضي استحقاق الثواب مع ان الطهارات التي يؤتى بها مقدمة يترتب عليها الثواب كما تظافرت بذلك الاخبار، فلو فرضنا أنه امكن ان يكون امرها الغيري عباديا فيندفع اشكال التوصلية بما ذكره في التقريرات و لكن اشكال ترتب الثواب عليها لم يندفع بما ذكره: من اتيانها بقصد امرها الغيري للإشارة الاجمالية إلى عنوانها، و هذا مراده بقوله: «انه غير واف بدفع اشكال ترتب المثوبة عليها كما لا يخفى».

(1) و توضيحه: انه قد مر عليك في اخذ قصد الامر في متعلق الامر: من انه من المحال، و لكن حيث علمنا انه لا يتم الغرض في الاوامر النفسية العبادية إلّا باتيانها بقصد امتثال امرها يحكم العقل بلزوم اتيانها بقصد الامر، و مثله نقول- هنا- في خصوص الطهارات الثلاث: و هو انه علمنا ان الغرض في الواجب النفسي العبادي كما انه لا يحصل إلّا بإتيان الواجب النفسي بقصد امره، كذلك علمنا ان الغرض المتوقف حصوله على احد هذه الطهارات لا يحصل إلّا بإتيانها- أيضا- كالواجب النفسي بقصد امرها، فاتيان هذه المقدمات من بين ساير مقدمات الواجب بلزوم اتيانها بقصد امرها انما هو لدعوة من الغرض في الواجب النفسي الذي لا بد من

ص: 162

و فيه أيضا إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها (1)، و أما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات، من الالتزام بأمرين:

______________________________

حصوله، فتوقف حصول الغرض في الواجب النفسي كما يلزمنا العقل لأجله بقصد القربة في الواجب النفسي كذلك يلزمنا بقصد القربة في خصوص هذه الطهارات من بين ساير المقدمات بلزوم إتيانها عبادية بقصد امرها.

فاتضح: ان عباديتها ليس من ناحية الامر الغيري المتعلق بها، بل من ناحية الغرض الذي يلزم تحصيله في الواجب النفسي.

قوله: «الأمر النفسي بغاياتها»: أي الامر النفسي المتعلق بغاياتها كالامر المتعلق بالصلاة التي هي الغاية للوضوء المأتي به لاستباحة الصلاة و مقدمة لها.

قوله: «بموافقته»: أي كما لا يكاد يحصل الغرض المترتب على نفس الغاية التي هي الصلاة إلّا باتيان الصلاة نفسها بقصد موافقة امرها كذلك لا يحصل هذا الغرض من هذه الطهارات إلّا باتيانها- أيضا- بقصد موافقة امرها الغيري، فالداعي لاتيانها بقصد امرها الغرض الذي دعا إلى ايجاب الامر النفسي لا نفس الامر الغيري، و كون الغرض في المقام بالنسبة إلى هذه الطهارات كذلك قد عرفناه من الخارج.

(1) اورد عليه المصنف بايراده الثاني الذي اورده على الوجه الاول، لانه لم يكن اتيان هذه الطهارات بقصد امرها لأجل المرآتية كما في الوجه الاول حتى يرد عليها الايراد الاول الذي اورده على الوجه الاول.

و حاصله: انه إذا امكن ان نعلم من الخارج بان الغرض في الواجب النفسي المتوقف على هذه الطهارات لا يحصل إلّا بقصد اتيانها بداعي امرها و عبادية، فإن اشكال المثوبة و ان الاوامر الغيرية لا تستحق قربا و لا ثوابا بعد باق بحاله لا يدفعه اتيانها بقصد امتثال امرها فانه يصلح كون امرها عباديا، و اما إشكال أنه لا يوجب

ص: 163

أحدهما: كان متعلقا بذات العمل.

و الثاني: بإتيانه بداعي امتثال الاول، لا يكاد يجزئ في تصحيح اعتبارها في الطهارات، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها، لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل الامر بالغايات، فمن أين يجي ء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها، ليتمكن به من المقدمة في الخارج.

هذا مع أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلا سابقا، فتذكر (1).

______________________________

قربا و لا مثوبة فانه باق على حاله و الى هذا أشار بقوله: «و فيه أيضا انه غير واف بدفع اشكال ترتب المثوبة عليها».

(1) و توضيح هذا التصحيح انه قد مر في اخذ قصد القربة في متعلق الامر النفسي انه بعد ان امتنع اخذ قصد القربة في متعلق الامر بامر واحد، بان يقول: صل بقصد امتثال الامر لما يرد عليه من المحاذير و قد قام الدليل من الاجماع أو غيره انه لا بد من اتيان الصلاة بقصد القربة فنلتزم بامرين: احدهما يتعلق بذات الصلاة، و الثاني في اتيانها بقصد امرها تصحيحا لاخذ قصد القربة في متعلق الامر اخذا شرعيا، فنلتزم بمثله في المقام بعد قيام الاجماع على لزوم اتيان هذه الطهارات الواقعة مقدمة- للصلاة أو لغيرها كالطواف أو مس كتابة المصحف الكريم- ان تكون عبادة و قربية من دون ساير مقدمات الواجب، و قد قام الدليل- أيضا- على ان الامر الغيري الترشحي توصلي لا عبادي فنلتزم في خصوص الطهارات بامرين: امر يتعلق بذاتها، و امر يتعلق باتيانها بقصد القربة فيرتفع الاشكالان معا، فإن الامر الغيري المتعلق بذاتها توصلي لا عبادي و عباديتها قد اتت من الامر الثاني، و يرتفع اشكال المثوبة- أيضا- فإن الامر المقدمي التوصلي بذاته لا يقتضي مثوبة، و اما انه إذا قام الدليل بان هذا الامر الغيري المتعلق بهذه الطهارات إذا أتى بقصد امتثاله يستحق المكلف عليه المثوبة فلا مانع من ذلك هذا، و ان كان المهم في نظر هذا التصحيح هو

ص: 164

.....

______________________________

تصحيح عبادية الطهارات فقط كما هو ظاهر المتن حيث قال: و اما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات من الالتزام بامرين احدهما كان متعلقا بذات العمل و الثاني باتيانه بداعي امتثال الاول، لا يكاد يجدي في تصحيح اعتبارها في الطهارات.

ثم لا يخفى: ان الفرق بين هذا التصحيح لعبادية الطهارات و بين تصحيح التقريرات في وجهه الثاني، هو ان اتيان هذه الطهارات بقصد امتثال امرها الغيري انما هو من ناحية الغرض فالعقل يلزم باتيانها بقصد الامتثال، و في هذا التصحيح الاتيان بقصد امرها شرعي وقع في خطاب ثان يتعلق بالاول و ان هذا لا يرد عليه اشكال المثوبة، و لذا لم يورده المصنف عليه.

و على كل فقد اورد المصنف على هذا التصحيح بايرادين:

الأول: ما أشار اليه بقوله: إذ لو لم تكن بنفسها إلى آخره.

و حاصله: ان الالتزام بامرين الذي ذكروه في تصحيح العبادات النفسية لا يكاد يجزئ في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في الطهارات التي اوامرها غيرية، لأن الاوامر الغيرية ترشحية من الواجب النفسي الذي يتوقف على هذه المقدمات لأجل توقفه عليها، لأن من اراد شيئا اراد ما يتوقف عليه ذلك الشي ء، فإن كان في ذات هذه الطهارات من دون قصد اطاعتها ملاك للوجوب الغيري يترشح اليها الامر و لكن لا تحتاج إلى قصد الاطاعة و هو خلاف الفرض، لأن المفروض انها مقدمة لا بذاتها بل باتيانها بقصد الاطاعة فذات هذه الطهارات ليس فيها ملاك الوجوب الغيري، إذ لا توقف للواجب النفسي على ذات هذه الطهارات من دون قصد القربة، و اذا لم يكن في ذاتها ملاك الوجوب النفسي فكيف يترشح عليها الامر الاول المتعلق بذاتها كما زعمه هذا المصحح لتتميم اتيانها بقصد القربة، و اذا لم يترشح لها امر يتعلق بذاتها فلا مجال لان ياتي الامر الثاني المتعلق بالامر الاول، لأن وجود الامر الاول المتعلق بذات هذه الطهارات ماخوذ في موضوع الامر الثاني، لانه يقول: ائت بها

ص: 165

الثاني: إنه قد انقدح مما هو التحقيق، في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات صحتها و لو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها (1)، نعم لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها امرها الغيري،

______________________________

بقصد امرها فلا بد ان يكون هناك امر غيري متعلق بذاتها، و قد عرفت انه لا وجه له لأن الامر لا يترشح إلّا الى ما فيه ملاك المقدمية، و ذات هذه الطهارات ليس فيها ملاك المقدمية فلا يترشح لذاتها امر غيري، و هذا مراده بقوله: «إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها لا يكاد يتعلق بها امر من قبل الامر بالغايات» اذ الامر المترشح من قبل غاياتها و هي الواجبات النفسية لا يترشح إلّا إلى ما فيه ملاك المقدمية، و اذا لم يكن في ذواتها ملاك المقدمية لا يترشح لها امر، و اذا لم يترشح امر يتعلق بذاتها «فمن اين يجي ء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها» و قوله من سنخ الطلب الغيري لأن هذا الطلب الذي يتعلق بذاتها لا بد و ان يكون غيريا- أيضا- ليكون موضوعا للامر الثاني حتى يتمكن المكلف بواسطة الامر الاول المحقق للموضوع بالنسبة الى الامر الثاني من اتيانها بما هي مقدمة عبادية في الخارج، و لذا قال (قدس سره): «ليتمكن به من المقدمة في الخارج».

الايراد الثاني: ما أشار اليه بقوله: «هذا مع ان في هذا الالتزام» إلى آخره.

و حاصله: ان تصحيح قصد القربة بامرين في نفس الواجب النفسي المعتبر فيه قصد القربة غير صحيح كما مر مفصل ذلك في مبحث التعبدي و التوصلي، و لذا قال: «مع ان في هذا الالتزام» و هو الالتزام بامرين «ما في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادة»: أي يرد على الالتزام بامرين هنا ما يرد عليه هناك و لذا عقبه بقوله: فتذكر.

(1) هذا هو التذنيب الثاني، و حاصله: انه بعد ان كانت هذه الطهارات لا تكون مقدمة و مما لها دخل توقف ذي المقدمة عليها إلّا إذا اتى بها قربية و عبادية، فهي بما هي عبادة مقدمة للواجب النفسي فهل يتوقف اتيانها كذلك على قصد غاياتها

ص: 166

لكان قصد الغاية مما لا بد منه في وقوعها صحيحة، فان الامر الغيري لا يكاد يمتثل إلا إذا قصد التوصل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا القصد (1)، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة،

______________________________

و التوصل بها إلى غايتها ام لا يتوقف على ذلك؟ و قد أشار المصنف إلى: انه قد انقدح مما مر انه لا يشترط في وقوعها عبادة و قربية على ذلك بما عرفت من مختاره في دفع الاشكالين المتقدمين: و هو ان هذه الطهارات بنفسها مستحبات نفسية و راجحات عبادية و هي بما هي كذلك مقدمة للواجب النفسي، فحينئذ لا يشترط في وقوعها قربية قصد الغايات: أي قصد كونها مقدمة لغاية من الغايات المتوقفة عليها، و لذا أن من المعروف انه يجوز اتيان الوضوء بقصد الكون على الطهارة و لا يلزم قصد استباحة الصلاة أو مس المصحف الكريم أو غير ذلك من الغايات المتوقفة على الوضوء أو غيره، و لذا قال (قدس سره): «قد انقدح مما هو التحقيق» و هو ما اشرنا اليه: من كونها بنفسها مستحبات نفسية و راجحات عبادية و بما هي كذلك مقدمة.

فيتضح من هذا التحقيق «وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات» و هو قصد رجحانها النفسي و امرها الذاتي المتعلق بها و هو امر عبادي، فلا تتوقف صحتها بمعنى وقوعها عبادية على قصد التوصل بها إلى غاياتها، بل تتأتى صحتها و لو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها.

(1) حاصله: انه على ما سلكناه: من كونها بنفسها مستحبات نفسية و راجحات عبادية قد اخذ في نفسها قصد القربة مع الغض عن امرها الغيري لسنا بحاجة إلى تصحيح عباديتها من ناحية امرها الغيري، بخلاف مسلك التقريرات و غيره ممن يظهر منهم حصر طريق عباديتها بقصد امرها الغيري، فعلى مسلكهم هذا لا يعقل صدورها عبادة إلّا إذا قصد بها امتثال امرها الغيري، و حيث ان الامر الغيري هو المترشح من الواجب النفسي و هو الغاية للامر الغيري، فمعنى قصد الامر الغيري هو

ص: 167

و لو لم يقصد أمرها، بل و لو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا. و هذا هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة، لا ما توهم من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية، فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان، و قصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها، فإنه فاسد جدا، ضرورة أن عنوان

______________________________

قصد امتثال هذا الامر المترشح من غايته، و معنى هذا هو قصد التوصل بهذه المقدمة إلى غايتها.

و بعبارة اخرى: ان اتيان هذه المقدمة بما هي مقدمة لا بد فيه من قصد التوصل بهذه المقدمة إلى غايتها و ذيها، فما لم يقصد بهذه المقدمة التوصل بها إلى الغاية لا يتأتى قصد امتثال امرها الغيري المتوقف على قصده وقوعها عبادة المتوقف عليه صحتها، فإنها ما لم تقع عبادة لا تقع صحيحة و مقدمة لغايتها لأن المفروض انها حيث تقع عبادية تكون مقدمة لغايتها، فوقوعها صحيحة يتوقف على عباديتها المتوقفة على قصدها الغيري الذي معنى قصد امتثال امرها الغيري هو قصد التوصل بها إلى غاياتها، و لذا نرى بعضهم يحتاط في الوضوء فلا ياتي به مقدمة للصلاة الّا بعد حضور وقت الصلاة و ان يقصد به الاستباحة للصلاة، و هو معنى قصد الامر الغيري و التوصل بها إلى غايتها، و هذا ما أشار اليه بقوله: «لكان قصد الغاية مما لا بد منه في وقوعها صحيحة» لانحصار قربيتها المنوطة بها صحتها بقصده الذي معناه قصد الغاية، و أشار إلى التعليل الذي ذكرناه بقوله: «فإن الامر الغيري لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصل إلى الغير حيث لا يكاد يصير» الامر الغيري «داعيا الا مع هذا القصد» لما عرفت: من ان معنى قصد امتثال الامر الغيري و كونه داعيا إلى الاتيان بالمقدمة هو التوصل بها إلى الغاية، فاذا كان هذا هو معنى قصد امتثال الامر الغيري فما لم يقصد التوصل بها لا يعقل ان يكون المحرك و الداعي هو قصد امتثال الامر الغيري.

ص: 168

المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب، و لا بالحمل الشائع مقدمة له، و إنما كانت المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الاولية، و المقدمية إنما تكون علة لوجوبها (1).

______________________________

(1) قد ظهر مما ذكرنا ان اتيانها بقصد التوصل بها هو الذي يتقوم به قصد القربة فيها و عباديتها، لأن قصد امتثال امرها الغيري لا يتأتى إلّا بقصد التوصل بها إلى غاياتها، و أيضا هو معنى اتيانها بعنوان كونها مقدمة، فإن قصد عنوان كونها مقدمة هو قصد اتيانها بما هي يتوصل بها إلى ما يتوقف عليها و هل عنوان مقدميتها الا ذلك؟

فتحصل من هذا: ان قصد التوصل بها و اتيانها بهذا القصد و هو قصد غاياتها المتوقفة عليها به تحصل القربة و به تقع عبادة، و هو السبب في وقوع قصد الامر الغيري قربيا فهو الملاك في الحقيقة لوقوع هذه المقدمة عبادة و قد اشار إلى هذا بقوله:

«بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة و لو لم يقصد امرها» فان قصد التوصل بها يحصل من دون قصد الامر و ان قصد امتثال الامر الغيري انما يكون قربيّا لاجل قصد التوصل بها، فقصد التوصل بها وحده يكفي و هو الملاك في وقوعها عبادة و قربيّة، و لازم هذا و هو كون الملاك في وقوعها قربيّة قصد التوصل بها امران:

الأول: ان من لا يقول بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة و وجوب المقدمة وجوبا غيريا ترشحيا شرعيا، بل يقول: بان الامر باتيانها عقلي ارشادي و ليس لها وجوب غيري شرعي مع توقف هذه المقدمة- أي الطهارات- على قصد القربة في وقوعها مقدمة صحيحة يحصل بها صحة الواجب النفسي المتوقف عليها، فاذا كان يقول باستحبابها و رجحانها بنفسها فيقصد امرها المتعلق بنفسها و لا ينحصر عباديتها بقصد امرها الغيري، و اذا كان ممن لا يقول برجحانها و استحبابها في نفسها فينحصر قصد العبادية فيه و وقوعها قربية على قصد التوصل بها إلى غاياتها، لما عرفت: من انه بقصد التوصل بها تقع عبادة و انه هو الملاك في الحقيقة في وقوعها عبادة، فحينئذ

ص: 169

.....

______________________________

لا يتوقف اتيانها قربية على قصد امتثال الامر الغيري، بل قصد التوصل بها أولى في وقوعها قربية من قصد امتثال الامر الغيري، لما عرفت: من انه هو الملاك في وقوع قصد امتثال الامر الغيري مقربا، و الى هذا أشار بقوله: «بل و لو لم نقل بتعلق الطلب بها اصلا».

الامر الثاني: الايراد على التقريرات، و حاصل ما ذكر في التقريرات ان السرّ في كون المصحح لاعتبار قصد القربة فيها هو قصد التوصل بها إلى غاياتها هو ان الامر الغيري قد تعلق بعنوان المقدمية، لما سيأتي من التقريرات من ان المقدمة الواجبة التي يترشح اليها الامر الغيري هي المقدمة المقيّدة بقصد التوصل، فالامر الغيري متعلق بعنوان المقدمية لا بما هو بالحمل الشائع مقدمة.

و لا يخفى ان كل عنوان اخذ متعلقا للامر لا يحصل الامتثال له الا بقصده، إذ لم يتعلق الامر بذات المعنون بل قد تعلق بعنوان المعنون، و لا بد في اتيان ما تعلق به الامر في حصول الامتثال للامر، فإن من الامور التي قياساتها معها ان امتثال الامر لا يحصل إلّا باتيان ما تعلق به الامر، فاذا كان متعلق الامر هو عنوان المقدمية فلا يحصل الامتثال للمقدمة التي هي متعلق الامر الغيري الّا بقصد عنوان المقدمية. و قد ظهر مما ذكرنا سابقا ان عنوان المقدمية لا يحصل إلّا باتيانها مقصودا بها التوصل إلى غاياتها.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: ان قصد القربة انما يحصل في المقدمة حيث يقصد بها امتثال الامر المتعلق بها و حصول قصد القربة في هذه الطهارات لازم فيتوقف على اتيان ما تعلق به الامر الغيري، و الذي تعلق به الامر الغيري هو عنوان المقدميّة و عنوان المقدمية لا يحصل إلّا بقصد التوصل بها إلى غاياتها.

فالسر في كون قصد التوصل بها موجبا لعباديتها هو هذا، و هو توقف عنوان المقدمية التي هي المتعلق للامر الغيري عليه، و ليس السر في كون قصد التوصل بها

ص: 170

.....

______________________________

موجبا لعباديتها ما ذكره المصنف: من انه بنفسه موجبا للعبادية و القربية أو انه هو الملاك في وقوع الامر الغيري قربيا.

فالفرق بين مسلك المصنف و مسلك التقريرات: ان قصد التوصل بها إلى غاياتها هو بنفسه قصد عبادي عند المصنف، و عند التقريرات انه طريق لحصول متعلق الامر و هو عنوان المقدمية، و قد أشار المصنف إلى المقدمات الثلاث التي بنى عليها في التقريرات السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع هذه الطهارات عبادة، فأشار إلى ان المتعلق هو عنوان المقدمية لا ذاتها بقوله: «من ان المقدمة انما تكون مامورا بها بعنوان المقدمية» و أشار إلى انه لا بد في مقام الامتثال من قصد عنوان المقدمية بقوله: «فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان» و أشار إلى ان قصد عنوان المقدمية لا يحصل إلّا بقصد التوصل بها بقوله: «و قصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها» و قد عرفت ان السر في كون قصد التوصل موجبا لعباديتها هو ما ذكرنا، لا انه من حيث توقف عنوان المقدمية عليه، مضافا إلى فساد هذا المبنى الذي به يتم ما ذكره، لوضوح ان اهم مقدمات هذا المبنى هو كون الامر متعلقا بعنوان المقدمية، و قد مر عليك و يأتي ان الامر انما يتعلق بما هو بالحمل الشائع مقدمة لا بعنوان المقدمية، لوضوح ان الامر الغيري يترشح من الواجبات النفسية لما يتوقف عليه الواجب النفسي، و الواجب النفسي انما يتوقف على ذات ما هو مقدمة و هو المعبر عنه بما هو بالحمل الشائع مقدمة، لما مر عليك سابقا ان الحمل الشائع عند المصنف هو حمل الكلي الطبيعي على فرده الخارجي دون مطلق افراده، فإن الواجب النفسي موجود خارجي يتوقف وجوده على موجود خارجي و عنوان المقدمية مفهوم خطوري لا خارجي، و لا يعقل ترشح الامر الا إلى ما يتوقف عليه الواجب، فعنوان المقدمية لا يعقل ان يترشح اليها امر لأن المتحمل للغرض هو ذات المعنون فلا يترشح الامر الا اليه، فانه لا يحصل بالعلة الا معلولها لا غيره، و إلّا لجاز ان يصدر كل شي ء من كل شي ء، فعنوان المقدمية

ص: 171

تبعية المقدمة لذيها في الاطلاق و الاشتراط

الامر الرابع: لا شبهة في أن وجوب المقدمة بناء على الملازمة، يتبع في الاطلاق و الاشتراط وجوب ذي المقدمة، كما أشرنا إليه في مطاوي

______________________________

لا توقف عليه فلا وجوب له و لا امر، و الى هذا أشار بقوله: «فانه فاسد جدا»:

أي كون الواجب بالوجوب الغيري هو عنوان المقدمية لا ما هو بالحمل الشائع مقدمة فاسد جدا «ضرورة ان عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب» إذ الغرض من المقدمة انما يقوم بالموجود الخارجي من ما هو مقدمة اما عنوان المقدمية فليس بموقوف عليه الواجب النفسي «و لا بالحمل الشائع مقدمة له»: أي للواجب النفسي لوضوح ان عنوان المقدمية هو مفهوم المقدمية و هو بالحمل الاولي مقدمة، و اما ما هو بالحمل الشائع مقدمة فهو الفرد و خصوص الفرد الخارجي عند المصنف لانه هو منبع الآثار كما تقدم منه هذا الراي مرارا «و انما كانت المقدمة هو نفس المعنونات» فإنها هي التي يقوم بها الغرض الذي يتوقف عليه الواجب النفسي بما له من العنوان المختص به، فإن الوصول إلى الغاية- مثلا- يتوقف على المشي بعنوان كونه مشيا و هو العنوان الاولى للمشي، فان ماهية المشي هي التي هذا الموجود فرد لها اولا و بالذات، و حيث انه يقوم به الغرض المتوقف عليه الوصول إلى الغاية فهو مقدمة بالعنوان الثاني، و اما عنوانه الاولي الذي هو فرد لماهيته فهو عنوان المشي و لذا قال:

إن المقدمة هي المعنونات «بعناوينها الاولية و المقدمية» التي هي العنوان الثاني لها «انما تكون»: أي عنوان المقدمية «علة لوجوبها» بما لها من عناوينها الاولية.

ص: 172

كلماتنا، و لا يكون مشروطا بإرادته (1)، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم رحمه اللّه في بحث الضد، قال: و أيضا فحجة القول بوجوب

______________________________

(1) هذا الامر الرابع معقود لبيان ما هي المقدمة التي يترشح اليها الوجوب على الملازمة، فهل هي المقدمة المقيّدة بحال ارادة المكلف لذيها كما يظهر من صاحب المعالم 12]، أو انها المقدمة التي قصد بها التوصل كما في التقريرات 13] أو المقدمة الموصلة كما في الفصول 14]، أو انها التي يتمكن المكلف بعد الاتيان بها من إتيان الواجب غير المقيدة بارادة ذيها و لا المقصود بها التوصل و لا المتصفة بالايصال.

اما كونها غير مقيدة بارادة ذيها بمعنى ان مقدمة الواجب انما تجب حيث يكون المكلف مريدا لذي المقدمة، فيرجع إلى كون وجوب المقدمة مشروطا بارادة المكلف لذى المقدمة فيكون الوجوب في ذي المقدمة مطلقا و غير مقيد، اذ لا يعقل ان يكون وجوب ذي المقدمة مشروطا بارادة المكلف للواجب: أي لذي المقدمة و الّا لا نقلب الواجب إلى المباح، فإن وجوب الواجب إذا كان مشروطا بارادة المكلف له لازمه انه إذا لم يرده لا يكون واجبا، و هذا معناه ارخاء العنان للمكلف إذا لم يرد ان ياتي بالواجب، فيرجع إلى ان المكلف إذا اراد الواجب فليأت به و اذا لم يرده فلا مانع من عدم اتيانه و هذا هو المباح لبّا، مضافا إلى ان الوجوب بداعي جعل الداعي، فاذا كان المكلف مريدا للشي ء فلا داعي لجعل الداعي له فيكون الوجوب لغوا.

و مما ذكرنا يتضح: ان اشتراط وجوب المقدمة بارادة المكلف لذيها لازمه اشتراط وجوبها نفسها بارادتها أيضا، لوضوح ان ارادة المقدمة انما هو لأن من اراد شيئا اراد ما يتوقف عليه، فلا بد من انه إذا اراد ذي المقدمة يريد المقدمة أيضا فيكون

ص: 173

.....

______________________________

وجوب المقدمة منوطا بارادتها نفسها فيلزمه ما ذكرناه.

مضافا إلى ان وجوب المقدمة من رشحات وجوب ذي المقدمة، و حيث لا يعقل ان يكون وجوب ذيها مقيدا بارادته نفسه فلا يعقل ان يكون وجوبها أيضا مقيدا بارادة ذيها، اذ لا يعقل تخلف المعلول عن علته، فانه حيث كان في حال عدم ارادة المكلف لذيها وجوب ذيها موجودا و كان هو العلة لوجوبها، فلا بد و ان يكون وجوبها في حال عدم ارادة المكلف لذيها موجودا أيضا، اذ لا يعقل تخلف المعلول عن علته، فالمقدمة لا بد و ان تكون تابعة في الاطلاق و الاشتراط لذيها و لذا قال (قدس سره) في صدر المبحث «ان وجوب المقدمة- بناء على الملازمة- يتبع في الاطلاق و الاشتراط وجوب ذي المقدمة» و أشار إلى ما ذكرناه: من وجوب التبعية بالبراهين المتقدمة بقوله في ذيل العبارة: «و انت خبير بان نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى و ان كان نهوضها على اصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة» لامكان ان يقال بعدم الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها بدعوى: ان الامر انما هو لداعي جعل الداعي من الشارع حيث لا يكون داع من العقل يكفي عنه، و حيث لا غرض من المقدمة إلّا ان ذيها متوقف عليها و العقل يحكم بلزوم اتيانها لتوقف الواجب عليها، فلا داعي للوجوب الشرعي مع حكم العقل و ارشاده.

و اما الاستشهاد لوجوب المقدمة بالوجدان بانا نرى وجدانا ان من اراد شيئا اراد مقدمته، فالمسلم من الوجدان هو ارادة المقدمة ممن اراد ذيها فانما هو في المراد المباشري التكويني لا المراد التشريعي، فإن الاحكام التشريعية لا بد و ان تكون بمقدار الحاجة اليها و حيث لا حاجة إلى الامر تشريعا بالمقدمة لحكم العقل بلزوم اتيانها فلا وجوب شرعي للمقدمة.

و على كل فإن جماعة من المتقدمين و المتأخرين انكروا الملازمة بين وجوب المقدمة شرعا و وجوب ذيها، لكنه بعد القول بالملازمة لا بد من تبعية وجوب

ص: 174

المقدمة على تقدير تسليمها إنما تنهض دليلا على الوجوب، في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر و أنت خبير بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى، و إن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة، كما لا يخفى (1).

و هل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة؟ كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة أعلى اللّه مقامه بعض أفاضل مقرري بحثه، أو ترتب ذي المقدمة عليها بحيث لو لم يترتب عليها يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب، كما زعمه صاحب الفصول (قدس سره) أو لا يعتبر في

______________________________

المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق و الاشتراط بحكم تبعية المعلول لعلته، فلا يعقل ان يكون المعلول اخص من علته، فان كون المقدمة مقيدة بارادة المكلف لذيها و كون وجوب ذيها غير مقيد بذلك لازمه كون المعلول اخص من علته، و مرجعه إلى تخلف المعلول عن علته و هو من المحالات المسلمة.

(1) قال في المعالم في آخر مبحث الضد(1) في مقام تحقيق انه يمكن ان يقال بعدم اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن الضد الخاص، و ان قلنا بوجوب ما لا يتم الواجب الا به بعد ان ذكر وجها اولا لما ادعاه قال: و أيضا فحجة القول إلى آخره العبارة التي ذكرت في المتن، و هي نص عبارة المعالم، و الظاهر منها هو كما ذكره الماتن: هو انا نقول بوجوب المقدمة مقيدا بارادة المكلف لذيها، إلّا انه يحتمل بعد ضم هذا الوجه إلى الوجه الاول انه يريد ان يقول بمقالة التقريرات: و هو ان المقدمة الواجبة هي المقصود بها التوصل إلى الواجب و اللّه العالم.

ص: 175


1- معالم الدين: ص 273.
عدم اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة

وقوعها كذلك شي ء منهما الظاهر عدم الاعتبار (1) أما عدم اعتبار قصد التوصل، فلاجل أن الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لاجل المقدمية و التوقف، و عدم دخل قصد التوصل فيه واضح (2) و لذا اعترف بالاجتزاء

______________________________

(1) قد عرفت في صدر المسألة ان اشتراط قصد التوصل في المقدمة: بان الوجوب الغيري انما يترشح للمقدمة التي قصد بها التوصل إلى ذيها هو مقالة التقريرات ناسبا له إلى الشيخ الانصاري- طاب ثراه-، و تخصيص الوجوب الغيري بخصوص المقدمة التي يترتب ذوها عليها و هي المقدمة الموصلة إلى الواجب النفسي هي مقالة صاحب الفصول، و حيث لا يقول باحدهما المصنف (قدس سره) قال: «و هل يعتبر في وقوعها»: أي وقوع المقدمة «على صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بداعي التوصل» إلى آخره أو انه يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب «ترتب ذي المقدمة عليها»: أي على المقدمة «بحيث لو لم يترتب» إلى آخر كلامه، و هو قول صاحب الفصول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة «أو» انه «لا يعتبر في وقوعها» على صفة الوجوب لا قصد التوصل بها و لا ترتب ذيها عليها، بل الواجب المترشح اليه الوجوب الغيري هي المقدمة مطلقا التي يمكن بعد الاتيان بها من اتيان الواجب سواء قصد التوصل بها أو لم يقصد، و سواء ترتب الواجب عليها أو لم يترتب، و حيث كان هذا هو مختاره قال: الظاهر عدم الاعتبار.

(2) لما كان مختاره هو وجوب المقدمة غير المقيدة باتيانها بقصد التوصل بها إلى ذيها و لا المقدمة الموصلة- شرع في ابطال القول باعتبار قصد التوصل، ثم سيأتي التعرض منه لابطال القول بالمقدمة الموصلة، و حيث لم يذكر المصنف حجة في المقام لمذهب التقريرات فلا بأس بالإشارة إلى ما يمكن ان يكون حجة لما ذهب اليه.

فنقول: ان العلة للحكم تارة تكون شرعية و مستفادة من الدليل الشرعي كاستفادة ان التغيير باوصاف النجاسة علة لتنجس الماء، و مثل هذه العلة لا يجب ان يدور الحكم مدارها و لذا قالوا ببقاء نجاسة الماء و ان ذهب التغيير، و قد مر بعض ما له

ص: 176

.....

______________________________

ربط في انواع العلل الشرعية لاحكامها في مبحث المشتق في مقام تمسك القائل بالاعم بآية السارق و السارقة و آية لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ

و اخرى تكون العلة للحكم الشرعي هي العلة العقلية للحكم الارشادي منه كما في المقام، فإن الوجوب الشرعي انما هو لما يحكم العقل بوجوبه لو لا الحكم الشرعي به، و هو كونه مقدمة للواجب يتوقف وجوده عليها، و من المسلمات ان الحيثيات التعليلية للاحكام العقلية حيثيات تقييدية لها، فإن العقل الحاكم بحسن ضرب اليتيم للتأديب يحكم بان الضرب الحسن لليتيم هو المأتي به بقصد التأديب لا مطلق الضرب، فما لم يقصد بالضرب لليتيم عنوان التأديب: بمعنى أن لا يأتي بضرب اليتيم بداعي تأديبه، فما لم يكن الضرب حينئذ معنونا بكونه للتأديب لا يقع الضرب حسنا بل يقع قبيحا محرما، فإن ضرب اليتيم لغير تأديبه ظلم له و عدوان عليه فهو قبيح و محرم و المقام من هذا القبيل فإن العقل انما يحكم بوجوب المقدمة لانها مقدمة للواجب فلا بد من قصد هذا العنوان، فالمقدمية حيثية تعليلية لحكم العقل بوجوب المقدمة، و قد عرفت ان الحيثيات التعليلية حيثيات تقييدية في الاحكام العقلية.

و فيه: ان الحيثيات التعليلية في الاحكام العقلية حيثيات تقييدية لها إلّا انه لا يلزم ان تكون تلك الحيثيات قصدية دائما، بل ربما تكون قصدية و ربما لا تكون، ففي ضرب اليتيم للتأديب لا بد من كونها قصدية لأن ما يحكم العقل بحسنه هو الضرب المأتي به بداعي التأديب لا مطلق ضرب اليتيم، فان ما كان يؤتى به بغير داعي التأديب لا يكون حسنا فلا بد من قصد عنوان التأديب تحقيقا للحيثية التعليلية التقييدية العقلية.

و اما في مقامنا فالحيثية التعليلية لحكم العقل بوجوب المقدمة هو توقف الواجب عليها و هذه الحيثية التعليلية تقييدية أيضا، و لكن المتحصل منها ان الواجب الغيري هو الذي يتوقف الواجب عليه و هذه حيثية غير قصدية، فإن ما يتوقف الواجب عليه هو نفس ما هو مقدمة في الخارج سواء أقصد بإتيانه عنوان المقدمية ام لا، و الى هذا

ص: 177

بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية، لحصول ذات الواجب، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص (1)

______________________________

أشار المصنف بقوله: «و اما عدم اعتبار قصد التوصل فلأجل ان الوجوب لم يكن بحكم العقل الا لأجل المقدمية و التوقف، و عدم دخل قصد التوصل فيه واضح» فالعلة التي هي القيد في المقام للمقدمة الواجبة هي كونها يتوقف عليها الواجب و هذه العلة التي هي القيد موجودة في المقدمة سواء قصد باتيانها التوصل بها أو لم يقصد.

(1) لا يخفى ان الامر المتعلق بشي ء لا يسقط إلّا بالعصيان أو الامتثال، و امتثاله لا يعقل ان يتحقق إلّا باتيان ما تعلق به الامر، فان كان متعلقه امرا قصديا فلا يعقل ان يسقط في مقام امتثاله إلّا باتيانه بعنوانه، إذ القصدية انما تتعلق بعنوانه فان لم يؤت به مقصودا به عنوانه لا يعقل سقوطه، و ان كان متعلقه غير قصدي فيسقط باتيان الفعل المتعلق بالامر و ان لم يكن عنوان الفعل مقصودا، فلو كان المتعلق به الامر الغيري في مقدمة الواجب هو المقصود بها التوصل لا ما هو بالحمل الشائع مقدمة لما امكن ان يسقط الامر الغيري باتيان ذات ما هو مقدمة من دون قصد التوصل بها، فاذا كان الامر بالمقدمة يسقط باتيان ذات ما هو مقدمة كشف ذلك عن ان المتعلق للامر الغيري ليس امرا قصديا بل هو ذات ما هو مقدمة لا المقدمة المقصود بها التوصل إلى ذيها.

و قد اعترف في التقريرات بالاجتزاء و سقوط الامر المتعلق بالمقدمة باتيان ذات ما هو مقدمة و ان لم يقصد به التوصل في غير المقدمات العبادية، لوضوح ان العباديات امور قصدية لا يعقل امتثال اوامرها إلّا باتيانها مقصودا بها امتثال امرها الملازم لقصدها معنونة بعناوينها، و الكلام في غير المقدمات العبادية و انه هل يشترط في امتثالها قصد التوصل بها ام لا؟ و قد عرفت ان سقوط اوامرها باتيانها غير مقصود بها شيئا يكشف عن ان متعلق الامر فيها هو ذات ما هو مقدمة لا عنوان مقدميتها الذي ينحصر امتثاله باتيانها مقصودا بها التوصل إلى ذيها.

ص: 178

فافهم (1).

______________________________

فاعتراف التقريرات بالاجتزاء باتيان ذات ما هو مقدمة من دون قصد مقدميته لازمه الاعتراف ضمنا بان متعلق الامر فيها هو ذات ما هو مقدمة لا هي بعنوان المقدمية، و إلّا لما امكن ان يسقط الامر المتعلق بها.

و قد اخذ المصنف اعتراف التقريرات بالاجتزاء دليلا عليه على ان المتعلق للامر هو ذات ما هو مقدمة دون المقدمة المقصود بها التوصل، فقال بعد ان ذكر عدم دخالة قصد التوصل «و لذا اعترف» أي صاحب التقريرات بالاجتزاء «بما لم يقصد به ذلك»: أي قصد التوصل «في غير المقدمات العبادية لحصول ذات الواجب» لأن المقدمات العبادية لا بد و ان تكون قصدية و لازم الاعتراف بالاجتزاء بما لم يقصد به التوصل و سقوط الامر المقدمي به هو انه باتيان ما لم يقصد به التوصل يحصل ذات الواجب و إلّا لما امكن ان يسقط الامر، و حصول ذات الواجب بما لم يقصد به التوصل دليل على ان متعلق الامر الغيري ليس قصديا بل هو ذات ما هو مقدمة، و اذا كان ذات الواجب يحصل بما لم يقصد به التوصل «فيكون تخصيص الوجوب» المقدمي «بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص».

(1) لعله يشير إلى ما يمكن ان يقال: انه لا فرق بين التوصلي و التعبدي في كون صدق الامتثال في كل منهما منوطا بقصد اتيان الواجب بما هو واجب، لأن التكليف في الامور الاختيارية لا يصدق عليه انه امتثال لما تعلق به التكليف إلّا باتيان ما تعلق به التكليف بما هو فعل اختياري اتى به لاسقاط ما تعلق التكليف به فلا بد من اتيان الواجب بما هو واجب، فالامتثال في التوصلي و التعبدي على حد سواء في صدق كونه امتثالا للامر بانه منوط في كليهما باتيان الواجب بما هو واجب، و اتيان الواجب بما هو واجب منوط باتيانه عمدا في حال الاختيار مقصودا به انه مصداق لما تعلق به التكليف، و مآل هذا إلى لزوم قصد عنوان المقدمية الذي لا يتاتى إلّا بقصد التوصل بها، و انما الفرق بين التعبدي و التوصلي في ان التوصلي يسقط باتيان ما تعلق به إذا

ص: 179

.....

______________________________

اتى به لا بقصد الامتثال، بل لغرض من الاغراض أو اتى به غير ملتفت إلى عنوانه اصلا أو حصل بلا مباشرة من المكلف، كما لو وقع الماء على يده النجسة فطهرها و هو لا يعلم، أو يعلم و لكن كان مضطرا إلى وضع ما تنجس في الماء كما لو وقع في الماء الكثير فغمر المكان المتنجس منه، ففي هذه المقامات كلها يسقط الامر التوصلي لحصول الغرض الداعي إلى التكليف، و لكنه لا يصدق على ذلك انه امتثال للامر المتعلق به.

و على هذا المبنى يمكن لصاحب التقريرات ان يقول بالاجتزاء فيما لم يقصد به التوصل لتأتي الغرض من الامر به، و لكن لا يلزم ان يكون هذا منه اعترافا: بان متعلق الامر في المقدمة ذات ما هو مقدمة و ان لم يقصد به التوصل، لما عرفت: من ان حصول الامتثال في متعلق الامر التوصلي منوط بالقصد و العمد إلى اتيان الواجب بما هو واجب، فلا ملازمة بين اعترافه بالاجتزاء و بين قوله بلزوم التوصل في اتيان ما هو متعلق الامر في المقدمة.

إلّا انه لو امكن ان نقول بهذا في صدق امتثال الواجب التوصلي النفسي فلا نقول به في الامر الغيري، لأن الامر الغيري الشرعي انما نقول به لكون وجوده قهريا لأن من يريد شيئا يريد مقدماته و إلّا فهو على نمط الامر العقلي الارشادي، و العقل حيث يرى ان المقدمية متقومة بذات ما هو مقدمة لانه هو الذي يتوقف عليه التمكن من الواجب النفسي، أو ترتب الواجب النفسي فلا بد و ان يكون ذات ما هو مقدمة هو الواجب العقلي و هو الواجب الشرعي- أيضا- على القول بالملازمة.

و بعبارة اخرى: حيث ان الامر المتعلق بالواجب النفسي التوصلي ليس له ظهور في كونه صرف طريق إلى الغرض المترتب عليه بل الغرض كان داعيا اليه، لا أن المأمور به في الواقع هو الغرض المترتب على الواجب النفسي التوصلي و الواجب التوصلي وقع طريقا اليه، فلا بأس بان نقول: فيه ان امتثاله و امتثال الامر التعبدي على حد سواء كما ذكرنا، و لكن الامر ليس كذلك في الواجب التوصلي المقدمي،

ص: 180

نعم انما اعتبر ذلك في الامتثال، لما عرفت من انه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لامرها، و آخذا في امتثال الامر بذيها، فيثاب بثواب أشق الاعمال (1)، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب، و لو لم

______________________________

فانه ظاهر في صرافته في الطريقية إلى ذي المقدمة، فالمأمور به في الحقيقة عقلا و المراد شرعا بتبع ارادة الواجب النفسي هو صرف التمكن و القدرة بعد اتيانه على اتيان الواجب النفسي و القدرة عليه أو ترتب الواجب عليه، فلا محالة يكون ذات ما هو مقدمة هو المأمور به عقلا و هو المراد بالارادة القهرية شرعا.

(1) توضيحه- بحيث لا يكون منافيا لما سبق منه- بامرين:

الاول: انه قد ظهر من كلامه في اشكال العبادية في الطهارات الثلاث ان السر في وقوعها عبادية هو اتيانها بقصد التوصل بها.

الثاني: ان الامتثال في الامر التوصلي الغيري عند المصنف على ما يتحصل من مجموع كلماته بنحوين، لانه قد صرح: بان حصول ذات ما هو مقدمة من دون أي قصد يسقط به الوجوب الغيري و يصدق على المأتي به انه هو الواجب الذي تعلق به الامر الغيري، و ظهر- مما مر- منه ان عبادية الامر الغيري منوطة بقصد التوصل به الذي يلازمه قصد امتثال الامر الغيري و كون المكلف مندفعا بهذا الداعي.

فاذا عرفت هذا نقول: ان مراده بقوله: «لا يكاد يكون الآتي بها»: أي بذات ما هو مقدمة «بدونه»: أي بدون قصد التوصل بها «ممتثلا لامرها» هو الامتثال بالمعنى الثاني: أي لا يصدق عليه انه ممتثل لامرها و مندفعا به: بان يقال انه أتى بها بداعي امتثال امرها، و ليس غرضه ان الامتثال بمعنى الاتيان بما تعلق به الامر منوط بقصد التوصل بها، و لذا عقب هذا بقوله: «و آخذا في امتثال الامر بذيها فيثاب بثواب أشقّ الاعمال» فغرضه من الامتثال المنوط بقصد التوصل هو الذي يلازمه كونه آخذا في امتثال الامر بذي المقدمة، فانه لا يعقل ان يكون في صدد امتثال ذي

ص: 181

يقصد به التوصل، كسائر الواجبات التوصلية، لا على حكمه السابق الثابت له، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لانقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي لا حراما، و إن لم يلتفت إلى التوقف و المقدمية (1)، غاية

______________________________

المقدمة بحيث يصدق عليه انه في طريق الامتثال لذي المقدمة في حال اتيانه بالمقدمة و لا يكون قاصدا للتوصل بالمقدمة.

(1) ليس هذا تفريعا على قوله: نعم، بل هو تفريع على ما ذكره سابقا من عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع الفعل الذي يؤتى به من غير قصد التوصل على صفة الوجوب، و ان المتعلق للامر المقدمي هو ذات ما هو مقدمة لا عنوان المقدمية المنوطة بقصد التوصل.

توضيح هذا التفريع: انه بناء على عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب و ان ذات ما هو مقدمة هو الواجب الغيري لا المقصود به التوصل- نقول: إن ذات ما هو مقدمة مع الغض عن عروض الوجوب الغيري عليه اما ان يكون مباحا أو مستحبا أو مكروها أو حراما، و كونه واجبا نفسيا خارج عن الكلام، اذ مع وجوبه النفسي بالذات لا يعقل ان يكون واجبا غيريا لانشغال المحل بالوجوب النفسي، و لانه لا مجال لجعل الداعي إلى إتيانه مقدميا بعد ان كان قد جعل الداعي إلى إتيانه لنفسه، و اما الاحكام الأخر فلا شبهة في انقلاب حكمه إذا كان مباحا أو مستحبا أو مكروها إلى الوجوب- بناء على الملازمة و سريان الوجوب إلى المقدمة من وجوب ذيها- و عدم معقولية ان يكون للواقعة الخاصة حكمان متضادان- كما سيأتي بيانه في مبحث اجتماع الامر و النهي- فلا يعقل بعد عروض الوجوب على المقدمة ان تكون مباحة أو مستحبة أو مكروهة لمنافاة عدم الإذن في الترك مع الاذن في الترك.

ص: 182

.....

______________________________

و اما إذا كان ذات ما هو المقدمة محرما فإما ان ينحصر الواجب به: بان يتوقف الواجب النفسي عليه و لا يكون هناك فرد غير هذه المقدمة المحرمة، و هذا الفرض هو موضوع كلام المصنف اولا، و اما المقدمة غير المنحصر الواجب بها فسيأتي الكلام فيها في ذيل العبارة.

و لا يخفى: انه إذا انحصرت مقدمة الواجب النفسي في المحرم و قلنا ببقاء المقدمة على حرمتها لا بد من الالتزام بسقوط الواجب النفسي المنحصر مقدمته في المحرم، اذ لا يعقل اجتماع الوجوب و الحرمة فيه و ان قلنا بجواز اجتماع الامر و النهي، اذ من يقول بالجواز انما يقول به فيما له المندوحة لا فيما لا مندوحة فيه و فرض المقام عدم المندوحة فاذا لم يسقط الواجب النفسي عن وجوبه: بان كان اهم من الحرمة المتعلقة بمقدمته فلا مناص من سقوط حكم حرمة المقدمة و انقلاب حكمها إلى الوجوب الغيري المقدمي، فاذا توقف انقاذ غريق لنفس محترمة على الدخول في ملك الغير من دون اذنه فلا بد من سقوط حرمة الدخول و التصرف في ملك الغير إذا انحصر انقاذ الغريق المسلم على الدخول و التصرف فيه.

إذا عرفت هذا فنقول: انه بناء على كون الواجب الغيري ذات ما هو المقدمة يقع الدخول في ملك الغير واجبا و ان لم يقصد الداخل التوصل بدخوله لانقاذ الغريق، لأن ذات ما هو مقدمة و هو الدخول في ملك الغير هو الذي ترشح له الوجوب، فهو مصداق للواجب الغيري و قد ارتفع حكم حرمته لتوقف الانقاذ الواجب الأهم عليه، و اذا كان الواجب بالوجوب الغيري المقدمة المقصود بها التوصل لا يقع الدخول مصداقا للواجب و ان كان لا يقع ايضا مصداقا للمحرم لتوقف حصول الواجب الأهم عليه، لعدم امكان تنجز الواجب الاهم مع بقاء ما يتوقف عليه وجوده على حرمته، فهو لا يقع مصداقا للواجب لعدم قصد التوصل به و لا محرما لتوقف وجود الواجب عليه.

ص: 183

.....

______________________________

فالفرق بين مسلك التقريرات في اعتبار قصد التوصل، و مسلك المصنف هو وقوع الدخول مع كونه تصرفا في ملك الغير مصداقا للواجب على مختار المصنف، و وقوعه لا واجبا و لا محرما بناء على مسلك التقريرات، و لذلك لم يصرح المصنف بوقوعه على مسلك التقريرات محرما، و اكتفى بكونه على مسلكه يقع مصداقا للواجب دون مسلك التقريرات، فصرح: بانه بناء على عدم اعتبار قصد التوصل يقع الدخول و التصرف في ملك الغير مصداقا للواجب الغيري و ان لم يقصد الداخل التوصل و لذا قال (قدس سره): «فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب و لو لم يقصد به التوصل كسائر الواجبات» الواقعة على «صفة الوجوب» و ان لم يقصد بها امتثال امرها على ما سبق من رأيه: من ان الواجبات التوصلية تقع على وصف الامتثال و ان لم يقصد بها امتثال امرها، لا انها يسقط بها الوجوب التوصلي لتحقق الغرض، و لكن لا تقع على صفة الامتثال كما هو رأي غيره في الفرق بين التوصلي و التعبدي، و قد مرت الإشارة اليه في شرح قوله: فافهم.

و على كل فعلى رأيه (قدس سره) لا بد له من الالتزام بما ذكره من وقوع ذات ما هو المقدمة على صفة الوجوب و ان لم يقصد به التوصل، و لا يبقى على ما له من الحكم السابق قبل عروض مقدميته، فاذا كان حكمه السابق الحرمة و كان الواجب النفسي اهم ترتفع حرمة الفعل و يقع واجبا و ان لم يقصد به التوصل، و لذا بعد ان ذكر انه يقع على صفة الوجوب قال: «لا على حكمه السابق الثابت له»: أي الحكم الثابت لهذا الفعل «لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه» كالدخول في ملك الغير بغير اذنه، فان حكمه الثابت له هو الحرمة قبل توقف الانقاذ الذي هو الواجب الفعلي الاهم فيكون هو المنجز فعلا على الدخول، و بعد عروض هذا التوقف ترتفع الحرمة، و لذا قال مفرعا: «فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لانقاذ غريق أو اطفاء حريق واجب فعلي» و لا يقع حراما على حكمه

ص: 184

الامر يكون حينئذ متجرئا فيه (1)، كما أنه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا. و أما إذا قصده، و لكنه

______________________________

السابق و ان لم يقصد به التوصل و لذا قال: «لا حراما»: أي يقع واجبا لا حراما «و ان لم يلتفت» الداخل «إلى التوقف و المقدمية».

(1) لا يخفى ان هذا تتمة لما ذكره من وقوع الفعل مصداقا للواجب الغيري، و لا يبقى على حكمه السابق و ان لم يلتفت الداخل المتصرف في ملك الغير من دون اذنه إلى كون دخوله مقدمة لواجب اهم لأن دخوله مصداق للواجب الغيري التوصلي، و مع وقوعه مصداقا للواجب لا يعقل ان يكون مصداقا للمحرم، إلّا انه حيث لم يلتفت إلى كونه مقدمة لواجب اهم فهو غافل عن كون ما أتى به مصداقا للواجب، و حيث انه يعلم بان دخوله تصرف في ملك الغير من دون إذنه فيكون على هذا معتقدا لكونه مصداقا للمحرم فهو في دخوله قد أقدم على ارتكاب المحرم، فهو كمن شرب المائع بعنوان كونه خمرا إن كان ماء.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 2 ؛ ص185

يته، ان الفرق بين المقام و بين شرب المائع الذي يتبين انه ماء: ان في شرب المائع قد انتفت الحرمة لانتفاء موضوعها و هو الخمر، و في المقام قد ارتفع نفس حكم الحرمة لا موضوعها و هو التصرف في ملك الغير، و لا فرق في مناط التجري صدقا و نتيجة بين هذين الامرين، و على كل فهو في دخوله له يكون متجريا فيما اتى به لانه اقدم فيه على العصيان و ارتكاب المحرم و ان لم يكن ما اتى به محرما واقعا بل هو مصداق للواجب، و الى هذا أشار بقوله: «غاية الامر يكون حينئذ»: أي بدخوله في ملك الغير مع التفاته إلى كونه تصرفا من غير اذن المالك و عدم التفاته إلى مقدميته و توقف الواجب الاهم عليه فانه على هذا يكون «متجريا فيه»: أي في فعله هذا الذي هو فعل المقدمة التي يراها بما لها من عنوانها الخاص بها محرمة و قد غفل عن كونها مقدمة و مصداقا للواجب الغيري.

ص: 185


1- آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

لم يأت به بهذا الداعي، بل بداع آخر أكده بقصد التوصل، فلا يكون متجرئا أصلا (1).

______________________________

(1) لما ذكر صورة عدم الالتفات إلى كونه مقدمة لواجب اهم مع التفاته إلى كونه تصرفا في ملك الغير بغير اذنه و انه يكون متجريا عقبه بصورة الالتفات، و مهم صور الالتفات اربعة:

الأول: ان يكون ملتفتا إلى كون الدخول مقدمة للواجب الاهم و قد دخل بقصد التوصل إلى الواجب، و في هذا الفرض يقع مصداقا للواجب على المسلكين و هو واضح.

الثاني: ان يكون ملتفتا إلى كونه مقدمة للواجب الاهم و لكنه متردد في امتثال الواجب الاهم فلا يكون دخوله بقصد التوصل، فعلى مسلك المصنف يقع مصداقا للواجب، و على مسلك التقريرات لا يقع واجبا و لا محرما، و على كل فلا يكون متجريا بالفعل.

الثالث: ان يكون ملتفتا و لكنه كان بانيا على مخالفة الواجب الاهم، فحيث كان يجب عليه البناء على امتثال الواجب المنجز و لم يبن على الامتثال يكون متجريا بالنسبة إلى الواجب الاهم الذي هو ذو المقدمة، و انما لم يعد عاصيا لانه لم يترك ما هو مقدمة حتى يكون تركا للواجب، فهو بالفعل له مجال لأن يأتي بالواجب و لان لا يأتي به و لكنه حيث يجب كان عليه البناء على الاتيان به و لم يبن فهو متجر بالنسبة إلى ذي المقدمة لا عاص بالفعل فتأمل.

و اما بالنسبة إلى نفس المقدمة فعلى مسلك المصنف لا يكون متجريا لانه قد اتى بما هو الواجب الغيري، و اما على مسلك التقريرات فاذا قلنا بصحة الترتب فلا مانع من وقوع المقدمة محرمة لأن المقدمة الواجبة هي المقصود بها التوصل و القدر المتيقن من كون تنجز الواجب لا يجامع حرمة ما يتوقف عليه فيما إذا لم يكن بانيا على عدم امتثال الواجب الاهم، اما إذا كان بانيا على امتثال الواجب الاهم فلا مانع من ان

ص: 186

و بالجملة: يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة، لا أن يكون قصده قيدا و شرطا لوقوعها على صفة الوجوب، لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا، و إلا لما حصل ذات الواجب و لما سقط الوجوب به، كما لا يخفى (1). و لا يقاس

______________________________

يخاطب بعد بنائه على عدم الامتثال للواجب المتوقف على هذه المقدمة بحرمة الدخول في ملك الغير بغير اذنه و اللّه العالم.

الرابع: ان يكون ملتفتا و لكنه لم يات بالمقدمة بقصد التوصل وحده بل انضم اليه قصد آخر كقصد التفرج- مثلا- و لازمه ان يكون بانيا على قصد امتثال الواجب الاهم، و في الفرض على كل حال لا يكون ما اتى به حراما على كلا المسلكين و لا متجريا لا بالنسبة إلى المقدمة و لا بالنسبة إلى ذي المقدمة، و قد أشار إلى الفرض الثالث و الرابع، فأشار إلى الثالث بقوله: «كما انه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة» كما عرفت وجهه، و الى الامر الرابع بقوله: «و اما إذا قصده و لكنه لم يات به بهذا الداعي بل بداع آخر اكده بقصد التوصل فلا يكون متجريا» كما عرفت أيضا.

(1) هذا تلخيص ما ذهب اليه من عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

و محصله: انه حيث كان الملاك لوجوب المقدمة هو توقف الواجب عليها و كان هذا الملاك مما يقوم به ذات ما هو مقدمة، فلا بد و ان يكون هو الواجب من دون قيد له أو شرط.

و من الواضح- أيضا- ان ذات ما هو مقدمة مما يمكن ان يقصد به التوصل إلى ذي المقدمة، فلا محالة يكون قصد التوصل من فوائد ما هو مقدمة بالحمل الشائع فلذا قال: «و بالجملة يكون» قصد «التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة» و هي المقدمة بالحمل الشائع من دون تقييدها أو اشتراطها بقصد

ص: 187

على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها، حيث يسقط به الوجوب، مع أنه ليس بواجب، و ذلك لأن الفرد المحرم إنما يسقط به الوجوب، لكونه كغيره في حصول الغرض به، بلا تفاوت أصلا، إلا أنه لاجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب، و هذا بخلاف ما هاهنا، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض، فلا بد أن يقع على صفة الوجوب مثله، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، و إلا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة، و التالي باطل بداهة، فيكشف هذا عن

______________________________

التوصل في وقوعها على صفة الوجوب و لذا قال: «لا ان يكون قصده»: أي التوصل بها «قيدا أو شرطا لوقوعها على صفة الوجوب» ثم علله بما ذكرنا: من ان ملاك وجوب المقدمة ثابت لما هو بذاته مقدمة لا المقدمة المقصود بها التوصل، فقال «لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه اصلا» هذا هو البرهان لكون الواجب ذات ما هو مقدمة و هو المقدمة بالحمل الشائع، ثم أشار إلى نقض على من يشترط في وقوعها على صفة الوجوب تقييدها بقصد التوصل بما حاصله: انه لو كان قصد التوصل شرطا لوقوعها على صفة الوجوب لما امكن ان يسقط الامر الغيري المتعلق بالمقدمة باتيان ذات ما هو مقدمة من دون قصد التوصل بها، إذ الواجب المتعلق للامر لا يعقل ان يسقط الامر المتعلق به إلّا باتيان ما تعلق به الامر، فلو كان متعلق الامر هو المقدمة المقصود بها التوصل لما سقط الامر في الواجب الغيري باتيان ما هو مقدمة بالحمل الشائع من دون قصد التوصل، و الى هذا أشار بقوله: «و إلّا لما حصل ذات الواجب و لما سقط الوجوب به».

ص: 188

عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا، و انتظر لذلك تتمة توضيح (1).

______________________________

(1) هذا جواب منه (قدس سره) عن سؤال مقدر يمكن ان يورد على دليله الاخير: من عدم امكان سقوط الواجب و الامر به باتيان ما هو مقدمة بالحمل الشائع من دون قصد التوصل.

و حاصل السؤال و الايراد: ان الامر التوصلي لا ينحصر سقوطه باتيان متعلق امره، فانه كما يسقط باتيان الواجب و ما هو متعلق الامر كذلك يسقط الامر التوصلي باتيان ما لا يعقل ان يكون فردا له لحصول الغرض الذي يدعو إلى الوجوب الغيري.

و بعبارة اخرى: ان الغرض في الواجب التوصلي كما يتحمله فرده و يسقط به الوجوب كذلك يتحمله ما ليس فردا له و يسقط بواسطة حصول الغرض منه الامر التوصلي، كما في الفرد المحرم من افراد المقدمة و هي الدابة المغصوبة التي يحصل بها الوصول إلى مناسك الحج الواجب، مع انه لا يعقل ان يكون الامر بالمقدمة شاملا للفرد المغصوب المحرم، و لكنه حيث يحصل به الغرض يسقط الامر المتعلق بالمقدمة غير المغصوبة كالدابة المملوكة و المستأجرة، فاذا امكن ان يسقط الامر المقدمي بالفرد المحرم فلا مانع من ان يسقط باتيان ما هو مقدمة بالحمل الشائع و ان كان الواجب الغيري هو المقدمة المقصود بها التوصل.

و حاصل الجواب- عن هذا السؤال-: هو انه مما لا يمكن الريب فيه ان ثبوت ملاك الوجوب في فرد من دون مانع عنه لا محالة يجعل ذلك الفرد مصداقا للواجب، اذ لا يعقل التخلف بعد تحقق العلة التامة من ثبوت المقتضي و عدم المانع، و حيث كان الفرد المحرم قد ثبت فيه المقتضي، لأن الدابة المغصوبة كالدابة المملوكة في انه بها يحصل قطع المسافة المؤدية إلى محل المناسك في الحج، و لكن ثبوت المانع فيها و هو الغصب منع من تعلق الامر الغيري بها و لا انحصار بها، و مع الانحصار- أيضا-

ص: 189

.....

______________________________

لا يتنجز الحج لانه مشروط بالاستطاعة و الممنوع شرعا كالممتنع عقلا، ففرض تنجز الحج وجود فرد مباح من المقدمة يكون هو الواجب لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، دون الفرد المحرم فانه و ان ثبت فيه المقتضي إلّا انه شفع بالمانع و مع وجود المانع لا تتم العلة التامة للحكم فيه فلا يعقل ان يتعلق به الوجوب الغيري، و حيث ثبت المقتضي فيه فبإتيانه يحصل الغرض الداعي إلى الوجوب الغيري فيسقط و ان لم يكن الفرد المحرم من مصاديق متعلق الوجوب الغيري.

فاذا عرفت هذا نقول: ان ذات ما هو مقدمة لا يعقل ان يسقط به الوجوب من دون تحمله للغرض الداعي إلى الوجوب الغيري، و إلّا لجاز ان يسقط وجوب كل شي ء بكل شي ء و هو محال، فالامر لا يعقل ان يسقط إلّا بما فيه ملاكه، فاذا كان في ذات ما هو مقدمة ملاك الوجوب الغيري- و من الواضح انه لا مانع من ان يكون ذات ما هو مقدمة واجبا كما كان المانع في الفرد المحرم- فلا محالة يكون سقوط الوجوب به لانه فرد الواجب و هو المطلوب، و الى هذا أشار بقوله: «و هذا بخلاف ما هاهنا فانه ان كان كغيره مما يقصد به التوصل» إلى آخر كلامه: أي الفرد المحرم ليس كمقامنا و هو ذات ما هو مقدمة، فانه في الفرد المحرم لا يؤثر المقتضي لثبوت المانع، بخلاف ما هاهنا فانه إذا كان ذات ما هو مقدمة قد ثبت المقتضي فيه و هو انه مما يحصل به التوصل إلى ذي المقدمة «فلا بد ان يقع على صفة الوجوب مثله»: أي مثل المقدمة التي قصد بها التوصل حيث انه قد ثبت فيه و لا مانع، و لذا قال: «لثبوت المقتضي فيه بلا مانع و إلّا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة و التالي باطل» و هو عدم سقوط الوجوب به، فسقوط الوجوب به دليل على انه مما يقوم به الغرض و كونه بلا مانع و انه ليس كالفرد المحرم- أيضا- معلوم بالضرورة، فاذا تم ثبوت المقتضي فيه و انه لا مانع فيه فلا بد و ان يكون سقوط الوجوب به لانه فرد الواجب، اذ لا مانع عن كونه كذلك، و اذا كان ذات ما هو مقدمة يسقط به الوجوب المستلزم ذلك لكونه فردا له كشف هذا عن ان الواجب ذات ما هو مقدمة من دون تقيده بقصد التوصل،

ص: 190

و العجب أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة، و اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب، على ما حرره بعض مقرري بحثه قدس سره بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك، فراجع تمام كلامه زيد في علو مقامه، و تأمل في نقضه و إبرامه (1).

______________________________

و لذا قال: «فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده»: أي قصد التوصل «في الوقوع على صفة الوجوب قطعا».

قوله: «و انتظر لذلك تتمة توضيح» عند تعرضه لرأي صاحب الفصول في تقييد المقدمة بالموصلة.

(1) حاصل ما يشير اليه المصنف هو انه في التقريرات شدد النكير على صاحب الفصول في قوله بالمقدمة الموصلة.

و المتحصل من رد التقريرات للقول بالمقدمة الموصلة: هو انه لا وجه لتخصيص بعض المقدمات و هي التي يترتب عليها الواجب بالوجوب بعد ان كان ما هو الملاك للوجوب يعمها و غيرها من المقدمات التي لا يترتب عليها الواجب، و الملاك الذي لوجوب المقدمة كما ينفي تقييد المقدمة بالموصلة كذلك ينفي تقييدها بقصد التوصل أيضا، و لذا كان ذلك موضع عجب المصنف (قدس سره)، فانه قال في التقريرات في رد صاحب الفصول ما هو نصه: «بعد القول بان الحاكم في هذا الباب العقل و نحن بعد ما استقصينا التامل لا نرى للحكم بوجوب المقدمة وجها الا من حيث ان عدمها يوجب عدم المطلوب، و هذه الحيثية هي التي يشترك فيها جميع المقدمات و ان اختص بعضها بالاستلزام الوجودي أيضا كما في العلة التامة»(1) انتهى كلامه رفع مقامه.

ص: 191


1- مطارح الانظار: ص 77 حجري.

و أما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب، فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب إلا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه في المقدمة الموصلة. و الباعث على طلبه، و ليس الغرض من المقدمة إلا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، ضرورة أنه لا يكاد يكون الغرض إلا ما يترتب عليه من فائدته و أثره، و لا يترتب على المقدمة إلا ذلك، و لا تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب، و ما لا يترتب عليه أصلا، و أنه لا محالة يترتب عليهما، كما لا يخفى.

و أما ترتب الواجب، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها و الباعث على طلبها، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات، فإن الواجب إلا ما قل في الشرعيات و العرفيات فعل اختياري، يختار المكلف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدماته، و أخرى عدم إتيانه، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته، مع عدم ترتبه على تمامها، فضلا عن كل واحدة

______________________________

و هذا كلام صريح في ان الملاك للوجوب المقدمي هو ان ما يلزم من عدمه العدم هو الذي يترشح له الوجوب، و لا ينبغي تخصيص الوجوب بخصوص ما يلازم وجوده وجود ذي المقدمة و هو المقدمة الموصلة، و هذه الحيثية التي نفى بها تخصيص الوجوب بخصوص الموصلة ينتفي بها أيضا تخصيص المقدمة و تقييدها بقصد التوصل، فإن المقدمة المقصود بها التوصل و التي لم يقصد بها التوصل تشتركان في الحيثية المذكورة و هي انها يلزم من عدمها العدم، و لذا قال المصنف ان الشيخ الذي يحكي رأيه صاحب التقريرات شدد النكير على صاحب الفصول في قوله بوجوب خصوص المقدمة الموصلة في رده له «بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل» و جعله قيدا «في وقوعها كذلك»: أي في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

ص: 192

في الرد على القول بالمقدمة الموصلة

منها نعم فيما كان الواجب من الافعال التسبيبية و التوليدية، كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته، لعدم تخلف المعلول عن علته و من هنا قد انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة، يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات، و القول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية (1).

______________________________

(1) هذا شروع في الكلام مع صاحب الفصول القائل بوجوب خصوص المقدمة الموصلة: أي وجوب خصوص المقدمة التي يترتب عليها الواجب.

و حاصل البرهان الذي ينفي تقييد المقدمة بقيد انها موصلة بحيث يترتب عليها ذو المقدمة ما أشار اليه بقوله: «فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب الا ما له دخل في غرضه» إلى آخر كلامه.

و توضيحه: هو انه لا يعقل ان يكون الداعي إلى وجوب المقدمة الّا ما تتحمله المقدمة من ربطها وصلتها بذي المقدمة، فلا بد ان نرى ان الغرض الداعي إلى وجوب المقدمة هل هو ترتب ذيها عليها أو التمكن من ايجاد ذيها بعد ايجادها؟

و لا يخفى ان ترتب ذي المقدمة لا يعقل ان يكون هو الغرض المترتب على كل جزء من أجزاء المقدمة، فإن وجود المعلول انما هو من آثار وجود العلة التامة و لا يعقل ان يكون مترتبا على كل جزء من اجزائها لفرض كون العلة التامة مركبة، و اذا كان مترتبا على كل جزء من اجزائها لزم الخلف من كون المجموع هو العلة التامة له، فلازم القول بالمقدمة الموصلة هو ان المترشح من الواجب النفسي وجوب واحد لمجموع العلة التامة كالوجوب الواحد النفسي المتعلق بالمركب من أجزاء متعددة، و انما يكون لكل جزء من أجزاء المقدمة حصة من ذلك الوجوب الواحد المنبسط على الجميع، فوجوب كل جزء من الأجزاء هو وجوب ضمني يكون ببسط الوجوب على جميع الأجزاء و ان لكل جزء من أجزاء المركب حصة منه، و لا يكون لكل جزء وجوب في عرض وجوب الجزء الآخر غير مرتبط امتثال كل منها بامتثال الجزء الآخر

ص: 193

.....

______________________________

و حيث ان المقدمة التي يتوقف عليها الواجب على نحوين: بعضها اختيارية و هي التي يكون آخر جزء منها هو الارادة التي يتعقبها وجود ذي المقدمة فيتوسط بين وجود ذي المقدمة و وجود مقدماتها الارادة و هي المسماة بالمقدمات المباشرية الاختيارية. أو النحو الثاني هي المقدمات التي يتعقبها ذو المقدمة من دون توسط ارادة بينه و بين مقدماته و هي المسماة بالاسباب التوليدية كالاحراق المترتب على الالقاء في النار.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان ترتب ذي المقدمة على المقدمات ليس اثرا لكل واحدة منها بل هو اثر مجموعها، و هناك شي ء آخر يكون هو اثرا لكل واحدة من هذه المقدمات، و هو ان لكل مقدمة من هذه المقدمات اثرا يخصها و هو سد عدم ذي المقدمة من ناحيته. و من الواضح ان كل مقدمة إذا وجدت فقد سد عدم ذي المقدمة من هذه الناحية و لا ربط لسد العدم من ناحية مقدمة بسد العدم لذي المقدمة من ناحية اخرى، و لازم هذا ان يكون لكل مقدمة وجوب غيري في عرض الوجوب الغيري الآخر المتعلق بالمقدمة الاخرى.

فاذا عرفت هذا نقول: الداعي إلى ايجاب المقدمة ان كان هو الاثر المترتب على مجموعها فلا بد من الالتزام بوجوب خصوص المقدمة الموصلة و لا مناص عنه، و ان كان الداعي إلى ايجاب المقدمة هو سد العدم من ناحيتها فلا بد من كون الواجب هو المقدمة التي بها يسد عدم ذي المقدمة من هذه الناحية سواء سدّ عدم ذي المقدمة من ناحية مقدمة اخرى ام لا، و لازم هذا عدم اختصاص الوجوب المقدمي بخصوص المقدمة الموصلة.

و ادعى المصنف ان الغرض الداعي إلى ايجاب المقدمة هو الثاني و هو سد العدم فانه إلى ما ذكرنا يرجع قوله: «و ليس الغرض من المقدمة الا حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة» فإن امكان حصول ذي المقدمة بعد حصول المقدمة مرجعه إلى كون الاثر الداعي إلى الوجوب هو سد العدم من ناحية كل مقدمة بنفسها، و ليس المراد من هذا الامكان هو الامكان الذاتي، فإن الامكان الذاتي

ص: 194

.....

______________________________

للممكن لا ينتزع الّا من ذات الممكن، و الممكن الذاتي ممكن بالذات سواء امتنع وقوعه أو امكن وقوعه، بل المراد من هذا الامكان هو خروج الشي ء شيئا فشيئا من ناحية القوة إلى الفعلية، فذو المقدمة حيث كان مقدورا عليه بواسطة القدرة على مقدماته فكل مقدمة وجدت أوجبت خروج القدرة على ذي المقدمة من حد ما هو بالقوة إلى حد الفعلية، فإن القدرة على ذي المقدمة بواسطة وجود هذه المقدمة قد صارت بالفعل بعد ما كانت بالقوة، و قد أشار في البرهان إلى كون الداعي الى ايجاب المقدمة هو هذا دون الاثر المترتب على مجموع المقدمات بقوله: «ضرورة» إلى آخره.

و حاصله: انه لا بد ان يكون الغرض الداعي إلى ايجاب المقدمة هو الاثر المترتب على نفس المقدمة دون الاثر غير المترتب عليها. و قد عرفت ان ترتب ذي المقدمة ليس اثرا لكل جزء من أجزاء العلة التامة، فلا يعقل ان يكون الترتب موجبا لوجوب كل مقدمة في عرض المقدمة الاخرى.

و لا يخفى: ان هذا البرهان لا يتم الّا بامر قد اخذه مفروغا عنه، و هو ان لكل مقدمة وجوبا في عرض وجوب المقدمة الاخرى، فاذا كان هذا امرا مسلما فلا بد و ان ينتج ان الاثر الداعي هو سد العدم دون الاثر الذي هو اثر لمجموع المقدمات، إلّا ان لازم هذا ليس الّا لزوم اختصاص الوجوب بالمجموع. و اذا لم يكن من المسلم ان لكل مقدمة وجوبا فلا غضاضة شديدة في هذا الالتزام.

و على كل فقد أشار إلى ما ذكرنا بقوله: «لا يكاد يكون الغرض الا ما يترتب عليه»: أي على الواجب، و كان الاولى ان يكون الضمير مؤنثا ليعود إلى المقدمة فانها اقرب من كون الواجب مرجعا للضمير «من فائدته و اثره و لا يترتب على المقدمة الا ذلك» و هو حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة «و لا تفاوت فيه»: أي لا تفاوت في هذا الاثر و هو امكان حصول ذي المقدمة بعد حصوله «بين ما يترتب عليه الواجب و ما لا يترتب عليه اصلا و انه لا محالة يترتب عليهما»: أي انه لا محالة يترتب عليهما حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة، فإن المقدمة

ص: 195

.....

______________________________

سواء ترتب عليها الواجب ام لم يترتب يصح ان يقال: ان الاثر لكل مقدمة هو حصول ما لو لاه لما امكن حصول ذي المقدمة. و لا يعقل على هذا ان يكون الاثر الداعي إلى ايجاب المقدمات هو ترتب الواجب عليها، فإن ترتب الواجب انما يمكن ان يكون اثرا داعيا إلى الايجاب في خصوص المقدمات و الاسباب التوليدية، فإن غيرها من الاسباب و المقدمات الاختيارية يتوسط بينها و بين جملة المقدمات الاختيار، إذا كان نفس الاختيار من جملة مجموع المقدمات التي يترتب عليها الواجب فلا يعقل القول بوجوب مثل هذه المقدمات، لأن وجوب مجموعها لازمه تعلق الامر بنفس الارادة و الاختيار، و اذا لم يعقل ان يتعلق الامر بنفس الاختيار فالمركب ينتفي تعلق الوجوب بمجموعه بامتناع احد اجزائه، فلا بد لمن يقول: بان الغرض الداعي للوجوب هو ترتب ذي المقدمة ان لا يقول بوجوب مثل هذه المقدمات.

و قد ظهر من هذا ان هذا برهان آخر غير البرهان الاول قد مزج بينهما المصنف في هذا البرهان و أشار اليه و انه من متفرعات ما ذكره بقوله: «و قد انقدح» إلى آخر كلامه.

و على كل فالمتحصل من كلام المصنف (قدس سره)- من قوله: «فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب» إلى قوله: «فإن قلت»- برهانان على عدم وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

الأول: انه لو كان الواجب هو خصوص الموصلة لاختص الوجوب بخصوص العلة التامة التي هي مجموع المعدّ و السبب و الشرط و لا يترشح الوجوب لكل واحد واحد من اجزاء العلة التامة، فلا يكون المعدّ وحده و لا السبب وحده و لا الشرط وحده بمقدمة، لأن ترتب ذي المقدمة انما يكون على العلة التامة، فاذا كان هو الداعي للوجوب فلا بد و ان يختص الوجوب بخصوص العلة التامة، و قد اخذ من المسلم كون أجزاء العلة مقدمة كما ان العلة التامة مقدمة، و اذا كانت أجزاء العلة

ص: 196

فإن قلت: ما من واجب إلا و له علة تامة، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.

قلت: نعم و إن استحال صدور الممكن بلا علة، إلا أن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته، و هي لا تكاد تتصف بالوجوب، لعدم كونها بالاختيار، و إلا لتسلسل، كما هو واضح لمن تأمل (1)،

______________________________

مقدمة فلا بد و ان يكون الغرض الداعي هو الامر المشترك بين العلة الناقصة و العلة التامة، و ليس هو الّا ما ذكره: و هو حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة.

الثاني: انه لو كان الواجب خصوص المقدمة الموصلة لكان جملة من المقدمات التي من المسلم وجوبها غير واجبة، و هي المقدمات التي يتوسط بينها و بين ذي المقدمة اختيار المكلف، لأن المجموع الذي من جملته ارادة المكلف لا يعقل ان يتعلق بها امر لعدم امكان تعلق الامر بالارادة، لانه يشترط في متعلق الامر أن يكون اختياريا و الارادة بنفسها غير اختيارية فلا يعقل ان تكون جزءا من المركب المتعلق به الامر و المركب ينتفي بانتفاء احد أجزائه، فلا تكون هذه المقدمات بواجبة و يختص الوجوب المقدمي بخصوص الاسباب التوليدية.

(1) حاصل ان قلت و قلت- هو ما ذكرنا: من كون الارادة إذا كانت جزءا من العلة التامة فلا يعقل ان يتعلق امر بالعلة التامة التي من اجزائها الارادة و الّا لتسلسلت الارادات، و هذا ما تكرر منه (قدس سره): من أن الفعل الاختياري ما كان عن ارادة، فاذا كان متعلق الامر هو الارادة فلا بد و ان تكون نفس الارادة- أيضا- عن ارادة حتى تكون من الافعال الاختيارية التي اختياريتها من شرائط تعلق التكليف بها، و اذا كانت الارادة من الافعال الاختيارية المحتاجة إلى الارادة سرى هذا الحكم إلى جميع افراد الارادة لوضوح جريان حكم الطبيعي على جميع افراده فيلزم تسلسل الارادات إلى ما لا يتناهى و هو باطل.

ص: 197

و لانه لو كان معتبرا فيه الترتب، لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها، من دون انتظار لترتب الواجب عليها، بحيث لا يبقى في البين إلا طلبه و إيجابه، كما إذا لم تكن هذه بمقدمته، أو كانت حاصلة من الاول قبل إيجابه، مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة، أو بالعصيان و المخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف، كما في سقوط الامر بالكفن أو الدفن، بسبب غرق الميت احيانا أو حرقه، و لا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة (1).

______________________________

(1) هذا هو البرهان الثالث الذي أشار اليه في عدم تقييد المقدمة الواجبة بالموصلة.

و توضيحه: ان سقوط الامر ينحصر في ثلاثة اشياء: موافقته و اطاعته باتيان متعلقه، و بعصيانه و ترك الاتيان بما امر به حتى يفوت محلّه، و بانعدام موضوع الامر كما في ما لو غرق الميت فانه يسقط الامر المتعلق بوجوب غسله و دفنه لارتفاع موضوع التكليف بسبب غرق الميت، أو بأن يكون موجودا قبل تعلق الامر كما في المقدمة الموجودة قبل تنجز الأمر بذيها.

و لا اشكال أيضا في ان الامر المتعلق بالمقدمة لا يعقل بقاؤه بعد اتيان المكلف بها قبل اتيانه بذي المقدمة، إذ الامر انما هو بداعي جعل الداعي إلى متعلقه. و من الواضح انه بعد الاتيان بالمقدمة لا مجال لجعل الداعي من المولى لها بعد اتيان المكلف بها، فلا بد من الالتزام بسقوط الامر المقدمي بعد الاتيان بالمقدمة و قبل الاتيان بذيها، و لازم الالتزام بسقوط الامر في ذلك الوقت هو كون الواجب بالوجوب المقدمي غير متقيد بالايصال، فانه لو كان متقيدا بالايصال لما كان من المعقول سقوطه قبل الاتيان بذي المقدمة، اذ متعلق الامر هو المقدمة التي يترتب عليها الواجب، و قبل الاتيان بذي المقدمة لا توصف المقدمة المطلوبة بانها مما ترتب عليها الواجب، فسقوط الامر المقدمي قبل اتيان ذي المقدمة دليل على ان متعلق الامر هو ذات ما هو المقدمة لا المقدمة المقيدة بالايصال، و قد أشار المصنف إلى الجزء الاخير من البرهان

ص: 198

.....

______________________________

بقوله: «لو كان معتبرا فيه الترتب لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها» لما عرفت من انه لو كان المأمور به بالامر المقدمي المقدمة الموصلة لما كان وجه لسقوط الامر بها بمجرد اتيانها و قبل الاتيان بذي المقدمة قوله: «بحيث لا يبقى في البين إلّا طلبه و ايجابه» لوضوح انه بعد الاتيان بالمقدمة لا يكون الباقي الا الامر بذي المقدمة دون الامر بالمقدمة، و بهذا يشير إلى لزوم القول بسقوط الامر المقدمي بمجرد الاتيان، و انه لا وجه لبقائه منتظرا فيه ترتب الواجب على المقدمة و انه بالوجدان بعد الاتيان بالمقدمة يسقط الامر المتعلق بها و يكون حالها كما لو لم تكن بمقدمة في انه لا امر لها، و هذا مراده من قوله: «كما اذا لم تكن هذه بمقدمته» أو ان هذه المقدمة المأتي بها يكون حالها حال المقدمة الموجودة قبل تنجز التكليف بذيها، فإنه كما ان مثل هذه المقدمة الموجودة قبل تنجّز الامر بذيها لا امر بها كذلك المقدمة المأتي بها لا امر بها.

و هذا كله تحقيق لما ادعاه من سقوط الامر المقدمي بمجرد الاتيان بالمقدمة و قبل الاتيان بذيها، و أشار إلى الجزء الآخر من البرهان و هو انحصار السقوط بما مر بقوله:

«مع ان الطلب» إلى آخر كلامه، و الى النتيجة بقوله: «و لا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة» لأن سقوط الامر إذا لم يكن بالعصيان و لا بارتفاع الموضوع و بالوجود مثل التنجز فلا بد و ان يكون سقوط الامر المقدمي بموافقته، و اذا كان سقوط الامر المقدمي بالموافقة و هو في حال ما قبل الاتيان بذي المقدمة، فلازم ذلك ان يكون متعلق الامر المقدمي هو ذات ما هو مقدمة دون المتقيدة بالايصال، و الّا لكان اللازم ان لا يسقط و ان يكون سقوطه مراعي و منتظرا باتيان ذي المقدمة.

ص: 199

إن قلت: كما يسقط الامر بتلك الامور، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به فيما يحصل به الغرض منه، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير، أو المحرمات (1).

قلت: نعم و لكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض، من الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع، و هو كونه بالفعل محرما، ضرورة أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا، فكيف يكون أحدهما متعلقا له فعلا دون الآخر (2)؟

______________________________

(1) حاصل ان قلت الايراد على ما ادعاه: من انحصار السقوط فيما ذكره، و ان سقوط الامر التوصلي لا ينحصر بما ذكر لانه كما يسقط بما مر كذلك يسقط بفعل الغير له و يسقط- أيضا- بالفعل المحرم غير المعقول شمول الامر له. و حيث لا ينحصر السقوط بما ذكر فمن الجائز ان يكون سقوط الامر بمجرد الاتيان لا من باب تحقق الامتثال للامر المقدمي، بل هو كسقوط الامر بفعل الغير و بالفرد المحرم، فهو سقوط و لكنه ليس للموافقة حتى يلزمه ان يكون متعلق الامر المقدمي هو غير المقيد بالموصلة.

(2) و حاصله ان الحصر المذكور لم يكن حصرا لجميع موارد سقوط الامر حتى يكون ما ذكر- في قوله: قلت- نقضا عليه، بل الحصر انما كان بالنسبة إلى ما يستند إلى المكلف، فإن سقوط الامر المرتبط بكونه سقوطا مستندا إلى المكلف ينحصر فيما ذكرنا فيكون سقوطه بفعل الغير خارجا عن موضوع الحصر، و اما سقوطه بالفرد المحرم فقد مر- فيما سبق- انه انما يسقط بالفرد المحرم لتحمله لملاك الوجوب، و لكن من حيث وجود المانع لا يمكن ان يكون مشمولا للامر لوجود المانع، فسقوطه بالفرد المحرم انما هو لأن في الفرد المحرم الغرض الداعي للوجوب، و لا شبهة ان الفرد المحرم كالفرد المحلل في تحملهما لما هو الغرض الداعي للامر، و سقوط الامر بالفرد المحرم بمجرد وجوده دليل على ان نفس الفرد المحرم من دون انتظار للايصال يسقط به

ص: 200

استدلال صاحب الفصول (قده) على وجوب المقدمة الموصلة

و قد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه، حيث قال بعد بيان أن التوصل بها إلى الواجب، من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب، ما هذا لفظه (1) و الذي يدلك على هذا يعني

______________________________

الوجوب، فلا بد و ان يكون الفرد المحلل بمجرد اتيانه يسقط به الوجوب من دون انتظار لترتب ذي المقدمة عليه.

و بالجملة: لا يعقل ان يكون الفعل الاختياري من المكلف مسقطا للامر الموجه اليه إلّا بان يكون نفس فعله متحملا للغرض الداعي إلى الامر. و قد اعترف المورد:

بانه في فعل المقدمة قبل الاتيان بذيها يسقط الامر، و هذا كاف في كون متعلق الامر نفس ما فيه الغرض الذي باتيانه يوجب سقوط الامر لاستيفاء الغرض من الامر به، و هذا مراده من قوله: «نعم لا محيص» إلى آخر كلامه.

(1) قد ذكر- اولا- صاحب الفصول ان قيد التوصل للمقدمة من قبيل شرط الوجود، و هو الذي يلحقه الوجوب من المقيد به و المشروط له.

و ظاهر كلام الفصول ان نفس التوصل إلى الواجب الذي لا يتحقق الّا بترتب الواجب هو الذي ينتزع منه القيد الذي تقيدت به المقدمة الواجبة بالوجوب الغيري.

و يرد عليه لزوم الدور من ذلك فان وجود الواجب النفسي اذا كان به يتم انتزاع الايصال للمقدمة التي يسري اليها الوجوب من الواجب النفسي، فسريان الوجوب إلى المقدمة المتوقف على وجوب ذيها يتوقف على وجود الواجب النفسي الذي به يتم قيد المقدمة الواجبة بالوجوب الغيري، لأن ايصال المقدمة انما يتحقق انتزاعه بواسطة ترتب ذي المقدمة و تحققه في الخارج، فوجوب المقدمة متوقف على وجود ذيها، و وجود الواجب بحسب الواقع موقوف على وجود المقدمة التي يكون الامر بها و وجوبها هو سبب ايجادها، فيلزم توقف وجوب المقدمة- المتوقف عليه وجود الواجب النفسي- على وجود الواجب النفسي و هذا دور واضح.

ص: 201

.....

______________________________

و لزوم رجوع شرط الوجوب إلى شرط الوجود، فان وجوب الواجب النفسي من قبيل شرط الوجوب للواجب الغيري، مضافا إلى محذور لزوم ترشح الوجوب الغيري من الواجب النفسي إلى الواجب النفسي ايضا، لتوقف قيد مقدمته الواجبة بالوجوب الغيري عليه، و جزء المقدمة الواجبة واجب- ايضا- إمّا بما بما له من حصة الوجوب المتعلق بالمجموع، أو لأنه له وجوب غيري آخر مترشح من الوجوب النفسي أو الوجوب الغيري لكونه مقدمة للمقدمة، و لا اشكال في وجوب مقدمة المقدمة بمناط وجوب المقدمة نفسه، فيكون الواجب النفسي، اذا كان لوجوده دخل في انتزاع عنوان الموصلية للمقدمة- مترشحا اليه وجوب غيري من وجوبه النفسي أو من الوجوب الغيري المتعلق بالمقدمة فيكون واجبا بوجوبين، و هذا مما لا يعقل الالتزام به، و لذلك التزم بتأويله و تفسيره- بما لا يلزم عليه شي ء من ذلك- شيخنا آية المحققين (قدس سره): بان الشرط و هو التوصل بالمقدمة إلى الواجب لا ينتزع من الواجب النفسي حتى ترد هذه المحاذير، بل ينتزع من كون المقدمة بالغة حدا بحيث لا بد من ترتب الواجب النفسي عليها، و بهذا يندفع عنه المحذوران و غيرهما من المحاذير التي ترد عليه بناء على كون وجود الواجب شرطا في انتزاع عنوان الايصال و الموصلية فلا تغفل. فعلى هذا صح ان يقول صاحب الفصول ان التوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود دون ما كان بالنسبة إلى المقدمة من قبيل شرط الوجوب، كنفس وجوب ذي المقدمة فانه من قبيل شرط الوجوب للمقدمة الذي لا يعقل ان يلحقه الوجوب الا من حيث ان ذاته وجوب، و لا يعقل ان يرد الوجوب على الوجوب، بل لو امكن ان يرد الوجوب على الوجوب لما امكن ان يلحقه وجوب من قبل وجوب المقدمة، اذ المفروض انه شرط وجوبها، و لا يعقل ان يترشح الوجوب لمقدمة الوجوب- كما مر- ثم شرع في استدلاله على كون التوصل بالمقدمة من قيودها و شرائطها، و ان الواجب هو المقدمة المقيدة بالتوصل بها إلى ذي المقدمة و هي المسماة

ص: 202

الاشتراط بالتوصل أن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور (1)، و أيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم أريد الحج، و أريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب، دون ما لم يتوصل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الامر بمثل ذلك، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا، أو على تقدير التوصل بها إليه، و ذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه و وجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه (2)، و أيضا

______________________________

بالمقدمة الموصلة، فالواجب بالوجوب الغيري ليس مطلق ما يتوقف الواجب النفسي عليه بل خصوص المقدمة التي يتوصل بها اليه.

(1) لا يخفى ان صاحب الفصول قد تدرج فيما ساقه من الادلة إلى القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة، فإن دليله الاول الذي أشار اليه بقوله: «و الذي يدلك» إلى آخره محصله: انه لا اشكال ان وجوب المقدمة انما هو من باب الملازمة العقلية، فإن العقل حيث يرى ان وجود ذي المقدمة يتوقف على وجود مقدمته، و حيث ان المقدمة موصلة و غير موصلة- فوجوب المقدمة الموصلة هي القدر المتيقن من حكم العقل بالملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها.

و محصل هذا الدليل هو ان القدر المتيقن من حكم العقل هو حكمه بوجوب المقدمة الموصلة.

و كلامه هذا و ان كان لا يخلو من نقاش لأن القدر المتيقن انما هو في غير الاحكام العقلية، فإن الاحكام العقلية لا بد من وضوح موضوع حكمها بحيث لا تردد فيه و لا إجمال، فلا بد و ان يكون مراده ان غير المقيد بالايصال لا يرى العقل بينه و بين ذيه ملازمة، إلّا انه على هذا يكون عين دليله الثالث الذي سيأتي التعرض له.

(2) هذا الدليل الثاني لصاحب الفصول على اختصاص الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة.

ص: 203

.....

______________________________

و توضيحه: انه بعد ان كان القدر المتيقن من حكم العقل هو خصوص المقدمة الموصلة، و هذا كمن قبيل الامكان الذاتي الذي ربما يكون مانع عن وقوعه- فلذلك عقبه بهذا الدليل.

و حاصله: انه بعد ان كان القدر المتيقن عند العقل هو خصوص المقدمة الموصلة فلا ينبغي ان يتوهم احد ان لهذا القدر المتيقن مانعا فانه لا مانع عند العقل و الوجدان ان يصرح الآمر: بانى اريد خصوص المقدمة الموصلة، و حكم العقل بامكان التصريح من الآمر بذلك اعظم دليل على عدم المانع من الوقوع، فاذا كانت المقدمة الموصلة هي القدر المتيقن الذي يلتزم العقل بامكان سريان الوجوب اليها و الملازمة بينها و بين وجوب الواجب النفسي، و كان العقل لا مانع عنده و لا يأبى عن تصريح الآمر الحكيم العالم بما لا مانع عن وقوعه، و ما له المانع و الذي لا يعقل هو ان يأمر بما له المانع- فالآمر الذي هو بهذه الصفة لا يرى العقل منافيا لحكمته لتصريحه باختصاص وجوبه بخصوص المقدمة الموصلة، لأن العقل لا يرى مانعا ان يقول الآمر الحكيم مصرحا بانى اريد الحج من المكلف و اريد منه المسير الذي يوصل إلى الحج.

ثم يترقى صاحب الفصول و لا يكتفي بصرف كون العقل غير آب عن ذلك.

الظاهر هذا الكلام بحسب الظاهر و في بدو التفكير غير آب عن ذلك إلى حكم العقل: بانه قد ادرك الواقع محققا و انه لا مانع من تصريح الآمر الحكيم بذلك، و لذا قال مترقيا: بل الضرورة قاضية بجواز التصريح من الآمر الحكيم بامره بخصوص المقدمة الموصلة، و وجوب المقدمة حيث كان بحكم الملازمة العقلية الموكولة إلى العقل و مدركه و انه هو الحاكم المتبع في تحديد الوجوب المقدمي.

و الذي يدلك على كونه هو الحاكم المتبع في تحديد ما هو الواجب من المقدمة- ان القول باصل الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها مستنده حكم العقل بقبح تصريح الآمر الحكيم بانى اريد الحج- مثلا- و لا اريد مقدمته، و هو المسير اليه مطلقا

ص: 204

حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب و حصوله، فلا جرم يكون التوصل بها إليه و حصوله معتبرا في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه، و صريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا بمجرد حصول شي ء آخر، لا يريده إذا وقع مجردا عنه، و يلزم منه أن

______________________________

سواء الموصلة منه و غير الموصلة، و الى هذا أشار بقوله: «كما انها قاضية يقبح التصريح بعدم مطلوبيتها»: أي مطلوبية المقدمة مطلقا سواء الموصلة و غيرها.

و أيضا يدرك العقل قبح التصريح من الآمر الحكيم: بان الايصال بالنسبة إلى المقدمة من قبيل شرط الوجوب، فتكون مطلوبة بعد ايصالها إلى الواجب، فيكون من قبيل طلب الحاصل من الحكيم و هو قبيح عليه، إلّا ان هذا الاخير ليس من منافيات الحكمة، لأن المحال من منافيات العقل لا من منافيات الحكمة، و ان منافيات الحكمة موضوعها الممكن الذي يلزم من وقوعه ما هو مناف لحكمة الحكيم، دون المحال الذي لا يعقل ان يامر به العقلاء فضلا عن موجد العقل و العقلاء. و على كل فقد أشار إلى هذا بقوله: «أو على تقدير التوصل بها اليه».

و بالجملة إذا تم كون القدر المتيقن عند العقل هو المقدمة الموصلة و انه لا يابى العقل من تصريح الآمر بخصوص الموصلة بل العقل يحكم حكما قطعيا بعدم المانع من ذلك التصريح، و ان المرجع و المتبع في مثل المقام هو حكم العقل و تحديده لما هو الواجب بالوجوب المقدمي- يتم اختصاص الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة دون مطلق المقدمة، و لذلك قال (قدس سره): «و ذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه»: أي بين وجوب ذي المقدمة «و وجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها» و انما الملازمة عنده بين وجوب ذي المقدمة و مقدماته الموصلة اليه.

ص: 205

يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه (1).

______________________________

(1) هذا هو الدليل الثالث الذي اعتمد عليه في الفصول لاختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

و حاصله: انه قد عرفت ان الحاكم باصل الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها هو العقل، و انه لا بد و ان يكون هو المرجع في تعيين الموضوع لهذه الملازمة، و العقل حيث يرى ان السبب في ارادة المقدمة عند ارادة ذيها هو كون ذي المقدمة يتوقف وجوده على وجود المقدمة. و لا اشكال ان ما يتوقف عليه وجود ذي المقدمة هو المقدمة التي يلازمها و يتعقبها وجود ذيها، و هي خصوص المقدمة الموصلة إلى الواجب دون المقدمة غير الموصلة فإنها لا يلازمها وجود الواجب و لا يتعقب وجودها وجوده، فالعقل يحكم و الوجدان يؤيده: بان ما يسرى اليه و ما كانت الملازمة بين وجوبه و وجوب الواجب هو المقدمة التي توصل إلى المطلوب دون المقدمة التي لا توصل اليه، فإن المقدمة غير الموصلة اليه لا يتوقف وجوده عليها، بل هي بالنسبة إلى الواجب كالاجنبي الذي لا ربط بينه و بين الواجب. و كما ان العقل يحكم صريحا بان لا وجوب غيري لغير المقدمة، كذلك يحكم صريحا: بان غير الموصل لا يختلف عنه فيما هو المهم من توقف وجود ذي المقدمة على ما يتوقف عليه من المقدمات، فالعقل يحكم حكما صريحا: بان الوجوب الغيري الساري من الوجوب النفسي انما يلحق المقدمة الموصلة دون غيرها، و ان الملازمة انما هي بين وجوب خصوص المقدمة الموصلة- لا مطلق المقدمة- و بين ذيها، و هذا مراده من قوله: «حيث ان المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب و حصوله»: أي و ان الغرض من وجوب المقدمة هو حصول الواجب «فلا جرم يكون التوصل بها اليه»: أي التوصل بها إلى الواجب النفسي «و حصوله»: أي و حصول الواجب النفسي يعقب حصولها «معتبرا في مطلوبيتها» و اذا انفكت عن حصول الواجب بعدها فلا تكون مطلوبة،

ص: 206

الجواب عن الوجوه

و قد عرفت بما لا مزيد عليه، أن العقل الحاكم بالملازمة دل على وجوب مطلق المقدمة، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب، فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة، لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها، و عدم اختصاصه بالمقيد بذلك منها.

______________________________

فالمقدمة غير الموصلة التي هي المنفكة عن حصول الواجب بعدها لا تكون مطلوبة، و يتمحض الطلب الغيري لخصوص المقدمة الموصلة، و لذا قال (قدس سره): «فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه»: أي عن حصول الواجب بعد وجودها.

و أيد هذه الدعوى بالوجدان- أيضا- فقال: «و صريح الوجدان قاض بان من يريد شيئا» لا يريد إلّا الشي ء المتعلق وجود ما يريده به دون غيره.

و بعبارة اخرى: ان من اراد شيئا انما يريد ما هو بالفعل مقدمة له لا ما هو بالقوة مقدمة، و المقدمة غير الموصلة و هي المجردة التي لا يتعقبها وجود الواجب هي مقدمة بالقوة لا بالفعل، و هذا مراده من قوله: «بان من يريد شيئا بمجرد حصول شي ء آخر» يكون ذلك الشي ء الآخر مجردا عما يتعقبه وجود المراد بالاصالة لا يكون ذلك الشي ء المجرد عما بالاصالة مرادا بالتبع لما هو مراد و مطلوب بالاصالة، و هو صريح قوله: «لا يريده إذا وقع مجردا عنه و يلزم منه»: أي ما ذكره من هذه البراهين المؤيدة بالوجدان «ان يكون وقوعه»: أي وقوع المطلوب بالطلب الغيري متصفا بكونه واقعا «على وجه المطلوب منوطا بحصوله»: أي بحصول الواجب النفسي بعقبه و ملازما له.

ص: 207

و قد انقدح منه، أنه ليس للامر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح، و أن دعوى أن الضرورة قاضية بجوازه مجازفة، كيف يكون ذا مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلا كما عرفت (1).

______________________________

(1) و حاصل ما يريد ان يقوله ردا على صاحب الفصول ما أشار اليه: بانه لا يعقل ان يكون الداعي لايجاب المقدمة الاثر المترتب عليها و ان ترتب الواجب على المقدمة ليس اثر جميع أجزاء المقدمة بل هو اثر مجموعها مجتمعة، فعليه يختص الوجوب بخصوص العلة التامة، و الحال انه من المسلم ان المعد و السبب و الشرط كل واحد منها له وجوب في عرض وجوب الآخر، فلا بد و ان يكون الداعي إلى وجوب كل جزء من أجزاء المقدمة في عرض الآخر هو الاثر المترتب على كل من أجزاء المقدمة دون الاثر المترتب على جميعها، و ليس هو إلّا حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة، و ليس الاثر الداعي إلى وجوب المقدمة هو ترتب الواجب الذي هو جميع المقدمات حال كونها مجتمعة.

نعم هذا الاثر و هو حصول ما لولاه لما امكن الحصول بمنزلة المقتضي للوجوب المقدمي لا يؤثر مع وجود المانع عن تأثيره كما في الفرد المحرم.

فثبت مما ذكرنا: ان مناط الوجوب المقدمي موجود في مطلق المقدمة لا في خصوص الموصلة منها، و اذا كان الاثر الداعي إلى الوجوب- الذي هو المناط- موجودا في مطلق المقدمة لا وجه لأن يكون مختصا بخصوص بعض افرادها و هي الموصلة، و اذا كان المناط موجودا في مطلق المقدمة فلا يصح من الآمر الحكيم التصريح بتخصيص الوجوب بخصوص الموصلة. و دعوى صاحب الفصول ان الضرورة قاضية بقبح التصريح بتخصيص الوجوب بخصوص الموصلة دعوى تشبه الجزاف، و لذا قال (قدس سره): «و ان دعوى ان الضرورة قاضية بجوازه مجازفة كيف يكون ذا»: أي جواز التصريح بتخصيص الوجوب بخصوص الموصلة «مع

ص: 208

نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما، و عدم حصوله في الاخرى، من دون دخل لها في ذلك أصلا، بل كان بحسن اختيار المكلف و سوء اختياره، و جاز للآمر أن يصرح بحصول هذا المطلوب في إحداهما، و عدم حصوله في الاخرى، بل من حيث أن الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب، و إنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه، كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعي، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة، فضلا عن كونها مطلوبة، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت اليها، كما لا يخفى (1)

______________________________

ثبوت الملاك في الصورتين»: أي في المقدمة مطلقا من دون تخصيص لها ببعض افرادها و هي خصوص الموصلة.

(1) حاصل نعم: ان هناك فرقين بين المقدمة الموصلة و غير الموصلة، و يجوز تصريح الآمر بها لكنها لا يعقل ان تكون هي الغرض الداعي لوجوب المقدمة ليختص الوجوب بخصوص الموصلة دون مطلق المقدمة.

الأول: ان التفاوت بين الموصلة و غيرها هو حصول المطلوب بعد الموصلة و عدم حصول المطلوب بعد غير الموصلة، من دون دخل لهذا التفاوت في ما هو المناط في وجوب المقدمة، فإن هذا الفرق بينهما راجع إلى حسن اختيار المكلف و سوء اختياره في المقدمة الاختيارية. و حيث كان ترك المطلوب بالاصالة إلى حسن اختيار المكلف و سوء اختياره يجوز للآمر ان يصرح بان الغرض الذي دعا لايجاب المقدمة هو ان يتمكن بها من حصول الواجب، و اذا لم يحصل المطلوب في احداهما و هو المقدمة غير الموصلة و يحصل بعد احداهما و هو المقدمة الموصلة فيجوز للآمر ان يصرح

ص: 209

فافهم (1).

______________________________

بحصول المطلوب في احداهما و عدم حصول المطلوب في احداهما. هذا هو الفرق الاول.

الفرق الثاني: انه لا يخفى ان المطلوب الغيري طلبه تبعي للمطلوب النفسي، فالمطلوب بالاصالة هو الواجب النفسي و الواجب الغيري انما طلب بالتبع للواجب النفسي. و حيث لم يحصل المطلوب النفسي بعد المقدمة غير الموصلة و كان المنظور اليه هو المطلوب بالاصالة و لم يحصل المطلوب بالاصالة بعد المقدمة غير الموصلة، فيجوز للآمر التصريح بان المطلوب لم يحصل لانه هو اساس هذه الارادات التبعية من دون التفات منه إلى المقدمة و ما هو الغرض الذي دعا إلى وجوبها اصلا. و هناك تصريح آخر لو التفت الآمر اليه لصرح به و هو ان المقدمة المطلوبة قد حصلت كما ينبغي ان تحصل، إلّا انه لا فائدة في حصولها كذلك لأن المطلوب بالاصالة لم يحصل.

(1) لعله يشير إلى انه بعد الاعتراف بان الملحوظ بالاصالة هو حصول المطلوب النفسي و المقدمة ملحوظة بالاجمال و بالتبع، و لا بد ان يكون ما بالتبع انما كان ملحوظا و مرادا لتوقف ما بالاصالة عليه، و ما بالاصالة انما يتوقف على ما اوصل اليه دون غير الموصل.

و الجواب عنه: ان هذا الاعتراف لا يقتضي ان يكون الواجب بالتبع هو خصوص الموصلة و ان كان ما بالاصالة انما يتوقف على ما اوصل اليه، اذ لا يعقل ان يكلف المولى عبده باكثر مما لو كان هو الفاعل بالمباشرة.

و لا اشكال وجدانا ان من اراد شيئا متوقفا على مقدمات تتعلق ارادة المريد بمقدماته التي بها تخرج القدرة من حد ما بالقوة إلى ما بالفعل، و لا يعقل ان تتعلق ارادته بخصوص الموصلة منها، اذ وصف ايصالها الذي هو العنوان لها انما يتحقق بعد حصول المقدمة الاخيرة سواء في الاختياريات و في التوليديات، و لا بد في العنوان

ص: 210

إن قلت: لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية دون الاخرى، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية و عدمها، و جواز التصريح بهما، و إن لم يكن بينهما تفاوت في الاثر، كما مر (1).

______________________________

المتعلق للارادة تكوينا أو تشريعا ان يكون معلوما بحيث يستطيع ايجاده متعنونا بعنوانه، و لا يعقل ايجاد المقدمات ما عدا الاخيرة متعنونة بعنوانها بعد ان كان عنوانها متوقفا على ما يحصل بعد تحققها، فالمباشر نفسه انما تتعلق ارادته الغيرية بما له عنوان معلوم يتحقق بتحقق الفعل الذي يكون العنوان منطبقا عليه حال وجوده، و ليس هو إلّا المقدمة التي بها يتمكن من حصول الواجب دون المقدمة الموصلة اليه، فاذا كان المولى نفسه انما تتعلق ارادته بخصوص ما كان اثره التمكن دون الايصال فكيف امره الغيري المتوجه إلى غيره متعلقا بخصوص الموصلة؟

(1) حاصل ان قلت: انه لا اشكال في ان هناك تفاوتا بين المقدمة الموصلة و غير الموصلة، فإن المقدمة الموصلة تتصف بكونها توصلا إلى الواجب دون غير الموصلة فإنها لا تتصف بذلك، فلم لا يكون المناط في طلبها و عدم طلب غير الموصلة هو هذا الاتصاف؟ و ان كانت المقدمة غير الموصلة كالموصلة في اثر آخر هو التمكن بهما من حصول ما لولاها لما امكن حصوله.

و بعبارة اخرى: انه لم لا يكون الداعي للطلب هو وصف الايصال دون التمكن؟ و اذا كان هذا الوصف هو الداعي للطلب جاز ان يصرح الآمر: بان المطلوب هو خصوص الموصلة، و لذا عند عدم حصوله جاز ان يصرح الآمر: بان المطلوب لم يحصل غير ملتفت إلى ما حصل من المقدمات، اذ لا فائدة في غير الموصلة.

و على كل فالمطلوبية و جواز التصريح بان المطلوب هو المقدمة الموصلة تدور مدار صحة اتصاف الموصلة بالايصال دون غير الموصلة، فهذا الاتصاف هو الذي يدور مداره الطلب دون التمكن الذي هو اثر لكل مقدمة سواء أوصلت ام لم توصل،

ص: 211

قلت: إنما يوجب ذلك تفاوتا فيهما، لو كان ذلك لاجل تفاوت في ناحية المقدمة، لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا كما هاهنا ضرورة أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب، و ترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها، و كونها في كلا الصورتين على نحو واحد و خصوصية واحدة، ضرورة أن الاتيان بالواجب بعد الإتيان بها بالاختيار تارة، و عدم الاتيان به كذلك أخرى، لا يوجب تفاوتا فيها، كما لا يخفى (1). و أما ما أفاده (قدس سره): من أن مطلوبية المقدمة

______________________________

و هذا مراده من قوله: «و ان لم يكن بينهما تفاوت في الاثر» كما مر، و مراده بالاثر الذي لا تفاوت فيه بين الموصلة و غيرها هو التمكن.

(1) و حاصل ان قلت: انه لا ننكر ان هناك تفاوتا بين الموصلة و غيرها في اتصاف احداهما بالايصال دون الاخرى، إلّا ان هذا الاتصاف لا يعقل ان يكون هو الداعي للمطلوبية، فإن الداعي إلى مطلوبية شي ء انما يكون ما يتحمله ذات ما هو المطلوب من الاثر، و أما ما هو خارج عن ذات المطلوب و ان اوجب فرقا في الوصف إلّا انه لا يكون هو الداعي و الغرض الذي تدور المطلوبية مداره، و الاثر الذي يتحمله ذات المقدمة هو التمكن، و اما الاتصاف بالموصلية و عدمها فهو إنما ينتزع عما هو خارج عن ذات ما هو المقدمة، فانه ينتزع عن حصول الواجب عقبها و عدم حصوله، و هذا امر خارج عما تتحمله المقدمة. و قد عرفت انه لا يكون الداعي و الغرض الا ما تتحمله ذات المقدمة، ففي ناحية ما هو مقدمة و ما تتحمله المقدمة من الاثر الذي هو التمكن لا فرق بين الموصلة و غيرها، فانه كما يحصل التمكن بالموصلة يحصل بغير الموصلة أيضا، ففي ذات ما هو مقدمة متحملة لأثر يترتب على ذاتها لا فرق بينهما اصلا، و هذا هو مراده من قوله: «انما يوجب ذلك»: أي هذا الفرق الذي ذكر بين الموصلة و غيرها «تفاوتا فيهما»: أي في فردي المقدمة من الموصلة و غيرها «لو كان ذلك لاجل تفاوت في ناحية المقدمة» و ما يمكن ان تتحمله من الاثر على ذاتها

ص: 212

حيث كانت بمجرد التوصل بها، فلا جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبرا فيها.

ففيه: إنه إنما كانت مطلوبيتها لاجل عدم التمكن من التوصل بدونها، لا لاجل التوصل بها، لما عرفت من أنه ليس من آثارها، بل مما يترتب عليها أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى، و هي مبادئ اختياره،

______________________________

و ينتزع من نفس ذاتها «لا فيما إذا لم يكن» هذا الفرق «في ناحيتها اصلا كما هاهنا» فإن الفرق بين الموصلة و غير الموصلة يعود إلى ما هو خارج عن ذاتها، فإن وصف الايصال انما ينتزع من المقدمة بلحاظ ترتب الواجب عليها، و هو امر خارج عن ذات ما هو مقدمة و ما يمكن ان تتحمله ذاتها من الاثر، و هذا مراده من قوله:

«ضرورة ان الموصلية انما ينتزع من وجود الواجب و ترتبه عليها» و هو امر خارج عما يمكن ان يكون اثرا لذات ما هو مقدمة، اما في الاثر الذي ينتزع من ذات المقدمة و هو الذي يترتب على نفس ذاتها فلا فرق بينهما، و لذا قال: «من دون اختلاف في ناحيتها»: أي في ناحية ما هي مقدمة «و كونها في كلتا الصورتين على نحو واحد و خصوصية واحدة» و لما عرفت: من عدم الفرق بين الموصلة و غيرها في الاثر الذي تتحمله نفس المقدمة و ينتزع من ذاتها لا عما هو خارج عن ذاتها، و ان الايصال و عدم الايصال انما ينتزع عما هو خارج عن ذاتها، و مثل هذا لا يوجب تفاوتا في المقدمة، فإنها انما تكون واجبة و مرادة بالطلب الغيري لأجل الاثر الذي يترتب على ذاتها و ينتزع من نفس ذاتها، و في مثل هذا الاثر لا فرق بين الموصلة و غيرها، و لذا قال (قدس سره): «ضرورة ان الاتيان بالواجب بعد الاتيان بها بالاختيار» و هذا مما يتعلق بالواجب: أي الاتيان بالواجب بالاختيار بعد الاتيان بهما «و عدم الاتيان به»: أي بالواجب «كذلك اخرى»: أي بالاختيار هذا الامر الذي هو خارج عن ذات المقدمة «لا يوجب تفاوتا فيها»: أي في الأثر المترتب على ذاتها و ينتزع منه.

ص: 213

و لا يكاد يكون مثل ذا غاية لمطلوبيتها و داعيا إلى إيجابها (1)، و صريح الوجدان إنما يقضي بأن ما أريد لاجل غاية، و تجرد عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، كيف و إلا يلزم أن يكون وجودها من قيوده، و مقدمة لوقوعه على نحو يكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو و وجوبها. و هو كما ترى، ضرورة أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية، بحيث كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية،

______________________________

(1) قد عرفت ما اجابه المصنف عن الاستدلال الاول و الثاني الذي اعتمد عليهما صاحب الفصول في اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة، و اراد ان يشير إلى الجواب عن استدلاله الثالث فأشار اليه بقوله: «و اما ما افاده» إلى آخره.

و حاصل الجواب: ما مر منه- أيضا- بان الداعي إلى الايجاب لا يكون إلّا للاثر الذي يترتب على نفس المقدمة و ليس إلّا التمكن، و أما الايصال فليس من آثار ما هو مقدمة لازما لها و منتزعا عن نفس ذاتها، لوضوح انه قد يترتب على ما هو المقدمة فيما إذا اختار المكلف اتيان الواجب بعد الاتيان بها، و قد لا يترتب فيما إذا لم يختر المكلف اتيان الواجب بعد الاتيان بالمقدمة. ثم أشار إلى ان الذي يمكن ان يكون غرضا لايجاب المتعلق بشي ء انما هو ما يترتب على نفس الشي ء و ملازما للانتزاع عن نفس ذاته- دون الشي ء الذي قد يترتب عليه و قد لا يترتب- و هو التمكن فانه لا يفارق ذات ما هو مقدمة اصلا، بخلاف الايصال فانه قد يترتب عليها و قد لا يترتب عليها و مثل هذا لا يكون هو الغرض الداعي لايجابها و لذا قال: «و لا يكاد يكون مثل ذا»: أي الايصال الذي قد يترتب عليها و قد لا يترتب «غاية لمطلوبيتها و داعيا إلى ايجابها».

ص: 214

و إلا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها، كما أفاده (1).

______________________________

(1) توضيح ما يريده هو انه بناء على كون الايصال هو الغاية التي تدعو إلى ايجاب المقدمة، إلّا ان مثل هذه الغاية الداعية إلى ايجاب المقدمة للواجب النفسي لا يعقل ان تدعو إلى ايجاب المقدمة المقيدة بالايصال اليه و ان يكون وجود الغاية من قيود ما امر به لأجلها، اذ يلزم من كون وجود الغاية دخيلة في كون ما طلب لأجلها مقيدا بوجودها ان يلحق نفس الغاية حصة من الطلب الغيري المتعلق بما طلب لأجلها فتكون نفس الغاية مطلوبة بطلب غيري، فاذا كانت هي- أيضا- مطلوبة بطلب نفسي يلزم ان تكون مطلوبة بطلبين و هو اجتماع المثلين، و يلزم الدور أيضا، و ليس تقريره:

بان طلب المقدمة المقيدة بالواجب النفسي الذي هو الغاية لوجوبها انما يحصل و يترشح من الطلب و الوجوب المتعلق بالغاية التي هي الواجب النفسي، فوجوب المقدمة انما نشأ من وجوب ذي المقدمة، فاذا ترشح وجوب ذي المقدمة من وجوب المقدمة لكونه قيدا للمقدمة لزم توقف وجوب ذي المقدمة على وجوب نفسه و ترشح وجوبه من وجوب نفسه، فإن تقريره بهذا النحو واضح البطلان، لأن الوجوب المترشح من وجوب ذي المقدمة وجوب غيري، و هذا الوجوب الغيري يتوقف على الوجوب النفسي، و الوجوب النفسي لذي المقدمة لا يتوقف على هذا الوجوب الغيري ليلزم الدور.

نعم، يلزم ان ينشأ من هذا الوجوب النفسي لذي المقدمة وجوب غيري آخر يسري إلى نفس ذي المقدمة أيضا، و ليس هذا من الدور، بل تقريره بما ذكرنا: من ان اتصاف المقدمة بكونها موصلة يتوقف على تحقق الواجب النفسي، فانه بتحققه يحصل وصف الموصلية للمقدمة و يصح انتزاع الموصلية لها، فانتزاع الموصلية للمقدمة يتوقف على وجود الواجب النفسي خارجا فيتوقف وجود المقدمة خارجا على الواجب النفسي، و من الواضح ان وجود الواجب النفسي يتوقف على وجود

ص: 215

.....

______________________________

مقدمته فيكون وجود الواجب النفسي- بما انه مقدمة- موقوفا عليه، و بما انه هو ذو المقدمة و وجوده يتوقف على المقدمة فيكون موقوفا، فيكون وجود الواجب النفسي موقوفا على ما يتوقف عليه و هو الدور. و أيضا يلزم التسلسل لانه إذا كان الواجب النفسي هو بنفسه مقدمة و كل مقدمة واجب فهي مقيدة بالايصال إلى الواجب النفسي، فيكون له ايصال و لهذا الايصال- أيضا- ايصال و هلم جرا، و الى هذه المحاذير أشار بقوله: «كيف و إلّا يلزم ان يكون وجودها من قيوده و مقدمة لوقوعه على نحو يكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو و وجوبها»: أي تكون الملازمة بين وجوب الواجب النفسي و وجوب المقدمة المقيدة بالايصال اليه، الذي لازم ذلك ان يكون نفس الواجب من قيود مقدمته «و هو كما ترى»: أي الالتزام بهذا واضح البطلان.

إلّا انه لا يخفى ان هذا انما يلزم إذا كان نفس الواجب النفسي سببا لانتزاع الموصلية للمقدمة، و اما إذا كان انتزاع الموصلية من نفس المقدمة البالغة إلى حد يترتب عليها الواجب النفسي فلا تلزم هذه المحاذير، إلّا ان ظاهر كلام الفصول يعطي ان انتزاع الموصلية للمقدمة مأخوذ من نفس تحقق الواجب النفسي.

و على كل فقد ظهر ان الغاية في المقام- و هي الواجب النفسي- لا يعقل ان تكون قيدا لذي الغاية- و هي المقدمة- بحيث يكون تخلف وجود الغاية: أي الواجب النفسي عن ذي الغاية: أي الواجب الغيري موجبا لعدم وقوع ذي الغاية: أي المقدمة على صفة الوجوب: أي يلزم ان يكون وقوع المقدمة من دون ترتب الواجب النفسي عليها موجبا لأن تقع على غير صفة المطلوبية، و تكون مطلوبيتها منوطة بترتب الغاية لوجوبها و هو الواجب النفسي عليها، و لازم هذا ان تكون الغاية من قيود ذي الغاية و ان تكون مطلوبة بطلبه، و هذا لازم لا يعقل الالتزام به لما عرفت: من لزوم المحاذير المتقدمة. و حيث لا يمكن الالتزام بذلك فلا بد و ان لا يكون وقوع المقدمة على وصف المطلوبية منوطا بترتب الواجب النفسي عليها، و لذا «فلا يكون وقوعه»: أي وقوع

ص: 216

و لعل منشأ توهمه، خلطه بين الجهة التقييدية و التعليلية (1)، هذا مع ما عرفت من عدم التخلف هاهنا، و أن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي، فافهم و اغتنم (2).

ثم إنه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها، إلا فيما إذا رتب عليه الواجب لو سلم أصلا، ضرورة أنه و إن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة، إلا أنه ليس لاجل اختصاص

______________________________

ذي الغاية و هو المقدمة و الواجب بالوجوب الغيري «على هذه الصفة» على اتصافها بكونها مطلوبة و واجبة بالوجوب الغيري «منوطا بحصولها»: أي منوطا بحصول الغاية التي هي الواجب النفسي.

(1) توضيحه: انه بناء على كون الايصال الى ذي المقدمة هو الغاية الداعية إلى وجوبها لكنها لا بد و ان تكون حيثية تعليلية، و لا يعقل ان يكون الايصال حيثية تقييدية لما عرفت: من ان لازم كونه حيثية تقييدية لزوم كون الواجب النفسي قيدا لمقدمته، و هو باطل كما عرفت.

(2) أي ان كون الايصال هو الغاية الداعية إلى ايجاب المقدمة لا نسلمه، لما عرفت:

من انه ليس باثر كل واحدة من المقدمات، و ما عرفت أيضا: من انه لا يعقل ان يكون الغرض الداعي إلى ايجاب شي ء الا ما يترتب على نفس ذلك الشي ء لا ما هو خارج عنه، و ترتب الواجب ليس مما يترتب على ذات ما هو مقدمة لانه امر خارج عنها، و ان الغرض و الاثر الذي تتحمله المقدمة و يكون بحيث لا ينفك انتزاعه عن ذاتها هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب، فالغاية الداعية إلى ايجاب المقدمة هو هذا الاثر لا إيصالها إلى الواجب، و لذا قال: «مع ما عرفت من عدم التخلف هاهنا» فإن الغاية التي دعت إلى ايجاب المقدمة لم تتخلف عنها و هي حصول ما لولاه لما امكن التوصل إلى الواجب، و ليس ايصال المقدمة هي الغاية حتى تكون من الموارد التي لا بد و ان تكون الغاية حيثية تعليلية لا تقييدية.

ص: 217

الوجوب بها في باب المقدمة، بل لاجل المنع عن غيرها المانع من الاتصاف بالوجوب هاهنا، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) قد تقدم انه من جملة ما استدل به صاحب الفصول على اختصاص الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة: انه يجوز للمولى التصريح بالمنع و تحريم كل مقدمة من مقدمات الواجب عدا المقدمة الموصلة، فله ان يصرح: باني لا اريد غير المقدمة الموصلة و لا تأتي بغير الموصلة من مقدمات الواجب، و جواز تصريح المولى كذلك دليل على انحصار الوجوب بالمقدمة الموصلة فلا تقع المقدمة غير الموصلة مصداقا للواجب.

و حاصل ما يريد ان يشكله المصنف على الفصول انه:

اولا: لا نسلم ان للمولى التصريح بذلك، و سيأتي بيان وجهه في قوله: «مع ان في صحة المنع منه كذلك نظرا».

و ثانيا: انه لو جاز للمولى ان يصرح كذلك و يمنع عن جميع مقدمات الواجب ما عدا المقدمة الموصلة، فانه مع منعه كذلك ينحصر الواجب من المقدمات بخصوص المقدمة الموصلة و لا تكون غير الموصلة مصداقا للواجب، إلّا ان السبب في كون الواجب حينئذ منحصرا في المقدمة الموصلة و ان غير الموصلة ليست مصداقا للواجب هو منع المولى عن غير المقدمة الموصلة، لا ان غير الموصلة ليست بذاتها مصداقا للواجب، بل هي كالموصلة في المقدمية لكن منع المولى عنها صار مانعا عن صدق الواجب عليها.

فقد عرفت ان شمول دليل الوجوب المقدمي للمقدمة يتوقف على ثبوت المقتضي في المقدمة و عدم المانع، و عدم شمول الوجوب المقدمي للمقدمة غير الموصلة انما هو للمنع عنها لا لانه ليس في ذاتها مقتضي للشمول، فهي مع منع المولى عنها تكون كالدابة المغصوبة منع الغصب فيها عن كونها مصداقا للواجب الغيري. و في المقام يكون منع المولى عنها مانعا عن ان تكون مصداقا للواجب المقدمي لا لانه ليس في

ص: 218

مع أن في صحة المنع منه كذلك نظرا، وجهه أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة و عصيانا، لعدم التمكن شرعا منه، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الاتيان به. و بالجملة يلزم أن يكون الايجاب مختصا بصورة الاتيان، لاختصاص جواز المقدمة بها و هو محال فإنه يكون من طلب الحاصل المحال، فتدبر جيدا (1).

______________________________

ذاتها اقتضاء لأن تكون مصداقا للواجب و لان يشملها الوجوب المقدمي، فانحصار مصداق الواجب بخصوص المقدمة الموصلة انما هو لأجل منع المولى عن ساير المقدمات فلا يستطيع الوجوب المقدمي ان يشملها، و لا يبقى من المقدمات سالما عن المانع غير المقدمة الموصلة فينحصر الوجوب بها، و لذا قال فانه «و ان لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة»: أي حين تصريح المولى بالمنع عن غير الموصلة لا يكون الواجب المقدمي غير الموصلة: أي يكون الواجب المقدمي منحصرا بالموصلة و لا يكون الواجب الا الموصلة، و هو معنى قوله: لا يكون الواجب حينئذ غير الموصلة: أي لا يكون الواجب الا المقدمة الموصلة، فغير الموصلة من المقدمات لا يكون واجبا و ينحصر الوجوب بالمقدمة الموصلة «إلّا انه ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدمة»: أي ان هذا الانحصار بالموصلة ليس لأن الاقتضاء منحصر في المقدمة الموصلة، بل لأجل وجود المانع عن تأثير المقتضي في غير المقدمة الموصلة، بل سبب الانحصار بالموصلة هو المنع عن غير الموصلة، و لذا قال: «بل لأجل المنع عن غيرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا».

(1) هذا هو وجه عدم التسليم، و انه لا يصح التصريح من المولى بالمنع عن جميع المقدمات الا المقدمة الموصلة، و أنها هي الواجبة و المرادة لا غير و غيرها من المقدمات ممنوع عنه، لأن هذا التصريح يستلزم ان لا يكون ترك الواجب مخالفة و عصيانا، و يلزم من ذلك طلب الحاصل أيضا.

ص: 219

.....

______________________________

و بيانه و توضيحه: انه لا ريب فيما إذا انحصر الواجب بالمقدمة المحرمة لا يعقل ان يبقى على وجوبه، و اذا لم يبق الواجب على وجوبه لا يكون مخالفته و تركه عصيانا.

و من الواضح- أيضا- انه إذا منع المولى عن كل مقدمة ما عدا المقدمة الموصلة يكون لنا فردان: من المقدمة المحرمة و هي غير الموصلة، و المقدمة الموصلة و هي الفرد الجائز من المقدمة. و لا اشكال أيضا ان ترتب الواجب على المقدمة هو الذي يوجب انتزاع الموصلية لها، فالفرد الجائز من المقدمة يتوقف جوازه على اتيان الواجب، لأن الشرط في جواز هذا الفرد من المقدمة يتوقف على الايصال المتوقف على اتيان الواجب النفسي. و من الواضح- أيضا- ان وجوب الواجب النفسي يتوقف على ان له مقدمة جائزة، ففي حال عدم الاتيان بالواجب النفسي تكون جميع مقدماته محرمة، لأن مقدمته الجائزة الشرط في تحققها اتيانه لأنها خصوص المقدمة الموصلة المتوقفة على الايصال المتوقف على اتيان الواجب النفسي، ففي حال عدم الاتيان بالواجب النفسي تكون جميع مقدماته محرمة، اذ مقدمته الجائزة انما تتحقق باتيانه و المفروض انه في حال عدم الاتيان به، ففي حال عدم الاتيان به حيث جميع مقدماته في الفرد المحرم لا بد و ان لا يبقى الواجب في هذا الحال على وجوبه لانحصار مقدماته بالفرد المحرم، و اذا لم يبق الواجب على وجوبه لا تكون مخالفته عصيانا، لانه من انحصرت مقدماته بالفرد المحرم يكون غير مقدور عليه، اذ الممنوع شرعا كالممتنع عقلا و الى هذا أشار بقوله: «وجهه انه يلزم ان لا يكون ترك الواجب حينئذ»: أي حين التصريح بالمنع عن جميع مقدماته غير الموصلة، و هي جميع مقدماته في حال عدم الاتيان بالواجب النفسي، لأن مقدمته الجائزة و هي الموصلة تختص بصورة الاتيان بالواجب النفسي الذي يتوقف عليه وصف الايصال الذي هو الشرط في جواز المقدمة التي هي الموصلة، و لذا قال: «لاختصاص جواز مقدمته بصورة الاتيان به».

و قد أشار إلى لزوم طلب الحاصل بقوله: «و بالجملة» إلى آخره.

ص: 220

ثمرة القول بوجوب المقدمة الموصلة

بقي شي ء و هو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة، هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب، بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده، فإن تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا، ليكون فعلها محرما، فتكون فاسدة، بل فيما يترتب عليه الضد الواجب، و مع الاتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا، فلا يكون فعلها منهيا عنه، فلا تكون فاسدة (1).

______________________________

و توضيحه: انه إذا كانت المقدمة الجائزة هي خصوص الموصلة المتوقف وصف الايصال لها على اتيان الواجب النفسي، و من الواضح ان الجواز شرط في تعلق الوجوب و الطلب بها، اذ لا يعقل ان يتعلق الوجوب بما هو المحرم، و قد عرفت ان جوازها مشروط بالايصال المتوقف على اتيان الواجب، و في فرض الاتيان بالواجب لا يعقل ان يتعلق الطلب بالمقدمة، لأن لازم الاتيان بالواجب الاتيان بمقدمته المتوقف وجوده عليها، و اذا حصل مع الواجب مقدمته يكون طلبها من طلب الحاصل، و هذا هو مراده بقوله: «و بالجملة يلزم ان يكون الايجاب مختصا بصورة الاتيان لاختصاص جواز المقدمة بها» لأن المقدمة الجائزة هي خصوص الموصلة المتوقفة على الايصال المتوقف على اتيان الواجب الملازم له الاتيان بالمقدمة أيضا، و طلب المقدمة بعد الاتيان بها طلب الحاصل و هو محال و لذا قال: «و هو محال فانه يكون» الطلب للمقدمة بعد الاتيان بالواجب الملازم للاتيان بالمقدمة أيضا «من طلب الحاصل المحال».

(1) لقد ذكر صاحب الفصول ثمرة للقول بالمقدمة الموصلة(1): و هي صحة العبادة على القول بالموصلة، و بطلانها على القول بوجوب المقدمة مطلقا بلا تخصيص لها بالموصلة. و توضيح هذه الثمرة يحتاج إلى بيان امرين:

ص: 221


1- الفصول الغروية: 78- 79.

.....

______________________________

الاول: ان هذه الثمرة انما تكون ثمرة بناء على ان ترك الضد من مقدمات وجود الضد الآخر. أما إذا قلنا: بان ترك الضد ليس من مقدمات وجود الضد الآخر بل هو ملازم لما هو المقدمة فلا تتأتى هذه الثمرة كما سيتضح.

الثاني: ان النقيضين لا يجتمعان و لا يرتفعان، و متى ارتفعا لا يعقل ان يكونا نقيضين، فاذا وجبت الإزالة تجب مقدماتها للملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدماته، فاذا قلنا بان الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة فيكون المقدمة للازالة هو ترك الصلاة الموصل إلى الازالة، لا ترك الصلاة مطلقا أو صل أو لم يوصل.

فاذا يكون الواجب بالوجوب المقدمي هو خصوص ترك الصلاة الموصل إلى الازالة.

و من الواضح انه إذا كان ترك الصلاة الموصل هو الواجب فيكون نقيض هذا الترك الموصل هو المحرم و هو ترك هذا الترك الموصل، أمّا فعل الصلاة فلا يكون نقيضا لترك الصلاة الموصل لما عرفت: من ان النقيضين لا يرتفعان، و هذان يرتفعان لإمكان أن لا يتحقق ترك الصلاة الموصل، و لا فعل الصلاة بان يترك الصلاة، و لا يفعل الازالة فيتحقق الترك غير الموصل. و اذا جاز ارتفاعهما فلا يكونا نقيضين، فوجوب ترك الصلاة الموصل لا يقتضي حرمة الصلاة، إذ الواجب انما يدل على النهي عن نقيضه لا عن غير نقيضه، و فعل الصلاة قد عرفت انه ليس بنقيض لترك الصلاة الموصل فلا يكون محرما، و اذا لم يكن محرما يقع صحيحا، لأن النهي في العبادة يدل على فسادها اما العبادة غير المنهي عنها لا يعقل ان تقع فاسدة، فاذا فعل الصلاة و ترك الازالة لا يكون اتيانا بعبادة منهي عنها، لأن الترك الذي يجب مقدمة للازالة هو ترك الصلاة الموصل للازالة، و اذا فعل الصلاة لا تتحقق الازالة لأن الضدين لا يجتمعان، و اذا لم تتحقق الازالة فلا يكون هناك ترك للصلاة موصلا للازالة لأن الصلاة انما رفعت تركها و لم يرتفع بها الترك الموصل للازالة، بل الذي ارتفع بالصلاة الترك غير الموصل و لم يكن الترك غير الموصل واجبا حتى يكون فعل

ص: 222

.....

______________________________

الصلاة محرما، و ليس فعل الصلاة نقيضا للترك الموصل و الّا لما جاز ارتفاعهما، مع انك قد عرفت أنهما يرتفعان بالترك للصلاة غير الموصل إلى الازالة.

و قد أشار إلى الامر الاول بقوله: «بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده» و قد أشار إلى الامر الثاني بقوله: «فإن تركها»: أي ترك الصلاة «على هذا القول»: أي على القول بالمقدمة الموصلة «لا يكون مطلقا واجبا» لأن الواجب من المقدمة هو خصوص الموصلة، فترك الصلاة الموصل هو الواجب دون ترك الصلاة مطلقا أوصل أو لم يوصل، فلا يكون ترك الصلاة مطلقا واجبا «ليكون فعلها محرما» لأن الامر بالشي ء يقتضي النهي عن نقيضه، فاذا كان ترك الصلاة مطلقا واجبا كان نقيض هذا الترك الواجب هو فعل الصلاة، فيكون محرما و النهي في العبادة يدل على الفساد «فتكون» الصلاة «فاسدة» لأنها منهي عنها، بل الواجب على القول بالموصلة هو خصوص ترك الصلاة الموصل إلى الازالة، و هو المراد من قوله: «بل فيما ترتب عليه الضد الواجب و مع الاتيان بها»: أي مع الاتيان بالصلاة «لا يكاد يكون هناك ترتب»: أي لا يكاد يكون قد ارتفع بالصلاة الترك المترتب عليه الازالة حتى يكون ما به يرتفع الواجب من النقيض محرما، بل المرتفع بفعل الصلاة هو ترك الصلاة المطلق دون ترك الصلاة الموصل و لذا قال:

«فلا يكون»: أي ترك الصلاة «مع ذلك»: أي مع الاتيان بفعل الصلاة «واجبا» اذ الواجب ترك الصلاة الموصل دون مطلق ترك الصلاة، فلم يرتفع بالصلاة نقيضا واجب، و اذا لم يرتفع بها نقيضا واجب «لا يكون فعلها منهيا عنه» فلا تكون فاسدة.

بالجملة: ان الترك الموصل نقيضه ترك الترك الموصل لا فعل الصلاة و لا ترك الصلاة غير الموصل، لأن كلا من هذين يرتفع مع ارتفاع الترك الموصل أيضا، فإن فعل الصلاة و الترك الموصل يرتفعان بالترك غير الموصل، و الترك غير الموصل و الترك الموصل يرتفعان بفعل الصلاة و متى ارتفعا لا يعقل ان يكونا نقيضين، و اذا لم تكن

ص: 223

الاشكال على الثمرة

و ربما أورد على تفريع هذه الثمرة بما حاصله بأن فعل الضد، و إن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة، بناء على المقدمة الموصلة، إلا أنه لازم لما هو من أفراد النقيض، حيث أن نقيض ذاك الترك الخاص رفعه، و هو أعم من الفعل و الترك الآخر المجرد، و هذا يكفي في إثبات الحرمة، و إلا لم يكن الفعل المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا، لأن الفعل ايضا ليس نقيضا للترك، لأنه أمر وجودي، و نقيض الترك إنما هو رفعه، و رفع الترك إنما يلازم الفعل مصداقا، و ليس عينه، فكما أن هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل، فكذلك تكفي في المقام، غاية الامر أن ما هو النقيض في مطلق الترك، إنما ينحصر مصداقه في

______________________________

نقيضا للترك الواجب لا تكون منهيا عنها فلا تقع فاسدة، هذا إذا قلنا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة. و اما إذا قلنا بوجوب المقدمة مطلقا و قلنا بان ترك الضد من مقدمات وجود الضد الآخر فلا محالة تقع الصلاة فاسدة، لانه إذا وجبت الازالة وجبت مقدماتها مطلقا سواء الموصلة منها و غير الموصلة، فاذا كان من مقدمات الازالة ترك ضدها و هي الصلاة فيكون ترك الصلاة مطلقا واجبا، و اذا كان ترك الصلاة- مطلقا- واجبا كان نقيضه و هو فعل الصلاة محرما، و اذا كان فعل الصلاة محرما تقع فاسدة لأن النهي في العبادة يدل على فسادها.

و قد اتضح- مما مر من الكلام-: ان هذه الثمرة تحتاج إلى امرين غير الامرين اللذين اشرنا اليهما: و هما دلالة الامر بالشي ء على النهي عن نقيضه، و كون النهي في العبادة يدل على فسادها، و حيث كان هذان الأمران من المسلمات لم يشر اليهما المصنف.

ص: 224

الفعل فقط، و أما النقيض للترك الخاص فله فردان، و ذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) حاصل هذا الايراد: ان الصلاة تقع على كل حال فاسدة سواء قلنا بخصوص المقدمة الموصلة أو قلنا بالاعم من الموصلة و غيرها.

و بيانه: ان فعل الصلاة على أي حال ليس نقيضا لما هو المقدمة الواجبة و انما هو ملازم لما هو النقيض و اذا كانت ملازمته بناء على القول بغير الموصلة موجبة لبطلانه تكون ملازمته على القول بالموصلة ملازمة لبطلانه أيضا، فإن الترك للصلاة إذا كان واجبا لانه مقدمة لفعل الازلة فنقيضه ترك هذا الترك لأن نقيض كل شي ء رفعه، فنقيض الفعل رفعه و هو الترك و لكن نقيض الترك هو ترك الترك دون الفعل، لأن ترك الترك هو رافع الترك دون الفعل. نعم، يلازمه الفعل، فما هو النقيض للترك واقعا هو ترك الترك، ففيما إذا كان ترك الصلاة مطلقا هو الواجب فنقيضه ترك هذا الترك و هو ملازم دائما لفعل الصلاة. و قد اعترف صاحب الفصول: بان مثل هذه الملازمة تقتضي حرمة الصلاة و النهي عنها الموجب لفسادها، و مثل هذه الملازمة موجود أيضا فيما لو قلنا بان الواجب خصوص المقدمة الموصلة، فإن ترك الصلاة الموصل هو الواجب و نقيضه الواقعي الرافع له هو ترك هذا الترك الموصل، و هذا النقيض الذي هو المحرم يلازمه احد شيئين على سبيل منع الخلو إما فعل الصلاة أو ترك الصلاة غير الموصل، فانه بفعل الصلاة يتحقق ترك ترك الصلاة الموصل، و بترك الصلاة غير الموصل يتحقق ترك ترك الصلاة الموصل، فاذا كان ترك الصلاة الموصل واجبا يكون نقيضه الحقيقي المحرم هو ترك هذا الترك الموصل، و كان اللازم لهذا الترك المحرم على سبيل منع الخلو الفعل أو الترك غير الموصل.

و قد اعترف بان: الفعل للصلاة الملازم للترك المطلق محرم لأجل الملازمة فبحكم هذا الاعتراف لا بد و ان يقول: بان فعل الصلاة الذي يلازمه ترك الموصل أيضا محرم، و إذا كان محرما فلا بد من القول بفساده. فاي فائدة في هذه الثمرة بعد ان كانت

ص: 225

.....

______________________________

الصلاة تقع فاسدة على كل حال سواء قلنا بالمقدمة الموصلة أو قلنا بالاعم من الموصلة و غير الموصلة؟

نعم، هناك فرق بين كون الواجب هو مطلق المقدمة و بين المقدمة الموصلة: و هو ان الترك الواجب في المقدمة المطلقة الذي نقيضه ترك هذا الترك يكون له- دائما- مصداق واحد و هو فعل الصلاة، لأن نقيض ترك الصلاة الذي هو الواجب مقدمة للازالة هو ترك ترك الصلاة، و ترك ترك الصلاة يلازم- دائما- فعل الصلاة و لا مصداق آخر له، و على المقدمة الموصلة فنقيض الواجب الذي هو ترك الصلاة الموصل هو ترك هذا الترك الموصل، و لهذا النقيض المحرم فردان على سبيل منع الخلو: اما الصلاة أو ترك الصلاة غير الموصل. و هذا الفرق لا يجدي فرقا فيما هو المهم في المقام، لأن المهم في المقام هو كون الملازمة بين ما هو النقيض الواقعي و الفعل تقتضي حرمة الفعل، فكون الملازم لما هو المحرم الذي هو محرم أيضا- تارة فرد واحد و اخرى فردان- لا يكون فارقا.

قوله: «حيث ان نقيض ذاك الترك الخاص رفعه، و هو أعم من الفعل و الترك الآخر» تفسيره ما بيناه: من ان نقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل، و لهذا النقيض فردان يلازم احدهما على سبيل منع الخلو: و هو فعل الصلاة، و ترك الصلاة غير الموصل، فهو اعم من كل واحد منهما. فمراده من الفعل هو فعل الصلاة، و من الترك الآخر ترك الصلاة غير الموصل، و قد أشار إلى ان هذا المقدار من الملازمة يكفي في وقوع الصلاة محرمة بقوله: «و هذا يكفي في اثبات الحرمة» و أشار إلى الاستدلال على كون هذا المقدار كاف بقوله: «و إلّا لم يكن الفعل المطلق محرما»: أي فعل الصلاة المطلق الذي هو الملازم لما هو النقيض للترك المطلق الواجب بناء على القول بغير الموصلة: أي ان الملازمة لما هو النقيض المحرم اذا كانت كافية في وقوع فعل الصلاة محرما فلا فرق بين ملازمة و ملازمة.

ص: 226

قلت و أنت خبير بما بينهما من الفرق، فإن الفعل في الاول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض، من رفع الترك المجامع معه تارة، و مع الترك المجرد أخرى، و لا تكاد تسري حرمة الشي ء إلى ما يلازمه، فضلا عما يقارنه أحيانا.

نعم لا بد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف حكمه، لا أن يكون محكوما بحكمه، و هذا بخلاف الفعل في الثاني، فإنه بنفسه يعاند الترك المطلق و ينافيه، لا ملازم لمعانده و منافيه، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما، لكنه متحد معه عينا و خارجا،

______________________________

و قد ذكرنا: ان نقيض الترك هو ترك الترك دون الفعل، لأن نقيض الشي ء رفعه و رفع الترك ترك الترك دون الفعل، لأن الفعل مفهوم وجودي و النقيض الحقيقي مفهوم عدمي، فنقيض الوجود- مثلا- اللاوجود و نقيض اللاوجود و هو رفع اللاوجود يلازم الوجود، و قد أشار إلى ما ذكرنا بقوله: «لأن الفعل أيضا»: أي على القول بوجوب المقدمة مطلقا الذي اعترف الفصول بفساد الصلاة، بناء عليه فعل الصلاة أيضا ليس هو النقيض لما هو الواجب، بل هو ملازم لما هو النقيض لأن الفعل «ليس نقيضا للترك» الذي هو الواجب حتى يكون الفعل محرما لهذه المناقضة مشيرا إلى التعليل بقوله: «لانه امر وجودي»: أي فعل الصلاة امر وجودي و نقيض ترك الصلاة مفهوم عدمي و هو ترك ترك الصلاة دون الفعل، و أشار إلى النقيض بلازم الفعل بقوله: «و رفع الترك انما يلازم الفعل مصداقا و ليس عينه» مفهوما، إذ لا يعقل ان يكون المفهوم الوجودي عين المفهوم العدمي، و قد أشار إلى الفرق بين النقيض على المقدمة الموصلة و بينه على القول بغير الموصلة بقوله:

«غاية الامر» إلى آخر كلامه.

ص: 227

فإذا كان الترك واجبا، فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا، فتدبر جيدا (1).

______________________________

(1) حاصل ما يريد: ان ما اورد على هذه الثمرة ليس بوارد.

و بيانه: ان الفعل بالنسبة إلى نقيض المقدمة الموصلة الذي هو ترك الترك الموصل من مقارناته لا من ملازماته، فانه قد اعترف ان لترك الترك الموصل فردين: الفعل، و الترك غير الموصل.

و من الواضح: ان المتلازمين في الوجود فضلا عن المتقارنين فيه لا يسرى حكم احدهما إلى الآخر لوضوح ان الحكم تابع لمصالح و مفاسد، و حيث لم يكن في الملازم مصلحة أو مفسدة تدعو إلى الحكم فيه لا يعقل ان يكون محكوما بمثل حكم ملازمه، لانه يكون من المعلول بلا علة. نعم التلازم بينهما يقتضي ان يكون الملازم لما فيه الحكم الالزامي لا حكم له لا حكما الزاميا منافيا لحكم ملازمه، لعدم امكان ان يكون حكم احد المتلازمين في الوجود الوجوب و حكم الثاني الحرمة فانه من التكليف بما لا يطاق، و لا يعقل ان يكون محكوما بالاباحة لأن الترخيص فيه لغو بعد ان كان ملازمه لازم الوجود أو العدم.

إلّا ان هذا انما هو في المتلازمين في الوجود لا في المتقارنين الذي ينفك احدهما عن الآخر فانه لا سراية بينهما لانها غير متحققة في المتلازمين، فكيف تكون في المتقارنين المنفك احدهما عن الآخر؟ و حيث لا تلازم في الوجود بينهما فلا يقتضي ان لا يكون احدهما محكوما بما ينافي الحكم في الآخر.

و قد اعترف المورد: بان الفعل لا يلازم ما هو النقيض، لانه قال ان لنقيض ترك الترك الموصل فردين: الفعل، و الترك غير الموصل، فلا ملازمة في الوجود بين فعل الصلاة و ترك ترك الصلاة الموصل إلى الازالة، و حيث لا يكونا من المتلازمين فلا بد و ان يكونا من المتقارنين، و اذا كانا من المتقارنين فلكل واحد منهما حكمه، فاذا كان ترك الترك الموصل حراما لا يكون مقارنه و هو فعل الصلاة حراما، بل له حكمه

ص: 228

.....

______________________________

حيث لا يكون محرما، فلا مانع من وقوعه اذ لا مانع من صحته الا الحرمة و هي غير موجودة، و الى هذا أشار بقوله: «فإن الفعل في الاول» و هو كون الواجب المقدمي خصوص المقدمة الموصلة فإن الفعل على هذا «لا يكون إلّا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك»: أي ترك ترك الصلاة الموصل الذي هو المحرم و الذي هو «المجامع معه»: أي مع الفعل «تارة و مع الترك المجرد» من الايصال: أي الترك غير الموصل «و اخرى» فاذا كان هذا النقيض تارة يكون مع الفعل و اخرى مع الترك غير الموصل فالنقيض و الفعل منفكان فهما متقارنان لا متلازمان.

ثم أشار إلى ما ذكرنا: من ان المتلازمين في الوجود لا يسري حكم احدهما إلى الآخر فضلا عن المتقارنين بقوله: «و لا يكاد تسري حرمة الشي ء إلى ما يلازمه» إلى آخر عبارته.

فاتضح: انه بناء على المقدمة الموصلة لا مانع من وقوع الصلاة صحيحة بخلاف ما اذا كان الواجب هو الترك المطلق، فإن الواجب المقدمي الذي تتوقف عليه الازالة هو ترك الصلاة مطلقا سواء اوصل أو لم يوصل، فإن الفعل يكون محرما لانه اما ان يكون هو النقيض لعدم الصلاة بناء على التحقيق: من ان نقيض الشي ء ما يطارده مطاردة بحيث لا يمكن ان يجتمعا و لا يمكن ان يرتفعا، فالوجود بنفسه نقيض اللاوجود كما أن اللاوجود بنفسه نقيض الوجود، لا ان اللاوجود نقيض الوجود و اما نقيض اللاوجود فهو اللالاوجود. و كيف يمكن ان يكون السلب نقيضا للسلب؟ بل الايجاب هو المناقض للسلب.

فعلى هذا يكون فعل الصلاة بنفسه نقيضا لعدم الصلاة، و الى هذا أشار بقوله:

«و هو بخلاف الفعل في الثاني فانه بنفسه يعاند الترك المطلق و ينافيه لا ملازم لمعانده و منافيه» ثم لو تمشينا على ظاهر المشهور: من ان نقيض اللاوجود هو اللالاوجود دون الوجود كان المطارد و المزاحم للا وجود هو الوجود فلا بد و ان يكون النقيض الذي هو اللالاوجود متحدا عينا و خارجا مع الوجود لانه به يرتفع اللاوجود،

ص: 229

تقسيم الواجب إلى الاصلي و التبعي
اشارة

و منها: تقسيمه إلى الاصلي و التبعي، و الظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الاصالة و التبعية في الواقع و مقام الثبوت، حيث يكون الشي ء تارة متعلقا للارادة و الطلب مستقلا، للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه، كان طلبه نفسيا أو غيريا، و أخرى متعلقا للارادة تبعا لارادة غيره، لاجل كون إرادته لازمة لارادته، من دون التفات إليه بما يوجب إرادته، لا بلحاظ الاصالة و التبعية في مقام الدلالة و الاثبات، فإنه يكون في هذا المقام أيضا تارة مقصودا بالافادة، و أخرى غير مقصود بها على حدة، إلا أنه لازم الخطاب، كما في دلالة الاشارة و نحوها.

و على ذلك، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، و اتصافه بالاصالة و التبعية كليهما، حيث يكون متعلقا للارادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدمة، و أخرى لا يكون متعلقا لها كذلك عند عدم

______________________________

و مثل هذا الاتحاد و العينية الخارجية موجبة للحرمة، فالفعل و ان لم يكن هو النقيض بحسب الاصطلاح إلّا انه هو المتحد مع ما هو الحرام عينا و خارجا، و مثله لا بد و ان يكون حراما و منهيا عنه و الى هذا أشار بقوله: «فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما» إلى آخر كلامه، لأن مفهوم النقيض هو ترك ترك الصلاة، و مفهوم الفعل هو مفهوم الصلاة، و مفهوم الصلاة ليس هو مفهوم ترك الصلاة، إلّا ان هذا المفهوم السلبي متحد مع هذا المفهوم الوجودي في العين و الخارج و مثل هذا الاتحاد موجب للحرمة، و لذا قال: «فاذا كان الترك واجبا فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا».

فاتضح: انه إذا كانت المقدمة الواجبة بالوجوب الغيري هي الاعم من الموصلة و غيرها تقع الصلاة فاسدة، فالثمرة صحيحة.

ص: 230

الالتفات إليه كذلك، فإنه يكون لا محالة مرادا تبعا لارادة ذي المقدمة على الملازمة.

كما لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالاصالة، و لكنه لا يتصف بالتبعية، ضرورة أنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم تكن فيه المصلحة النفسية، و معها يتعلق الطلب بها مستقلا، و لو لم يكن هنا شي ء آخر مطلوب أصلا، كما لا يخفى.

نعم لو كان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة، اتصف النفسي بهما أيضا، ضرورة أنه قد يكون غير مقصود بالافادة، بل أفيد بتبع غيره المقصود بها، لكن الظاهر- كما مر- أن الاتصاف بهما إنما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه، و إلا لما اتصف بواحد منهما، إذا لم يكن بعد مفاد دليل، و هو كما ترى (1).

______________________________

(1) لا يخفى انه كان ينبغي تقديم هذا المبحث و ذكره في الامر الثالث الذي اعده لذكر تقسيمات الواجب، و لعل السبب في تأخير هذا عن الأمر الرابع هو ان الامر الرابع لما كان لبيان ما هو المتعلق للامر الغيري لذا ناسب ان يذكره بلا فصل بينه و بين البحث المتعلق لتقسيم الواجب إلى النفسي الغيري، فأوجب ذلك الالحاق تاخير هذا التقسيم.

و على كل فمن جملة تقسيمات الواجب تقسيمه: إلى الاصلي و التبعي.

و قد وقع الخلاف في المنظور في هذا التقسيم بين المصنف و صاحبي الفصول و القوانين.

فإن الظاهر منهما: ان هذا التقسيم بلحاظ مرحلة الاثبات و الدليل الدال على الوجوب.

ص: 231

.....

______________________________

و عند المصنف: ان هذا التقسيم انما هو بلحاظ مرحلة الثبوت و الواقع في حقيقة الوجوب دون مرحلة الاثبات و الدليل الدال عليه.

فقد عرّف صاحب الفصول الوجوب الاصلي 19]: بانه ما وقع في خطاب مستقل.

و مراده من الخطاب المستقل هو الدليل الدال على الوجوب، فيعم الدلالة اللفظية على الوجوب و اللبيّة. و الوجوب التبعي: هو الواجب الذي لم تكن دلالته بخطاب مستقل. و لا يخفى ان هذا التعريف للاصلي و التبعي يقتضي ان يكون كل من الواجب النفسي و الغيري اصليا تارة و تبعيا اخرى، لأن الواجب النفسي تارة يكون مدلولا عليه بخطاب مستقل، و اخرى يكون بتبع خطاب كما في دلالة الالتزام و دلالة الإشارة المفهومة من الآيتين على اقل الحمل و هما قوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ 20] و قوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً(1).

و الواجب الغيري مثله فانه أيضا تارة يدل عليه خطاب مستقل كقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ 22] و اخرى يكون مفهوما بتبع خطاب آخر كسائر مقدمات الواجب التي لم يدل عليها دليل.

و قد عرّفه في القوانين 23]: بان الواجب الاصلي هو الذي استفيد وجوبه من اللفظ مع قصد المتكلم اياه. فيشمل الاصلي على هذا التعريف الدلالة الالتزامية لانها دلالة لفظية مقصودة للمتكلم. و التبعي هو الذي لم يستفد من اللفظ أو استفيد من اللفظ مع عدم قصد المتكلم اياه كدلالة الإشارة.

ص: 232


1- الاحقاف: الآية 15.

.....

______________________________

و لا يخفى: انه بين تعريف الفصول و تعريف القوانين عموم من وجه، فإن الدلالة الالتزامية على ما ذكر في الفصول من الواجب التبعي، و على ما في القوانين من الواجب الاصلي، و الخطاب المستقل المستفاد من غير اللفظ هو واجب اصلي عند الفصول و واجب تبعي عند القوانين لانه لم يستفد من اللفظ. و دلالة الإشارة واجب تبعي عند الاثنين و مثل ساير الواجبات المستفادة بخطاباتها اللفظية هي اصلية عند الاثنين أيضا.

و المصنف يرى: ان التقسيم إلى الاصلية و التبعية ينبغي ان يكون بلحاظ مرحلة الثبوت و ما هو عليه واقع الوجوب في نفسه من دون ملاحظة الدليل الدال على الوجوب، فالفرق بين الاصلي و التبعي عند المصنف: ان الاصلي ما كان ملحوظا مستقلا و ملتفتا اليه، فانه إذا كان كذلك يكون منظورا اليه بالاصالة للحاظه بالاستقلال و الالتفات اليه في مقام اللحاظ و الارادة، و الواجب التبعي هو الواجب الذي لا يكون منظورا اليه بالاصالة و غير ملتفت اليه في مقام تعلق الارادة.

و لا اشكال في ان الواجب الغيري يكون تارة منظورا و ملتفتا اليه كما في قوله تعالى:

إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ و اخرى لا يكون منظورا اليه بالاصالة و غير ملتفت اليه الّا تبعا، كما في ارادة المقدمات تبعا لإرادة الواجب النفسي مع عدم التفات الآمر إلى ما يتوقف عليه الواجب النفسي. فالواجب الغيري يكون تارة اصليا و اخرى تبعيا، و اما الواجب النفسي فحيث انه لا بد و ان يكون منظورا و ملتفتا اليه فلا يكون الّا اصليا، و لا يعقل ان يكون تبعيا، فالواجب الاصلي يكون غيريا و نفسيا و الواجب التبعي لا يكون إلّا غيريا.

و قد استدل المصنف على كون التقسيم ينبغي ان يكون في هذه المرحلة لا في مرحلة الاثبات و الدلالة بما أشار اليه: من ان التقسيم لا بد ان يكون حاصرا لجميع افراد الواجب.

ص: 233

ثم إنه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة، فإذا شك في واجب أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي، و يترتب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي،

______________________________

و حيث جعل في الفصول الاصالة و التبعية موضوعها الخطاب و الدلالة المستفادة تارة من اللفظ و اخرى من اللب و الاجماع، و في القوانين جعل الاصالة و التبعية موضوعها الدلالة اللفظية المقصودة و دلالة الدليل غير المقصودة.

فيرد عليهما ان الواجب الغيري- غير المستفاد من دلالة دليل بل كانت ارادته ارادة ارتكازية غير ملتفت اليها اصلا- يكون خارجا عن هذا التقسيم عند الفصول و عند القوانين، و اما إذا كان التقسيم كما ذكرنا بلحاظ مرحلة الثبوت فلا يشذ عن هذا التقسيم فرد من افراد الواجب كما هو واضح، و قد أشار إلى أن التقسيم ينبغي ان يكون بلحاظ مرحلة الثبوت و ما هو الواقع الذي به يمتاز الاصلي عن التبعي و التبعي عن الاصلي بقوله: «و الظاهر ان يكون هذا التقسيم بلحاظ الاصالة و التبعية في الواقع و مقام الثبوت» إلى آخر كلامه، و قد أشار إلى انه لا ينبغي ان يكون التقسيم بلحاظ مرحلة الاثبات كما في الفصول و القوانين بقوله: «لا بلحاظ الاصالة و التبعية في مقام الدلالة و الاثبات» إلى آخر كلامه. قوله: «كما في دلالة الإشارة و نحوها»: أي كالدلالة الالتزامية. و قد أشار إلى الدليل على ان هذا التقسيم لا ينبغي ان يكون في مرحلة الاثبات و الدلالة و إلّا لا يكون حاصرا لجميع افراد الواجب بقوله: «لكن الظاهر- كما مر- ان الاتصاف بهما»: أي بالاصالة و التبعية «انما هو في نفسه»: أي انما هو في نفس ما للوجوب الاصلي و التبعي من الصفة المميزة لكل منهما عن الآخر «لا» ان يكون «بلحاظ حال الدلالة عليه» و هي مرحلة الاثبات «و إلّا لما اتصف بواحد منهما»: أي من الاصالة و التبعية «إذا لم يكن بعد مفاد دليل» كما في الواجبات الارتكازية غير الملتفت اليها «و هو كما ترى»: أي انه حيث كان تقسيما للواجب فلا بد و ان يكون حاصرا.

ص: 234

كسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمية نعم لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي، و إن كان يلزمه، لما كان يثبت بها إلا على القول بالاصل المثبت، كما هو واضح (1)

______________________________

(1) حاصله: انه إذا شك في واجب انه اصلي أو تبعي فهل الاصل يثبت الاصالة أو يثبت التبعية.

و توضيحه: انه إذا كانت التبعية هي الارادة غير الملتفت اليها فتكون الاصلية على هذا خلاف الاصل، لانها تكون امرا وجوديا فانها تكون هي الارادة الملتفت اليها، و حيث كانت الارادة متيقنة لفرض كونه واجبا يقينا فالشك يكون في كون هذه الارادة المتيقنة هل كانت ملتفتا اليها و الالتفات امر وجودي و مقابله امر عدمي فالاصالة امر وجودي و التبعية امر عدمي، فباصالة عدم الالتفات يثبت انها ارادة تبعية و هذا معنى قوله: «إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به ارادة مستقلة»:

أي انه هو الواجب الذي لم تكن ارادته ملتفتا اليها.

و اما ظاهر كلامه فلا يخلو عن شي ء فانه باصالة عدم تعلق ارادة مستقلة به لا يثبت ان الارادة المتعلقة به ارادة غير مستقلة الا على القول بالاصل المثبت، و مثل التبعية في المقام ساير الموضوعات المتقومة بامر وجودي محرز و امر عدمي يحرزه الاصل، كالماء القليل إذا كان المراد من القلة هو عدم كريته، فإن موضوع الانفعال كونه ماء غير كر و قد احرزت مائيته بالوجدان و عدم كريته بالاصل، و الى هذا أشار بقوله: «كسائر الموضوعات المتقومة بامور عدمية» هذا إذا كانت التبعية امرا عدميا و مقابلها و هي الاصالة امرا وجوديا و هي الارادة الملتفت اليها.

و اما إذا كانت التبعية امرا وجوديا بان كانت هي الارادة التي تنشأ من ارادة اخرى، و تقابلها الاصالة و هي الارادة التي لم تنشأ من ارادة اخرى- فينقلب مؤدى الاصل لأن التبعية تكون امرا وجوديا، فإنها هي الارادة الناشئة من ارادة اخرى و الاصل عدم نشوئها من ارادة اخرى، فالاصل يثبت انها ارادة اصلية لأنها هي

ص: 235

فافهم (1).

______________________________

الارادة التي لم تنشأ من ارادة اخرى، و كونها ارادة محرزة بالوجدان و عدم نشوئها محرز بالاصل بخلاف التبعية فإن قيدها امر وجودي و هو النشوء من ارادة اخرى و الاصل عدمه فالاصل عدم التبعية و الى هذا أشار بقوله: «نعم لو كان التبعي امرا وجوديا خاصا غير متقوم» بامر «عدمي» بان كان هو الارادة الخاصة و هي التي تنشأ من ارادة اخرى فلا يكون الواجب التبعي مما يتقوم بامر عدمي «و ان كان يلزمه»: أي و ان كان الامر العدمي ملازم لهذا الامر الوجودي و هو كون هذه الارادة لم ينظر اليها بالاستقلال، فإن الاصل و ان كان يجري في عدم استقلال هذه الارادة إلّا انه لا يثبت كون هذه الارادة قد نشأت من ارادة اخرى الّا على القول بالاصل المثبت، و لذا قال: و ان كان يلزمه «لما يثبت بها»: أي باصالة هذا الملازم العدمي الامر الوجودي «الا على القول بالاصل المثبت».

(1) يمكن ان يكون إشارة إلى انه هذه الاصالة لا تثبت شيئا و ان كانت امرا عدميا إذا كان الامر العدمي قد اخذ على سبيل التوصيف، فإن التبعية و ان كانت هي الارادة التي لم تنشأ من ارادة اخرى فانه لا يقين سابق بمثل هذه الارادة. نعم لو كان القيد العدمي مأخوذا على سبيل القضية الحينية لا التوصيفية لكان هذا الاصل نافعا و غير مثبت.

و ممكن ان يكون إشارة إلى ما قاله اخيرا: من ان هذا الامر العدمي ملازم للامر الوجودي و انه بناء على القول بالاصل المثبت يثبت به الامر الوجودي، فيكون امره بالفهم إشارة إلى انه إذا كان هذا الامر العدمي ملازما للامر الوجودي لا يثبت الامر الوجودي به و ان قلنا بحجية الاصل المثبت، لأن القائل بالاصل المثبت يقول بانه يثبت بالاصل لازم ما يجري فيه الاصل، كاثبات عنوان التاخر باصالة عدم الحدوث و لا يقول بانه يثبت بالاصل الجاري في الملازم العدمي ملازمه الوجودي- كما في

ص: 236

تذنيب في بيان الثمرة

تذنيب في بيان الثمرة و هي في المسألة الاصولية كما عرفت سابقا ليست إلا أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد، و استنباط حكم فرعي، كما لو قيل بالملازمة في المسألة، فإنه بضميمة مقدمة كون شي ء مقدمة لواجب يستنتج انه واجب (1).

______________________________

المقام- فإن الامر العدمي الجاري فيه ملازم له امر وجودي، و مثل هذا لا يقول به القائل بحجية الاصل المثبت.

(1) هذا التذنيب لبيان ما هو ثمرة البحث عن مقدمة الواجب، و حيث قد تقدم انها من المسائل الاصولية و المسألة الاصولية ما تقع نتيجتها في طريق الاستنباط- فالثمرة المهمة لهذه المسألة هي وقوعها في طريق الاستنباط، فانه على القول بالملازمة بين وجوب شي ء و وجوب مقدماته يستنتج أن مقدمة الواجب واجبة بوجوب شرعي:

بان يقال هذه مقدمة واجب، و كل مقدمة واجب يلزم من وجوب ذيها وجوبها شرعا، فهذه يلزم من وجوب ذيها وجوبها شرعا، و هذه هي الثمرة المهمة لهذه المسألة التي يستنبط منها وجوب كل مقدمة واجب بالوجوب الشرعي.

و الفرق بين الاستنباط و التطبيق: هو ان الشكل في التطبيق نتيجته تحقيق موضوع لحكم مستنبط لدليله كقاعدة طهارة مشكوك الطهارة، فإن حكم مشكوك الطهارة مستنبط من دليله، فاذا شك في طهارة يقال: هذا مشكوك الطهارة، و كل مشكوك الطهارة طاهر، فهذا طاهر، بخلاف الاستنباط فإن نتيجته ليس تحقيق موضوع لحكم مستنبط بل نتيجته نفس استنباط الحكم في مقام، فإن الثابت بهذه المسألة هو الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته، فيثبت بواسطة هذه الملازمة نفس وجوب المقدمة فالوجوب هو الحكم الذي استنبط بواسطة ثبوت الملازمة، و لذا قال (قدس سره): «فانه بضميمة مقدمة» و تلك المقدمة هي الصغرى التي يوجب

ص: 237

و منه قد انقدح، أنه ليس منها مثل بر النذر بإتيان مقدمة الواجب، عند نذر الواجب، و حصول الفسق بترك الواجب بمقدماته إذا كانت له مقدمات كثيرة، لصدق الاصرار على الحرام بذلك، و عدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة (1). مع أن البرء و عدمه إنما يتبعان قصد الناذر، فلا

______________________________

انضمامها إلى ما ثبت بهذه المسألة و هي الملازمة يثبت الوجوب لمقدمة الواجب، و الصغرى هي ما أشار اليها بقوله: «كون شي ء مقدمة لواجب» و الكبرى التي هي الملازمة قد ثبتت بواسطة البحث في هذه المسألة فنتج من هذه الكبرى استنباط حكم فرعي و هو وجوب مقدمة الواجب، و لذا قال: «يستنتج انه واجب»: أي بضميمة تلك الصغرى إلى ما افادته هذه المسألة يستنتج هذا الاستنتاج.

(1) قد عرفت ان ما ذكره هو النتيجة المهمة لهذه المسألة و هو الثمرة لهذه المسألة.

و قد ذكر للبحث في هذه المسألة ثمرات ثلاث:

الاولى: بر النذر فيما لو نذر الناذر ان ياتي بواجب شرعي، فانه على القول بوجوب مقدمة الواجب يبر نذره فيما لو اتى بمقدمة واجب، و على القول بعدم وجوب المقدمة شرعا لا يكون الاتيان بمقدمة واجب مما يقع به بر النذر.

الثانية: حصول الفسق و عدم الفسق بترك واجب واحد له مقدمات عديدة، فانه بناء على القول بوجوب مقدمة الواجب تكون جميع مقدمات هذا الواجب الواحد الكثيرة كلها واجبة، فاذا تركها المكلف فقد ترك واجبات كثيرة و ليس الاصرار على الحرام الّا ترك واجبات كثيرة فيحصل موضوع الفسق و هو الاصرار على الحرام، بخلاف ما إذا قلنا بعدم وجوب مقدمة الواجب فانه لا يحصل الاصرار على الحرام إذ لم يفعل المكلف بترك الواجب إلّا حراما واحدا و هو ترك الواجب النفسي فقط، و اما مقدماته فانه و ان تركها الّا انها ليست واجبة فلم يحصل منه ترك لواجبات كثيرة حتى يتحقق موضوع الفسق و هو الاصرار على الحرام.

ص: 238

.....

______________________________

الثالثة: عدم جواز اخذ الاجرة على المقدمات للواجب النفسي و جوازها، فانه لو قلنا بوجوب مقدمة الواجب للملازمة لا يجوز ان يؤخذ عليها اجرة لعدم جواز اخذ الاجرة على الواجبات، و اذا لم نقل بوجوب المقدمة لعدم القول بالملازمة يجوز اخذ الاجرة عليها لانها لا تكون واجبة فلا يكون اخذ الاجرة عليها من اخذ الاجرة على الواجبات.

و قد أشار إلى الثمرة الاولى بقوله: «مثل برّ النذر» إلى آخر كلامه.

و الى الثانية بقوله: «و حصول الفسق» إلى آخره.

و الى الثالثة بقوله: «و عدّ جواز اخذ الاجرة» إلى آخره.

و قد ناقش في عدم هذه الثمرات من ثمرات المسألة في المقام بمناقشة واحدة تعمها و هي التي أشار اليها بقوله: و قد انقدح.

و حاصلها: ان الذي ينبغي ان يكون ثمرة للمسألة الاصولية هو وقوعها في طريق استنباط الحكم لا وقوعها في طريق تحقيق الموضوع لتطبيق الحكم المستنبط، و هذه الثمرات كلها تقع في مسألتنا في طريق تحقيق الموضوع لتطبيق الحكم المستنبط من دليله، فإن وجوب البرّ بالنذر لم يستنبط من هذه المسألة بل هذه المسألة وقعت طريقا لتحقق ما هو الموضوع لتطبيق هذا الحكم المستنبط الذي دل عليه آية وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ 24] و مثله حصول الفسق و عدمه، فإن كون الفسق يحصل بالاصرار مستنبط من دليله، و كذلك عدم جواز اخذ الاجرة و جوازه فانه حكم مستنبط من دليله، و هذه تقع في طريق تحقيق الموضوع لتطبيق هذا الحكم المستنبط، و لا ينبغي مثل هذا ان يعد اثرا مهما للمسألة الاصولية بما هي مسألة اصولية، و الّا لكان بعض مسائل الفقه من الاصول لوقوع بعضها في طريق اثبات موضوع لتطبيق مسألة فقهية اخرى،

ص: 239

برّ بإتيان المقدمة لو قصد الوجوب النفسي، كما هو المنصرف عند إطلاقه و لو قيل بالملازمة، و ربما يحصل البرء به لو قصد ما يعم المقدمة و لو قيل بعدمها، كما لا يخفى (1). و لا يكاد يحصل الاصرار على الحرام

______________________________

و الى هذا أشار بقوله: «و منه قد انقدح انه ليس منها مثل برّ النذر» إلى آخره:

أي بعد ما ذكر من كون الاثر المهم للمسألة الاصولية وقوعها في طريق الاستنباط لا التطبيق انقدح انه لا معنى لجعل هذه الامور الثلاثة من ثمرات المسألة لانها ليست استنباطا بل تطبيقا.

(1) حاصل مناقشته التي أشار اليها بقوله-: و منه انقدح انه ليس منها- كانت مناقشة كبروية، مجملها ان ما ذكر من الثمرات ليست ثمرات لمسألة اصولية فلا ينبغي ان تعد من ثمرات البحث في هذه المسألة.

و الآن شرع في المناقشة صغرويا و ان هذه الثمرات ليست بثمرات حتى للتطبيق.

و توضيحه: ان بر النذر بناء على وجوب المقدمة لا يقع باتيان المقدمة مطلقا بل هو يتبع قصد الناذر، فإن قصد الناذر بنذره اتيان واجب اعم من كونه نفسيا أو غيريا يتاتى بر النذر باتيان المقدمة، و اما إذا قصد الاتيان بواجب نفسي فلا يقع بر النذر باتيان المقدمة و ان قلنا بوجوبها للملازمة، لأن وجوبها غيري لا نفسي، و كذا إذا اطلق في نذره بالاتيان بواجب فان الاطلاق ينصرف إلى الواجب النفسي دون الغيري، و قد أشار إلى انه لا يحصل البرّ لو قصد الوجوب النفسي أو كان مطلقا في كلامه بقوله: «فلا برّ»: أي لا برّ لنذره «باتيان المقدمة لو قصد الوجوب النفسي» و أشار إلى ان الوجوب النفسي هو المتعين عند الاطلاق في كلام الناذر بقوله: «كما هو المنصرف عند اطلاقه و لو قيل بالملازمة» لأن الوجوب المستفاد بالملازمة وجوب غيري لا نفسي.

قوله: «و ربما يحصل» حاصله: ان الناذر إذا قصد بنذره الاتيان بواجب اعم من كونه شرعيا أو عقليا يحصل البر بالنذر باتيان المقدمة، و لو قلنا بعدم الملازمة بين

ص: 240

بترك واجب، و لو كانت له مقدمات غير عديدة، لحصول العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه من الواجب، و لا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا، لسقوط التكليف حينئذ، كما هو واضح لا يخفى (1). و أخذ

______________________________

وجوب الشي ء و وجوب مقدمته شرعا، لأن وجوب المقدمة عقلا مما لا يعقل انكاره.

و المحصل من هذه المناقشة ان الثمرة للمسألة لا بد و ان تكون دائرة مدارها وجودا و عدما، فالبرّ بالنذر يقتضي ان يترتب على القول بالمقدمة، و عدم البرّ به مترتب على القول بعدم الملازمة.

و قد عرفت: ان البر بالنذر يحصل و ان قلنا بعدم الملازمة و عدم البر بالنذر يحصل و ان قلنا بالملازمة، و مثل هذه الثمرة المترتبة على القول بالملازمة و عدمها لا تكون ثمرة، لما عرفت: من ان الثمرة لا بد ان تدور مدار الملازمة و عدمها. و مراده من قوله:

«يحصل البرّ به»: أي بالنذر «لو قصد ما يعم المقدمة»: أي ان كان قاصدا للاعم من الوجوب الشرعي و العقلي فانه يحصل البر بالنذر و لو قيل بعدم الملازمة.

و يمكن ان يقال: ان من جعل البرّ ثمرة في هذه المسألة قصده ان يكون الناذر قد قصد بنذره الاتيان بواجب شرعي بما للواجب الشرعي من حقيقة فانه على هذا تكون ثمرة، فلا يرد عليها الّا ما ذكره بانها من التطبيق لا من الاستنباط.

(1) هذه الثمرة الثانية قد ناقش فيها- أيضا- صغرويا، بما حاصله- و قد تقدم منه- في ان الواجب النفسي يتحقق تركه و عصيانه بترك اول مقدمة من مقدماته بحيث لا يبقى مجال لاتيان ذي المقدمة، فانه بتركها يحصل العصيان و بالعصيان يسقط التكليف للواجب، و اذا سقط الوجوب النفسي لا يبقى الوجوب الغيري لسائر مقدماته عدا المقدمة الاولى التي عصى بتركها، و الاصرار لا يتحقق بترك واجبين، و الى هذا أشار بقوله: «لحصول العصيان بترك اول مقدمة لا يتمكن معه»: أي بحيث مع ترك اول مقدمة «من الواجب»: أي الواجب النفسي، ثم أشار إلى التعليل بقوله: «و لا يكون ترك ساير المقدمات بحرام اصلا لسقوط التكليف حينئذ».

ص: 241

الاجرة على الواجب لا بأس به، إذا لم يكن إيجابه على المكلف مجانا و بلا عوض، بل كان وجوده المطلق مطلوبا كالصناعات الواجبة كفائية التي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، و يختل لولاها معاش العباد، بل ربما يجب أخذ الاجرة عليها لذلك، أي لزوم الاختلال و عدم الانتظام لو لا أخذها، هذا في الواجبات التوصلية (1).

______________________________

و الحاصل: ان الاصرار بعد ان كان لا يحصل في ترك المقدمات الكثيرة فلا يصح جعل هذا ثمرة لهذه المسألة، اذ لا يتحقق الاصرار سواء قلنا بالملازمة و وجوب المقدمات وجوبا شرعيا أو لم نقل بالملازمة فيكون وجوبها عقليا محضا.

و الاولى المناقشة في هذه الثمرة: بان ترك الواجبات الغيرية ليس من ترك الحرام الذي بالاصرار عليه يحصل الفسق، لما مر: من ان ترك الواجب الغيري لا يوجب عقوبة عليه و لا فعله يقتضي مثوبة له، و الظاهر من الحرام الموجب للفسق هو الحرام الموجب للبعد عن المولى و يستحق فاعله العقاب.

(1) هذه الثمرة الثالثة. و حاصل المناقشة- التي أشار اليها المصنف في ترتب هذه الثمرة على القول بالملازمة و عدمه-: هو انه لا ربط لجواز اخذ الاجرة بالقول بوجوب المقدمة، فانه يجوز اخذ الاجرة و مع القول بوجوب المقدمة للملازمة.

و توضيحه: ان الواجب: اما توصلي أو تعبدي، و التوصلي: اما عيني أو كفائي.

و قد ذهب المشهور إلى عدم جواز اخذ الاجرة على الواجب التوصلي العيني لوجوه عديدة ذكرت مفصلة في الفقه و كلها لا تخلو عن مناقشة.

لكن الظاهر من المصنف: انه لا يجوز اخذ الاجرة عليه لانه هو المراد بقوله:

«و اخذ الاجرة على الواجب لا بأس به إذا لم يكن ايجابه على المكلف مجانا و بلا عوض» فان مراده من الايجاب بلا عوض هو الواجب التوصلي العيني، و الّا فلا اشكال في انه إذا صرّح الشارع بعدم جواز اخذ الاجرة على واجب فلا تصح

ص: 242

.....

______________________________

الاجارة عليه، الّا انه لم نجد تصريحا بذلك من الشارع في واجب من الواجبات.

و على كل فلا اشكال إذا وجد هذا التصريح من الشارع. و اما إذا كان المانع عن اخذ الاجرة في الواجب التوصلي العيني ما ذكره من الموانع: من كونه ليس بمال، أو انه غير محترم، أو انه يكون بوجوبه مملوكا للشارع، أو انه يكون مما لا سلطة عليه، و امثال هذه الموانع المذكورة مفصلا فانها كلها مخدوشة، و اذا بطلت هذه الموانع فلا بأس بأخذ الاجرة على الواجب التوصلي العيني. و اما الواجب التوصلي الكفائي فالظاهر ان المشهور ذهبوا إلى جواز اخذ الاجرة عليه، و اليه أشار المصنف بقوله: «كالصناعات الواجبة كفائية»، اما على ما اشرنا اليه: من ان نفس الوجوب في التوصلي العيني لا يمنع من اخذ الاجرة ففي الواجب الكفائي بطريق اولى.

و الذي يشير اليه المصنف من المناط الذي بسببه ذهب المشهور إلى جواز اخذ الاجرة في الواجب الكفائي كالصناعات و امثالها: هو ان المصلحة الداعية إلى الوجوب تارة تكون داعية إلى ضرورة وجوده بما هو فعل من افعال الشخص كما في الواجبات التوصلية العينية، فكأن جهة اضافة هذا الفعل إلى الشخص و سلطنته عليه ترتفع بايجابه عليه من الشارع، و لذا ذهب المشهور إلى عدم جواز اخذ الاجرة عليه، و هذا و ان كان محل مناقشة الّا انه مع القول به لا يكون مثل هذا المانع موجودا في الواجبات الكفائية التي هي كالصناعات، فإن الداعي إلى وجوبها هي المصلحة:

بان تكون هذه الاشياء موجودة لا بما انها فعل من افعال الشخص، لأن وجوبها انما هو لأن النظام الاجتماعي البشري محتاج إلى وجودها من دون ربط لهذه المصلحة بكونها فعلا من افعال المكلف و له اضافة اليه و سلطنته عليه، فلا يزاحم هذا الوجوب الناشئ من هذه المصلحة اضافة الفعل إلى المكلف و لا سلطنته عليه، فلا مانع من جواز اخذ الاجرة عليها، بل ربما يقال: بان هذه الواجبات حيث انها مما تحتاج إلى كلفة و استغراق وقت و عمل شديد في تعلمها فيجب على الشارع ان

ص: 243

و أما الواجبات التعبدية فيمكن أن يقال بجواز أخذ الاجرة على إتيانها بداعي امتثالها، لا على نفس الاتيان، كي ينافي عباديتها، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي، غاية الامر يعتبر فيها كغيرها أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستاجر (1)، كي لا تكون المعاملة سفهية،

______________________________

لا يسقط حرمتها و لا احترامها بحيث يجب ان يكون وجوبها الكفائي بما انها محترمة و يقع بازائها المال ليقبل الناس على تعلمها بحيث لو اوجبها الشارع مسلوبة الاحترام للزم من ذلك اختلال النظام، و حيث كان الداعي إلى ايجابها المصلحة النظامية فلا بد و ان لا يلزم من وجودها عدمها، فلذا لا بد من وقوعها واجبة بما هي محترمة، و هذا مراده من قوله: «بل ربما يجب اخذ الاجرة عليها» و ليس مراده من وجوب اخذ الاجرة عليها انها لا يصح وقوعها مجانا من المكلف و متبرعا بها. و على كل فمثل هذه الواجبات لا مانع من اخذ الاجرة عليها.

(1) و حاصل الكلام في الاجرة على الواجبات العبادية: انه ان كانت الاجرة على نفس الفعل العبادي فلا تصح الاجارة لان المفروض ان عقد الاجارة وقع على نفس الفعل العبادي، و اتيان الفعل اما بلا قصد القربة فلا يكون ما وقع عبادة فلا يتحقق ما وقعت عليه الاجارة، و لا يقع بقصد الاجارة أيضا لأن اتيانه بقصد الامر الاجاري من دون قصد القربة لا يوجب عباديته و المفروض ان ما وقعت عليه الاجارة هو الفعل العبادي، و اتيانه بقصد الامر الاجاري و بقصد القربة يوجب التشريك في العبادة و هو مناف لعباديته، و اتيانه بقصد الامر القربي مع غفلة عن الاجارة- و حيث ان الاجارة امرها توصلي فيستحق الاجرة- فانه أيضا لا يوجب تصحيح الاجارة، لأن من جملة شروط صحة الاجارة القدرة على التسليم، و حيث انه لا قدرة له على الاتيان به بداعي الامر الاجاري فلا يكون ما وقعت عليه الاجارة مقدورا على كل حال، هذا إذا وقعت الاجارة على الفعل العبادي.

ص: 244

و أخذ الاجرة عليها أكلا بالباطل (1).

______________________________

و اما إذا وقعت الاجارة على اتيان الفعل بداعي القربة فانه لا يكون الامر الاجاري داعيا إلى نفس الفعل فلا يقع التشريك، و الامر الاجاري حيث وقع على اتيانه بداعي القربة فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي، و الداعي إلى الداعي معقول و واقع و اكثر عبادة المكلفين من قبيل الداعي إلى الداعي كسائر النوافل ذوات الآثار الدنيوية و الأخروية، و كذلك عبادة المكلفين الواقعة في الفرائض الواجبة بداعي الخوف من العقاب فانه يكون من الداعي إلى الداعي.

و على كل حال فلا مانع من وقوع الاجارة على الواجبات العبادية: بان تقع على اتيان الفعل بداعي القربة لا على نفس الفعل، و الى هذا أشار بقوله: «فيمكن ان يقال بجواز اخذ الاجرة على اتيانها بداعي امتثالها لا على نفس الاتيان كي ينافي عباديتها فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي».

(1) حيث ذكروا من جملة موانع الاجارة على العبادة انه امر سفهي حيث انه لا بد من اتيانها، إذ المفروض انها عبادة واجبة، و وقوع الاجارة على ما لا بد من وقوعه لغو و سفه.

فقد أشار المصنف إلى الجواب عنه: بانه ربما يكون فيه فائدة عائدة إلى المستاجر كتعويد المكلف على العبادة فيما إذا كان تعويده مما يهم المستاجر فإنها من المنافع العقلائية، فإن كون ابنه- مثلا- من المعتادين على العبادة من الامور العقلائية التي لها نسبة و اضافة إلى هذا المستاجر فلا تكون هذه الاجارة سفهية و اخذ الاجرة عليها اكلا للمال بالباطل.

فاتضح مما ذكرنا: ان هذه الثمرة غير صحيحة لصحة وقوع الاجارة على مقدمات الواجب سواء قلنا بوجوبها للملازمة ام لم نقل.

ص: 245

و ربما يجعل من الثمرة، اجتماع الوجوب و الحرمة إذا قيل بالملازمة فيما كانت المقدمة محرمة، فيبتني على جواز اجتماع الامر و النهي و عدمه، بخلاف ما لو قيل بعدمها (1).

و فيه: أولا: إنه لا يكون من باب الاجتماع، كي تكون مبتنية عليه، لما أشرنا إليه غير مرة، إن الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدمة، لا بعنوان المقدمة، فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادة و المعاملة (2).

______________________________

(1) هذه هي الثمرة الرابعة التي ذكروها ثمرة مترتبة على القول بالملازمة و عدمها، و كون مقدمة الواجب واجبة شرعا بناء على الملازمة و غير واجبة شرعا بناء على عدم الملازمة.

و حاصل هذه الثمرة: انه بناء على الملازمة فالوجوب النفسي لذي المقدمة علة تامة لترشح الوجوب على المقدمة، و اذا كانت المقدمة محرمة فيجتمع الامر الغيري و النهي المتعلق بها فيكون المقام من مصاديق اجتماع الامر و النهي، فإن قلنا بجواز الاجتماع تقع المقدمة المحرمة مصداقا للواجب، و ان قلنا بالامتناع و رجحنا جانب الوجوب- أيضا- تقع مصداقا.

نعم، إذا قلنا بترجيح جانب النهي لا تقع مصداقا للواجب.

و اما إذا قلنا بعدم الملازمة فلا تكون من موارد اجتماع الامر و النهي و لا تبتني على القول في تلك المسألة.

و الحاصل: ان الثمرة هي وقوع المقدمة المحرمة من موارد اجتماع الامر و النهي بناء على الملازمة و ترشح الوجوب اليها من ذيها، و لا تكون من مصاديق اجتماع الامر و النهي بناء على عدم الملازمة و عدم ترشح الوجوب اليها، و الى هذا أشار بقوله: «فيبتني على جواز اجتماع» إلى آخر كلامه.

(2) هذا هو الجواب الاول عن هذه الثمرة.

ص: 246

.....

______________________________

و توضيحه: ان الامر و النهي تارة يجتمعان في الشي ء بعنوانين كاجتماع عنوان الغصب و الصلاة في الحركة الركوعية و هذا من مصاديق موارد الاجتماع قطعا.

و اخرى: يتعلق النهي بما تعلق به الامر بعنوانه المتعلق به للامر كقوله: (دعي الصلاة ايام أقرائك) و هذا ليس من مصاديق مسألة الاجتماع بل هو من مصاديق النهي في العبادة قطعا.

و ثالثة: يتعلق النهي به بعنوان من العناوين و لكنه يكون متعلقا للامر- مثلا- بعنوانه الذاتي له: بان تكون الحركة- مثلا- بما هي حركة مامورا بها و بما هي من مصاديق عنوان الغصب المتعلق للنهي من موارد النهي.

هذا الفرض الاخير على ما يظهر من المصنف انه من مصاديق النهي في العبادة لا من مصاديق مسألة الاجتماع.

فاذا عرفت هذا نقول:

انه بناء على مختاره: من كون مقدمة الواجب- هي- ما هو مقدمة بالحمل الشائع لا عنوان المقدمية، فإن ركوب الدابة بما هو ركوب الدابة يكون واجبا لا بعنوان كونه مقدمة، فاذا ورد نهي عن ركوب الدابة بعنوان انه غصب لا يكون من مصاديق اجتماع الامر و النهي، بل هو من مصاديق النهي في العبادة، و على هذا افتى بعض من يقول بجواز اجتماع الامر و النهي ببطلان الوضوء الواقع مقدمة للصلاة- مثلا- إذا كان بماء مغصوب، لأن الوضوء ليس هو الّا نفس غسل الاعضاء و قد حرم هذا الفعل بما له من عنوانه الذاتي له و هو كونه غسلا.

و على ما ذكرنا لا تكون المسألة من اجتماع الامر و النهي، لأن المقدمة المحرمة قد وقعت واجبة لا بعنوان كونها مقدمة بل بما هي مقدمة بالحمل الشائع فتكون من موارد مسألة النهي في العبادة، و لذا قال (قدس سره): «انه لا يكون من باب الاجتماع»: أي المقدمة المحرمة لا تكون من باب الاجتماع حتى تكون صحيحة بناء على الجواز، و غير صحيحة بناء على الامتناع إذا قلنا بالملازمة و ترشح الوجوب

ص: 247

و ثانيا: لا يكاد يلزم الاجتماع اصلا لاختصاص الوجوب بغير المحرم في غير صورة الانحصار به و فيها اما لا وجوب للمقدمة لعدم وجوب ذي المقدمة لاجل المزاحمة و اما لا حرمة لها لذلك كما لا يخفى (1).

______________________________

الغيري إلى المقدمة، بل بناء عليه تكون من مصاديق النهي في العبادة لأن الواجب بالوجوب المقدمي ذات ما هو مقدمة لا بعنوان كونه مقدمة و لذا قال: «ان الواجب ما هو بالحمل الشائع» إلى آخر كلامه.

(1) حاصل هذا الجواب الثاني: ان الواجب النفسي اما ان تنحصر مقدمته بهذا المحرم أو لا تنحصر، فإن انحصرت به فهو خارج عن مسألة الاجتماع، لأن ايجاب واجب تنحصر مقدمته بالحرام من التكليف بما لا يطاق الذي لا يقول به القائل بجواز الاجتماع، و اذا لم تنحصر مقدمته بالحرام فالمقدمة الواجبة خصوص الفرد الحلال، فانه إذا كان هناك دابة مغصوبة و دابة غير مغصوبة فمقدمة الواجب خصوص الدابة غير المغصوبة.

و قد عرفت انه في صورة الانحصار لا يعقل بقاء الواجب النفسي، فاما ان يكون اهم من حرمة المقدمة فترتفع الحرمة و تقع مصداقا للواجب الغيري، و اما ان لا يكون اهم فلا بد و ان لا يبقى الواجب على وجوبه فمتى تتحقق هذه الثمرة؟

و الظاهر انه قد ضرب على هذا الجواب الثاني في بعض النسخ المصححة، و السبب في الضرب عليه ان القائل بهذه الثمرة يقول بها في صورة عدم الانحصار.

و قد كان هذا الجواب الثاني من المصنف اما مبنيا على التنزل عما ذكره في الجواب الاول: من ان الواجب ما هو مقدمة بالحمل الشائع و مع التنزل عنه فإن المقدمة المحرمة في صورة عدم الانحصار تكون من مصاديق مسألة الاجتماع بناء على الملازمة، و اما مبنيا على انه و ان كان الواجب ما هو مقدمة بالحمل الشائع الّا انه يكفي في الاجتماع ان يكون و لو من طرف واحد بالعنوان.

ص: 248

و ثالثا: إن الاجتماع و عدمه لا دخل له في التوصل بالمقدمة المحرمة و عدمه أصلا، فإنه يمكن التوصل بها إن كانت توصلية، و لو لم نقل بجواز الاجتماع، و عدم جواز التوصل بها إن كانت تعبدية على القول بالامتناع، قيل بوجوب المقدمة أو بعدمه، و جواز التوصل بها على القول بالجواز كذلك، أي قيل بالوجوب أو بعدمه. و بالجملة لا يتفاوت الحال في جواز التوصل بها، و عدم جوازه أصلا، بين أن يقال بالوجوب، أو يقال بعدمه، كما لا يخفى (1).

______________________________

و بعبارة اخرى: النهي في العبادة يختص بما إذا تعلق النهي بالعبادة بما هي عبادة و بعنوانها، و اما في المورد الذي اجتمع فيه النهي بعنوان كالغصب و الامر بما له من العنوان الذاتي له كالغسل و الوضوء فهو من مصاديق الاجتماع، فالثمرة صحيحة على هذا.

(1) لا يخفى انه نسب إلى الوحيد (قدس سره) القول: بان المقدمة المحرمة لا يقع بها التوصل إلى الواجب.

و على هذا فيكون ما ذكره المصنف واردا عليه، و اما على ما ذكره من ظاهر هذه الثمرة: من ان المقصود فيها هو كون المقدمة من مصاديق مسألة الاجتماع بناء على الملازمة، و عدم كونها من مصاديقها بناء على عدم الملازمة، فالمنظور فيها ليس قصد التوصل بها حتى يرد عليه ما ذكره في العبارة.

و على كل فالمتحصل من عبارة المتن: ان المهم في المقدمة هو امكان التوصل بها، و المقدمة ان كانت توصلية فالتوصل بها ممكن و ان كانت محرمة، و لا فرق في وقوع التوصل بها خارجا بين كونها منهيا عنها أو لا، و سواء قلنا بالملازمة أو لم نقل و سواء قلنا بجواز الاجتماع أو قلنا بالامتناع، فالمقدمة يحصل بها التوصل إلى الواجب خارجا على كل حال.

ص: 249

تأسيس الاصل في المسألة

في تأسيس الاصل في المسألة اعلم أنه لا أصل في محل البحث في المسألة، فإن الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذي المقدمة و عدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية (1)، نعم نفس

______________________________

و ان كانت المقدمة تعبدية فاذا قلنا بالامتناع فلا يحصل التوصل بها سواء قلنا بالملازمة أو لم نقل، فانه على القول بالملازمة لا يعقل ان تكون واجبة، لانه و ان اجتمع فيها الامر و النهي إلّا ان المفروض انا نقول بالامتناع، و المفروض انها عرضتها الحرمة فلا يعقل ان تكون واجبة، و ان قلنا بجواز الاجتماع فالمفروض ان المقدمة تعبدية ففيها في نفسها قبل عروض المقدمية عليها امر، و عروض النهي عليها لا يرفع الامر المتعلق بها لانا نقول بجواز الاجتماع. فلا فرق على هذا بين القول بالملازمة و وجوب المقدمة أو نقول بعدم الملازمة، فإن المقدمة التي هي عبادة بنفسها تقع صحيحة، و اذا كانت تقع صحيحة فيمكن التوصل بها إلى الواجب عقلا و ان لم تكن واجبة شرعا، فلا فائدة في هذه الثمرة.

و قد عرفت: ان هذا انما يرد على المنسوب إلى الوحيد (قدس سره) لا على الظاهر: من كون الثمرة هي كون المقدمة من مصاديق مسألة الاجتماع و عدمه.

(1) توضيحه ان الاصل الجاري في المقام اما الاستصحاب أو البراءة و لا مجرى لهما معا، اما الاستصحاب فلما عرفت: من ان البحث في هذه المسألة في الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدماته، فالقائل بالملازمة يدعي ان طبيعة ارادة الشي ء تلازمها قهرا ارادة مقدماته، فالملازمة ذاتية بين حقيقة طلب الشي ء و طلب مقدماته، و هذه الملازمة ما هوية كملازمة الزوجية لماهية الاربعة، و لذا لا يعقل ان تفارقه في الوجودين الذهني و العيني، و هذا هو المناط الفارق بين لوازم الوجود و لوازم الماهية، و الملازمة بين ارادة المقدمة و ارادة ذيها من هذا القبيل.

فإن الملازمة التي يحكم بها العقل على فرض حكمه بها هو الاستتباع و الاستلزام و هذه التبعية هي تبعية ذاتية لماهية الطلب النفسي، و لذا لا تفارقه في كلا

ص: 250

.....

______________________________

الوجودين بل مع الغض عن الوجودين فالاستتباع و تبعية ماهية طلب المقدمة لماهية طلب ذيها، كما ان زوجية الاربعة و ملازمتها لها و تبعيتها للاربعة غير منوطة بذهن أو عين فلو امكن ان تتحقق اربعة في غير الذهن أو العين لكانت زوجا، و الملازمة التي هي استتباع ارادة الشي ء لإرادة مقدماته من هذا القبيل، و لذا يحكم العقل باستلزام طلب الشي ء لطلب مقدماته و ان لم يكن طلب موجود.

و من الواضح ان لوازم الماهية منجعلة بجعل الماهية و ليس لها جعل استقلالي بل هي مجعولة بالتبع لجعل الماهية، و كما ان جعل الاربعة كاف في جعل الزوجية كذلك جعل الوجوب النفسي كاف في جعل استلزامه و استتباعه لمقدماته، فالملازمة ان كانت متحققة فهي متحققة أزلا، و ان كانت غير متحققة فهي غير متحققة أزلا.

و حيث ان الماهية في قبال الوجود و العدم و لذا يطرءان عليها، فيقال: الماهية موجودة و الماهية معدومة، و الماهية بنفسها ماهية واجدة لذاتها و ذاتياتها و لوازمها مع الغض عن الوجود و العدم، فهي غير مسبوقة بالعدم و ليس الاستصحاب إلّا استصحاب العدم الازلي، و العدم الازلي انما يجري استصحابه بالنسبة إلى الماهية المقيدة بالوجود: أي ان وجود الماهية الممكنة مسبوق بالعدم الازلي، فلا يكون لنا يقين سابق يمكن استصحابه بحيث يمكننا ان نقول: انه كانت الملازمة معدومة و الآن هي باقية على هذا العدم، و اليقين هو الركن الاولي للاستصحاب فحيث لا يقين سابق فلا مجري للاستصحاب، مضافا إلى ان الشرط في جريان الاستصحاب ان يكون المستصحب امرا مجعولا تشريعا أو موضوعا لاثر مجعول، و حيث لا جعل تكويني لا جعل تشريعي، و لوازم الماهية لا جعل تكويني لها لا بالاستقلال و لا بالتبع بل ليس هناك إلا جعل واحد ينسب للماهية بالاصالة و للوازمها بالعرض فلوازم الماهية ليس لها جعل لا استقلالا و لا تبعا، و انما هناك جعل واحد منسوب إلى الماهية بالاصالة و منسوب اليها بالعرض، و لا يعقل ان يكون للوازم الماهية جعل اصلا،

ص: 251

وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم، حيث يكون حادثا بحدوث وجوب ذي المقدمة، فالاصل عدم وجوبها (1).

______________________________

لأن ما كان له جعل كان له وجود، و لوازم الماهية لا وجود لها بل الموجود ملزومها و منشأ انتزاعها.

و قد عرفت: ان هناك جعلا و وجودا واحدا ينسب إلى الماهية بالاصالة و الى لوازمها بالعرض. و من الواضح ان الموجود في الخارج ليس إلّا وجودا واحدا و هو وجود الاربعة، و ليس للزوجية وجود في الخارج و انما هي موجودة بتبع وجود الاربعة التي هي ملزومها و منشأ انتزاعها، و حيث لا جعل للوازم الماهية تكوينا فلا جعل لها تشريعا.

و اما انها ليست موضوعا لاثر مجعول فانه من الواضح ان نفس الملازمة و الاستتباع ليست موضوعا للوجوب بل موضوع الوجوب هو نفس ذات المقدمة، و لا جزء الموضوع لوضوح ان الملازمة ليست جزءا من ذات المقدمة، و اذا لم تكن المقدمة مجعولة تشريعا بالاستقلال و لا موضوعا و لا جزء موضوع لأثر مجعول فلا يجري فيها الاستصحاب.

و منه يتضح: انها لا تجري فيها البراءة أيضا، فإن مجرى البراءة لا بد و ان يكون مما يمكن ان يكون مجعولا تشريعا، و الى ما ذكرنا أشار اجمالا بقوله: «فإن الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذي المقدمة و عدمها»: أي و عدم الملازمة «ليست لها حالة سابقة» لانها ان كانت هناك ملازمة فهي من لوازم الماهية لا تنفك عنها بحالة من الحالات فهي ازلية، و ان لم تكن هناك فعدم الملازمة ايضا ازلي، و لذا لم تكن لها حالة سابقة.

(1) كان الكلام المتقدم في ان الاصل لا يجري في نفس الملازمة- و هي المسألة الاصولية التي هي المبحوث عنها في مسألة مقدمة الواجب- لعدم اليقين السابق و لانها ليست من المجعولات. و الآن يتعرض لجريان الاصل في المسألة الفرعية و هي الوجوب

ص: 252

و توهم عدم جريانه، لكون وجوبها على الملازمة، من قبيل لوازم الماهية، غير مجعولة، و لا أثر آخر مجعول مترتب عليه، و لو كان لم يكن بمهم هاهنا (1)، مدفوع بأنه و إن كان غير مجعول بالذات، لا بالجعل

______________________________

الغيري المترشح إلى المقدمة من وجوب ذيها، و حيث انه من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم اذ قبل الوجوب النفسي لا وجوب غيري قطعا و بعد حدوث الوجوب النفسي يشك في حدوثه للشك في الملازمة فيستصحب عدمه، و حيث انه من المجعولات الشرعية فتجري فيه البراءة أيضا، و لذا قال: «نعم نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم» إلى آخر كلامه.

(1) حاصل هذا التوهم انه لا مجال لجريان الاصل في الوجوب- أيضا- كما انه لا مجال للاصل في نفس الملازمة.

و تقريبه: انه لا بد في جريان الاصل من كون مجراه اما مجعولا أو موضوعا لاثر مجعول، و الوجوب الغيري ليس مجعولا و لا موضوعا لأثر مجعول مهم، أما انه ليس الوجوب في المقام مجعولا فلأن الملازمة على فرضها علة للوجوب الغيري لأن عمدة دليله هو الوجدان: بان من يريد شيئا يريد مقدمته قهرا حتى في حال عدم التفاته فانه يريد المقدمة ارتكازا و بطبعه من غير التفات له إلى ذلك، و هذا يدل على ان الوجوب المقدمي من الامور و اللوازم القهرية المترتبة على الوجوب النفسي، و اذا كان من اللوازم القهرية فانه يكون من قبيل لوازم الماهية و لا يكون للواجب الغيري حينئذ جعل استقلالي في قبال جعل الوجوب النفسي، اذ ليس للوازم الماهية و ما هو من الامور القهرية المترتبة على وجودها جعل في قبال جعلها و وجودها، و اذا لم يكن للشي ء جعل فلا يجري الاصل فيه، فالوجوب الغيري لا يجري الاصل فيه لأن وجوبه ليس من الامور المجعولة، لما عرفت: من ان الوجوب الغيري ليس بمجعول استقلالا بل هو من اللوازم القهرية التابعة لجعل الوجوب النفسي.

ص: 253

البسيط الذي هو مفاد كان التامة، و لا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة، إلا أنه مجعول بالعرض، و بتبع جعل وجوب ذي المقدمة، و هو كاف في جريان الاصل (1). و لزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك

______________________________

و اما انه ليس موضوعا لاثر مجعول، فلأن الأثر المهم المترتب على الوجوب- بناء على جعل الثواب و العقاب- هو الثواب و العقاب، و قد تقدم: ان الوجوب الغيري لا ثواب له و لا عقاب عليه. نعم ربما يكون موضوعا لاثر مجعول كالنذر و نحوه إلّا ان مثل هذا الاثر ليس بمهم، و قد أشار إلى كون الوجوب الغيري ليس بمجعول بقوله: «لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهية» و قد أشار إلى انه ليس بموضوع لأثر مجعول بقوله: «و لا اثر آخر مجعول مترتب عليه» و قد أشار إلى انه ربما يترتب عليه اثر كالنذر و نحوه لكنه ليس بمهم بقوله: «و لو كان لم يكن بمهم».

(1) و توضيح الدفع ان الجعل على قسمين: ذاتي، و تبعي، و الاول على قسمين ايضا: بسيط و تاليفي، و الجعل البسيط: هو جعل الشي ء كجعل الانسان أو غيره كالجسم- مثلا- و هو مفاد كان التامة، فإن كان التامة هي التي تتم الفائدة فيها بالفاعل فقط الذي بمنزلة الاسم من كان الناقصة و هي التي بمعنى وجد، فيقال: كان الانسان أو الجسم بمعنى وجد الانسان و وجد الجسم، و لذا كانت تكتفي بالفاعل.

و الجعل التأليفي: هو جعل الشي ء شيئا كجعل الانسان ضاحكا و الجسم أبيض و هو مفاد كان الناقصة، لانه لا تتم الفائدة في مثلها بالاسم بل لا بد من الحاق الخبر و لذا تقول: كان الانسان ضاحكا و الجسم أبيض.

و الثاني: أي الجعل التبعي و هو الجعل القهري بتبع جعل آخر كجعل الوجوب المقدمي في المقام بتبع جعل الوجوب النفسي، و هذا المقدار من الجعل كاف في جريان الاصل و ليس هو كلوازم الماهية أي كنفس الملازمة غير المجعولة اصلا باي نحو من انحاء الجعل، لما عرفت: من ان لوازم الماهية لا وجود لها خارجا و الوجوب الغيري

ص: 254

لا محالة، لاصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة (1)، لا ينافي الملازمة بين الواقعيين، و إنما ينافي الملازمة بين الفعليين، نعم لو كانت

______________________________

له وجود كوجود الوجوب النفسي، فليس هو من لوازم الماهية نعم يوجد قهرا بتبع الوجوب النفسي.

لا يقال: انه يشترط في مجرى الاصل ان يكون امر مجعولا اختياريا و الجعل في المقام قهري لا اختياري.

فانه يقال: انه اختياري بالواسطة فان علته و هو الوجوب النفسي جعله اختياري، و الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار، و قد أشار إلى ما ذكرنا: من ان الوجوب و ان كان ليس بمجعول بالذات لا بالجعل البسيط و لا بالجعل التاليفي بقوله: «و ان كان غير مجعول بالذات» و الى ان الجعل الذاتي على قسمين بسيط و تاليفي و الاول مفاد كان التامة و الثاني مفاد كان الناقصة بقوله: «لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة و لا بالجعل التاليفي الذي هو مفاد كان الناقصة» و الى انه مجعول بالجعل التبعي و هو كاف بقوله: «إلّا انه مجعول بالعرض و بتبع جعل وجوب ذي المقدمة و هو كاف في جريان الاصل».

(1) هذا إشارة إلى اشكال آخر أورد على جريان الاصل في الوجوب الغيري حيث يشك في الملازمة.

و توضيحه: انه يشترط في جريان الاصل في شي ء ان يكون مما يمكن للشارع وضعه و رفعه، و الوجوب الغيري و ان كان مما يمكن وضعه بوضع الوجوب النفسي إلّا انه بناء على الملازمة يكون الوجوب الغيري قهريا، فلا يمكن رفعه مع وضع الوجوب النفسي، فوضع الوجوب النفسي و رفع الوجوب الغيري بناء على الملازمة من المحالات، اذ لا يعقل تخلف المعلول عن علته التامة، لأن المفروض انه لا مانع من الوجوب الغيري لو قلنا بالملازمة و احتمال المحال كالقطع بالمحال، و لا بد ان يكون مجرى الاصل مما يقطع بعدم لزوم المحال منه.

ص: 255

الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية، لما صح التمسك بالاصل، كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكرنا، فقد تصدى غير واحد من الافاضل لاقامة البرهان على الملازمة، و ما أتى منهم بواحد خال عن الخلل (1).

______________________________

فاذا عرفت هذا نقول: ان المفروض انه مما يشك في الملازمة و لازم الشك احتمال وجود الملازمة و احتمال عدمها فاحد الطرفين احتمال وجود الملازمة، و مع احتمال وجود الملازمة فالوجوب الغيري في حال الوجود النفسي قهري و لا يمكن ان لا يتحقق الوجوب الغيري مع تحقق الوجوب النفسي، و مع احتمال ان يكون تحققه لا بد منه يكون جريان الاصل في عدم الوجوب الغيري مما يحتمل ان يكون محالا لعدم امكان تخلف المعلول عن علته.

و قد عرفت: انه يشترط في مجرى الاصل ان يكون مما يقطع بامكانه و عدم محاليته، و من المحتمل ان تكون الملازمة موجودة و على فرض وجودها يلزم التفكيك بين الوجوب الغيري و الوجوب النفسي، و التفكيك بينهما على فرض الملازمة من المحال، فالاصل الموجب للتفكيك بين الوجوبين يحتمل ان يكون مستلزما للمحال، و قد عرفت انه لا بد في مجرى الاصل ان يكون مما يقطع بكونه لا يستلزم محالا، و الى هذا أشار بقوله: «و لزوم التفكيك بين الوجوبين»: أي الوجوب الغيري و النفسي «مع الشك لا محالة» واقع فإن الاصل يقضي عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة فالاصل مفكك بين هذين الوجوبين قطعا، و لذا قال: «لاصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة» و التفكيك بين الوجوبين يحتمل ان يكون محالا، و احتمال المحال مانع من إجزاء الاصل كما عرفته مفصلا، هذا حاصل الاشكال الذي أشار اليه بقوله: «و التفكيك» إلى آخره.

(1) بهذا أشار إلى الجواب عن هذا الاشكال.

ص: 256

.....

______________________________

و توضيحه: ان مجرى الاصل هو الحكم الفعلي، فمع ثبوت الحكم الواقعي في مرحلة واقعه لا مانع من جريان الاصل لرفع فعلية الحكم الواقعي، و الملازمة لو كانت متحققة فانما يكون تحققها في مرحلة الواقع، و المفروض انا في مرحلة الشك و لازم مرحلة الشك كون الملازمة في مرحلة فعليتها مشكوكة و انه لا دليل عليها بالفعل، فلو فرض تحقق الملازمة بين الوجوبين واقعا لكنها حيث كانت في مرحلة فعليتها مشكوكة فلا مانع من جريان الاصل الذي مجراه مرحلة الفعلية، لانه من الواضح ان ثبوت الحكم واقعا يلازم فعليته لأن الحكم لا يكون قطعي الفعلية الا بوصوله، و المفروض انه في مرحلة الفعل مشكوك فلا ملازمة بين ثبوت الملازمة واقعا و عدم ثبوتها في مرحلة الفعلية، و التفكيك الذي يقتضيه الاصل هو التفكيك بين الوجوبين في مرحلة الفعلية لا التفكيك بينهما في مرحلة الواقع و تبعية الوجوب الغيري للوجوب النفسي قهرا انما هي في مرحلة الواقع دون مرحلة الفعلية، فلو كان لازم جريان الاصل هو التفكيك في مرحلة الواقع لكان محتملا للمحال و محتمل المحالية لا يكون مجرى للاصل، أو كانت ملازمة بين ثبوت الملازمة واقعا و ثبوتها فعلا لكان الاشكال في جريان الاصل في عدم الوجوب الغيري في محله.

إلّا انه قد عرفت ان مجرى الاصل ليس في المرحلة الواقعية بل في المرحلة الفعلية، و لا تلازم بين الثبوت الواقعي و الثبوت الفعلي، بل لا يعقل الملازمة بينهما، و لان مرحلة الفعلية القطعية منوطة بالوصول و حيث انه فرض الشك فلا وصول، و الى هذا أشار بقوله: «لا ينافي الملازمة بين الواقعيين»: أي ان التفكيك بين الوجوبين الذي اقتضاه الاصل ليس لازمه التفكيك في مرحلة الواقع حتى يكون من مورد احتمال المحال.

نعم، لازم جريان الاصل التفكيك بين الوجوبين في مرحلة الفعلية و لا مانع منه، و الى هذا أشار بقوله: «و انما ينافي الملازمة بين الفعليين» و لا مانع منه. نعم، لو كان القول بالملازمة الواقعية يلازمه القول بالملازمة الفعلية لكان لزوم التفكيك بين

ص: 257

و الاولى إحالة ذلك إلى الوجدان، حيث أنه أقوى شاهد على أن الانسان إذا أراد شيئا له مقدمات، أراد تلك المقدمات، لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله، و يقول مولويا ادخل السوق و اشتر اللحم مثلا، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب (ادخل) مثل المنشأ بخطاب اشتر في كونه بعثا مولويا، و أنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء، ترشحت منها له إرادة أخرى بدخول السوق، بعد الالتفات إليه و أنه يكون مقدمة له، كما لا يخفى (1).

______________________________

الوجوبين اللازم من جريان الاصل من موارد احتمال المحال، و هو مانع عن جريان الاصول فلا يصح التمسك بالاصل في اثبات عدم الوجوب الفعلي، و الى هذا أشار بقوله: «نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية لما صح التمسك بالاصل».

لا يخفى: ان ما اثبتناه و هو قوله: لما صح التمسك بالاصل- هو الموافق للنسخة المصححة، و في بعض النسخ بعد قوله في المرتبة الفعلية «لصح التمسك بذلك في اثبات بطلانها» و الظاهر ان مراده من هذه العبارة يرجع أيضا إلى قوله: «لما صح التمسك بالاصل» فإن الظاهر منها ان معناها هو انه لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى بين الحكمين الفعليين لصح التمسك بما ذكروه: من انه يشترط في مجرى الاصل ان يكون مقطوع الامكان و لا يجري في محتمل المحال، فلا تصح دعوى جريان الاصل في عدم الوجوب الغيري، و يصح التمسك بما ذكروه: من لزوم التفكيك لاثبات بطلانها.

(1) لا يخفى ان هذا عمدة الادلة التي اقيمت على الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته.

و توضيحه: انه لا ريب في ان من يريد شيئا يجد من نفسه انه يريد مقدماته التي يتوقف عليها وجوده، و هذا ضروري التحقق في مريد الفعل بالمباشرة، و ايضا في

ص: 258

و يؤيد الوجدان، بل يكون من أوضح البرهان، وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات و العرفيات، لوضوح أنه لا يكاد يتعلق بمقدمة أمر غيري، إلا إذا كان فيها مناطه، و إذا كان فيها كان في مثلها، فيصح تعلقه به أيضا، لتحقق ملاكه و مناطه، و التفصيل بين السبب و غيره و الشرط الشرعي و غيره سيأتي بطلانه، و أنه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدمة و مقدمة.

______________________________

مقام الطلب من الغير فان الوجدان شاهد ايضا بان من طلب من عبده وصوله إلى محل يحتاج إلى قطع المسافة فانه كما يريد منه الوصول إلى المحل المطلوب بالطلب النفسي كذلك يجد من نفسه انه يريد منه الحركة و قطع المسافة إلى ذلك المحل، و حيث ان الحكم لبّا هو الارادة الحقيقية فالحكم الحقيقي موجود و ليس بداعي الارشاد، اذ لا معنى له مع كونه ارادة كارادة المطلوب النفسي قهرية التحقق و ليس الارشاد في المقام لازما لحصول الارشاد من طرف عقل المكلف الذي يعلم ان وجود ذي المقدمة متوقف على المقدمة.

و الفرق بين الامر المولوي و الارشادي: هو ان الامر المولوي يصدر بعنوان كونه امرا صادرا من المولى و السيد لعبده، و الامر الارشادي صادر بداعي كونه مرشدا إلى المكلف لا انه مولى له، و الحال انا نرى ان المولى المكلف عبده يأمره مولويا فيقول له- بما هو-: مولى ادخل السوق و اشتر اللحم، فالامر بدخول السوق الذي هو امر غيري مقدمي كالامر بشراء اللحم الذي هو نفسي في أن كلا منهما امر مولوي و ليس الوجوب الشرعي الّا الامر المولوي. و قد اشار إلى جميع ما ذكرنا في عبارته و هي واضحة.

ص: 259

استدلال ابي الحسن البصري على وجوب المقدمة

و لا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالاصل لغيره مما ذكره الافاضل من الاستدلالات و هو ما ذكره أبو الحسن البصري (1)، و هو أنه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها، و حينئذ، فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، و إلا خرج الواجب المطلق عن وجوبه (2).

______________________________

(1) حاصله: انه قد ورد في الشرع اوامر بالمقدمة و هي مولوية لأن الظاهر من الامر هو المولوية لانه صادر من مولى الموالي إلى عبيده، فان الفارق- كما مر- بين الامر المولوي و الامر الارشادي هو ان الامر الصادر من المولى بما هو مولى إلى عبده امر مولوي و الصادر منه بما انه مرشد لا مولى هو أمر ارشادي. و في العرفيات أيضا الاوامر الغيرية المولوية متحققة، و حكم الامثال واحد.

و لا اشكال ان مناط هذه الاوامر الغيرية هو المقدمية فلازم ذلك ان يكون المناط في كل مقدمة للأمر الغيري موجودا و ان لم يلتفت الآمر اليه، و الى ما قلنا أشار بقوله: «لا يكاد يتعلق بمقدمة امر غيري» إلى آخره، و الى ان حكم الامثال واحد بقوله: «و اذا كان فيها كان في مثلها» و كان الاولى ان يقتصر على التأييد لأن كون الظاهر من الاوامر الغيرية هي المولوية محل تامل، اذ الامر و ان كان ظاهره المولوية إلّا انه فيما إذا لم تقم قرينة على غيره، و في المقام يمكن ان يدعي ان ارشاد العقل إلى لزوم الاتيان بالمقدمة قرينة على ان الاوامر الغيرية ارشادية لا مولوية.

(2) لا يخفى ان ظاهر ما استدل به ابو الحسن البصري على وجوب المقدمة: هو انه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها، و الظاهر من الجواز هو الاباحة الشرعية، و حينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق، و إلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا، و الظاهر من المضاف اليه الظرف- و هو حين- هو الاباحة الشرعية، فيكون حاصل الاستدلال: انه لو لم تجب المقدمة لكانت مباحة شرعا، و حين اباحتها شرعا فإن بقي الواجب واجبا مع كون مقدمته مباحة شرعا يلزم التكليف بما لا يطاق، و ان لم يبق واجبا لزم الخلف، لأن المفروض كونه واجبا.

ص: 260

.....

______________________________

و ظاهر كلتا الشرطيتين واضح الفساد.

اما الاولى: فلوضوح عدم الترتب و الملازمة بين المقدم فيها و التالي، لانه لا تلازم بين عدم وجوب المقدمة و بين كونها مباحة شرعا، لجواز ان لا تكون محكومة بحكم من الشارع اصلا بعد حكم العقل بلزوم اتيان المقدمة، و قولهم: ان لكل واقعة حكما انما هو في غير مورد حكم العقل في الواقعة، فإن العقل إذا حكم بلزوم اتيان المقدمة لا يبقى مجال لحكم الشارع.

و بعبارة اخرى: ان لكل واقعة حكما انما هو إذا لم يمنع مانع عن الحكم كما في المتلازمين في الوجود، فانه إذا كان حكم احدهما هو الوجوب أو الحرمة فإن الملازم الآخر لا ينبغي ان يكون محكوما بحكم آخر الزامي مناف لحكم الملازم للزوم التكليف بما لا يطاق، و لا غير الزامي للغويته بعد ان كان اما لازم الترك اذا كان حكم ملازمه الحرمة أو لازم الاتيان اذا كان حكمه الوجوب، و لا يكون محكوما بحكم ملازمه لعدم ملاكه فيه.

و على كل فلا ملازمة بين عدم وجوب المقدمة و بين كونها محكومة بالاباحة شرعا.

و اما الشرطية الثانية: و هي انه و حين الحكم باباحة المقدمة فاما ان يبقى الواجب النفسي على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، و ان لم يبق على وجوبه لزم خروج الواجب عن كونه واجبا فانها أيضا واضحة الفساد.

فإن فيه، أولا: ان حكم الشارع بإباحة المقدمة ليس الزاما منه بترك المقدمة، بل معنى حكمه بالاباحة لها انه لا الزام منه لفعل المقدمة و لا بتركها، و انه لا عقاب منه على تركها و لا ثواب في فعلها، و حكمه كذلك لا ينافي بقاء الواجب النفسي على وجوبه، فإن العبد غير ملزم من الشارع بالترك حتى يكون من التكليف بما لا يطاق، و العقل يلزمه باتيان المقدمة لأن في تركها يكون ترك الواجب و يستحق العقاب على ترك الواجب لا على تركها.

ص: 261

و فيه بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى، لا الاباحة الشرعية، و إلا كانت الملازمة واضحة البطلان، و إرادة الترك عما أضيف إليه الظرف، لا نفس الجواز، و إلا فمجرد

______________________________

و ثانيا: ما أشار اليه صاحب المعالم: من انه لا يعقل ان تكون القدرة على الواجب النفسي متوقفة على وجوب المقدمة، فإن لازم ما ذكره هذا المستدل: بان بقاء الواجب النفسي على وجوبه مع كون حكم المقدمة هو الاباحة يلزم منه التكليف بما لا يطاق: أي التكليف بغير المقدور، و لازم هذا ان تكون المقدورية على الواجب النفسي متوقفة على ايجاب المقدمة.

و من الواضح أيضا: ان وجوب الواجب النفسي متوقفا على كونه مقدورا، لأن القدرة من الشرائط العامة لسائر التكاليف، فوجوب الواجب النفسي يتوقف على مقدورية الواجب النفسي.

و لا اشكال- أيضا- في ان العلة في وجوب المقدمة هو وجوب الواجب النفسي، لأن وجوبها غيري يترشح من الواجب النفسي، فاذا كان مقدورية الواجب النفسي تتوقف على وجوب مقدمته يلزم الدور، لوضوح توقف وجوب الواجب النفسي، على مقدورية الواجب النفسي و مقدوريته تتوقف على وجوب مقدمته، و وجوب مقدمته تتوقف على وجوب الواجب النفسي، فيلزم توقف وجوب الواجب النفسي على نفسه، لانه يتوقف على المقدورية المتوقفة على وجوب المقدمة المتوقف على نفس وجوب الواجب النفسي، و الى هذا أشار صاحب المعالم 25] بقوله: «و تأثير الايجاب في القدرة غير معقول».

فاتضح مما ذكرنا: ان بقاء هذا الاستدلال على ظاهره واضح فساده بحيث لا صورة له، فلذا التزم المصنف باصلاحه بان يكون له صورة قابلة لتوهم المتوهم.

ص: 262

الجواز بدون الترك، لا يكاد يتوهم معه صدق القضية الشرطية الثانية ما لا يخفى، فان الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين، و لا يلزم أحد المحذورين، فإنه و إن لم يبق له وجوب معه، إلا أنه كان ذلك بالعصيان، لكونه متمكنا من الاطاعة و الاتيان، و قد اختار تركه بترك مقدمته بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم إتيانها، إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب (1).

______________________________

(1) و حاصل ما شار اليه من اصلاحه: هو ان يراد من الجواز في الشرطية الاولى هو عدم المنع من الترك لا الاباحة الشرعية و يراد من المضاف اليه لفظ حين- الذي هو الظرف- هو الترك لا عدم المنع، و بعد هذا الاصلاح يكون لهذا الاستدلال صورة.

فإن المتحصل منه على هذا هو انه لو لم تجب المقدمة لما منع من تركها، و اذا لم يكن المكلف ممنوعا عن تركها فله ان يتركها، و حين تركها فاما ان يكون الواجب باقيا على وجوبه فيلزم التكليف بما لا يطاق، و إلّا خرج الواجب عن كونه واجبا.

و بعد اصلاحه فيه ما لا يخفى: لانه حين تركها لا مانع من بقاء الواجب على وجوبه و لا يلزم اما التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب، لانه حال ترك المقدمة اما ان يكون بعد مجال لاتيانها فلا مانع من بقاء وجوب الواجب لانه يستطيع فعل المقدمة و فعل الواجب بعدها، و اذا لم يبق مجال للواجب بعد ترك المقدمة فإن الواجب يسقط لتحقق عصيانه باختياره لترك مقدمته باختياره.

و الحاصل: انه إذا لم تجب المقدمة شرعا فلا يمنع الشارع من تركها، و ليس لازم عدم المنع منه ان لا يبقى الواجب على وجوبه أو التكليف بما لا يطاق، لأن سبب عدم منعه عن تركها انه ليس فيها مناط الوجوب الشرعي بعد حكم العقل بلزوم اتيانها، و ليس لازم عدم المنع من الشارع عن شي ء الا عدم العقاب على الترك، و هذا اللازم غير باطل، فإن التارك للمقدمة لا يعاقب على تركها، و انما يعاقب

ص: 263

نعم لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعا و عقلا، يلزم أحد المحذورين، إلا أن الملازمة على هذا في الشرطية الاولى ممنوعة، بداهة أنه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا و عقلا، لامكان أن

______________________________

على ترك الواجب إذا لزم من تركها تركه و هو عقاب على ترك الواجب بالاختيار، اذ يمكنه ان يطيع و يفعل المقدمة و يفعل الواجب.

و على كل فقد اتضح: انه إذا لم يمنع الشارع عن ترك المقدمة لا يلزم التكليف بما لا يطاق، اذ ليس معنى عدم المنع عن ترك المقدمة لزوم تركها، و لا يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا. و قد أشار إلى لزوم اصلاح الاستدلال بارادة عدم المنع من الجواز بقوله: «بارادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى» لأن الاباحة الشرعية لا تلازم عدم الوجوب، فاذا كان المراد لزوم الاباحة الشرعية إذا لم تجب المقدمة فهي ملازمة واضحة الفساد، و لذا قال: «لا الاباحة الشرعية و إلّا كانت الملازمة واضحة البطلان» و أشار إلى لزوم اصلاح الشرطية الثانية بقوله:

«و ارادة الترك عما اضيف اليه الظرف» و انه لا بد و ان يراد من قوله: حينئذ- انه حين الترك لا حين الجواز، لانه من الواضح عدم الملازمة بين عدم المنع الشرعي و التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن وجوبه، و لذا قال: «لا نفس الجواز» إلى آخر كلامه. و قوله: «ما لا يخفى» هو المبتدأ المتأخر للخبر المتقدم الذي هو قوله: فيه، و أشار إلى الجواب بعد الاصلاح بقوله: «فإن الترك بمجرد عدم المنع» إلى آخره الذي محصله ما عرفت: من ان الترك للمقدمة لعدم منع الشارع عنه لا يقتضي لزوم التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا، و لذا قال: «لا يوجب صدق احدى الشرطيتين» فإن الشرطية الثانية تنحل إلى شرطيتين، لأن الشرطية التي لها تاليان على سبيل منع الخلو تنحل إلى شرطيتين لا يخلو الحال عن إحداهما، و قد أشار إلى انه لا يلزم احد المحذورين بصرف عدم المنع من الترك بقوله: «و لا يلزم احد المحذورين إلى آخر كلامه.

ص: 264

لا يكون محكوما بحكم شرعا، و إن كان واجبا عقلا إرشادا، و هذا واضح (1).

______________________________

(1) قد ظهر- مما مر- انه إذا اريد من الجواز في الشرطية الاولى عدم المنع فالشرطية صحيحة، و لا مانع من الالتزام بها إلّا ان الخلل في الشرطية الثانية، و لكن إذا اريد من الجواز في الشرطية الاولى هو الجواز شرعا و عقلا فإن الشرطية الثانية تكون صحيحة، لانه مع جواز الترك للمقدمة شرعا و عقلا لا يعقل ان يبقى الواجب على وجوبه، و مع بقائه على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، لأن الواجب النفسي مراد لزوما لانه واجب فيجب سد ثغور عدمه من كل جهة، و انما جاز للشارع ان لا يوجب سد عدمه من ناحية مقدمته اتكالا على حكم العقل بلزوم سده، و اذا فرض ان العقل لا يحكم بلزوم سده فحكم الشارع بلزوم اتيانه و ترخيصه بعدم لزوم سد عدمه متنافيان، فمراده من لزوم احد المحذورين هو انه يلزم التنافي بين الوجوب المطلق و الترخيص الشرعي و حكم العقل بالترخيص أيضا.

و بعبارة اخرى: انه لازم الترخيص العقلي و الشرعي في ترك المقدمة انه لا عقاب على ترك الواجب المستند إلى ترك المقدمة، و لازم هذا عدم الوجوب النفسي فيلزم خروج الواجب عن كونه واجبا، و هو مراده من لزوم احد المحذورين دون التكليف بما لا يطاق، لبداهة ان الحكم بالترخيص لترك المقدمة لا يرفع القدرة فيلزم التكليف بما لا يطاق.

و على كل فقد تبين صحة الشرطية الثانية على فرض كون المراد بالجواز هو الجواز العقلي و الشرعي، إلّا ان الشرطية الاولى- حينئذ- لا تكون صحيحة لعدم الملازمة بين عدم وجوب المقدمة و جوازها شرعا و عقلا، لجواز ان تكون المقدمة المرفوع وجوبها عند الشارع ان تكون واجبة بحكم العقل و لا يكون لها حكم اصلا عند الشرع لاكتفائه بحكم العقل بلزوم اتيانها، و قد أشار إلى منع الملازمة في

ص: 265

و أما التفصيل بين السبب و غيره، فقد استدل على وجوب السبب بأن التكليف لا يكاد يتعلق إلا بالمقدور، و المقدور لا يكون إلا هو السبب، و إنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهرا، و لا يكون من أفعال المكلف و حركاته أو سكناته، فلا بد من صرف الامر المتوجه إليه عنه إلى سببه.

و لا يخفى ما فيه، من أنه ليس بدليل على التفصيل، بل على أن الامر النفسي إنما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب، مع وضوح فساده، ضرورة أن المسبب مقدور للمكلف، و هو متمكن عنه بواسطة السبب، و لا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة، كانت بلا واسطة أو معها، كما لا يخفى (1).

______________________________

الشرطية الاولى إذا كان المراد من الجواز فيها الجواز شرعا و عقلا بقوله: «ممنوعة بداهة انه لو لم يجب شرعا لا يلزم ان يكون جائزا شرعا و عقلا لامكان ...» إلى آخره.

(1) قد ظهر- مما مر- ان المقدمة بناء على كون المناط في وجوبها هو حصول ما لولاه لما امكن حصوله، لازمه ان المقدمة واجبة بجميع اجزائها سببا كان أو شرطا أو معدا، و ان كان المناط هو ترتب الواجب عليها فالمقدمة الواجبة هي العلة التامة بوجوب واحد، بخلاف الاول فإن لكل جزء منها وجوبا على حدة، و هذا قول ثالث و هو التفصيل بين السبب و غيره.

و استدل له: بان القدرة شرط في التكاليف و القدرة هي القوة المنبثة في العضلات التي تحركها الارادة، و العضلات انما تتحرك إلى السبب، و اما المسبب فلا تصل اليه القوة المنبثة في العضلات.

و هذا الاستدلال غريب من مدعي التفصيل، لانه اولا: ان القدرة العضلانية كما انها موجودة بالنسبة إلى السبب كذلك موجودة بالنسبة إلى جميع أجزاء العلة من الشرط و المعد، فلا تكون نتيجته وجوب خصوص السبب. و اظن ان الغرض من هذا التفصيل هو وجوب خصوص المقدمة التوليدية دون المقدمة الاختيارية، فإن

ص: 266

و أما التفصيل بين الشرط الشرعي و غيره، فقد استدل على الوجوب في الاول بأنه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا، حيث أنه ليس مما لا بد منه عقلا أو عادة.

و فيه- مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي أنه لا يكاد يتعلق الامر الغيري إلا بما هو مقدمة الواجب، و لو كانت مقدميته

______________________________

المقدمة الاختيارية المسبب فيها مباشري تتحرك العضلات اليه، و الاستدلال يدل على ان القدرة مناط التكليف، ففي الفعل الارادي تتحرك العضلات نحو المسبب فيصح التكليف به و لا يتعلق بمقدمته وجوب و ان كانت مقدورة لارشاد العقل اليها، و في الامور التوليدية لا يتعلق التكليف بالمسبب لانه غير مقدور، فالمتعلق للتكليف هو السبب دون المسبب.

و لا يخفى ان لازم ذلك كون المقدمة السببية التوليدية وجوبها نفسي لا مقدمي غيري.

و على كل فقد اورد عليه المصنف بايرادين:

الأول: ان لازم هذا الاستدلال كون التكليف المتعلق بالمقدمة نفسيا لا غيريا، فلا يكون هذا تفصيلا في التكليف الغيري المقدمي بين السبب و غيره، و الى هذا أشار بقوله: «و فيه من انه ليس بدليل على التفصيل» إلى آخره.

الثاني: ان القدرة التي هي شرط في التكاليف اعم من القدرة بلا واسطة و هي الموجودة في المسببات المباشرية و القدرة مع الواسطة و هي الموجودة في التكاليف بالمسببات التوليدية، فالمسبب التوليدي مقدور عليه بالقدرة على سببه، و لا يعتبر في صحة تعلق التكليف بشي ء الا كونه مقدورا عليه و لو بالواسطة و الى هذا أشار بقوله:

«مع وضوح فساده ضرورة ان المسبب مقدور للمكلف» إلى آخر كلامه.

و لا يخفى ان هذا الجواب الثاني يصلح جوابا حتى على ما احتملناه: من ان مراد المفصل هو وجوب خصوص المقدمات التوليدية كما لا يخفى.

ص: 267

متوقفة على تعلقه بها لدار، و الشرطية و إن كانت منتزعة عن التكليف، إلا أنه عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط، لا عن الغيري (1)،

______________________________

(1) لا يخفى انه ليس غرض هذا المفصل هو وجوب خصوص الشرط الاصطلاحي، بل مراده من الشرط ما يتوقف عليه الواجب.

و حاصل هذا التفصيل: ان ما يتوقف عليه الواجب، تارة يكون مما يعرفه العقل و العادة و مثل هذا لا يكون واجبا لارشاد العقل و العرف اليه، و اما الشرط الذي لا يدركه العقل و لا يعرفه العرف و انما دل على اشتراطه وجوبه المستفاد من الشارع فهذا بالخصوص هو الواجب، لانه لو لا إيجاب الشارع له لما كان شرطا، و لذا يقولون في أمثال هذه الشروط ان الشرطية منتزعة عن التكليف. و قد اجاب عنه المصنف بجوابين:

الاول: ما مر منه في اول المبحث في تقسيم المقدمة إلى شرعية و عقلية بان المقدمة الشرعية ترجع إلى العقلية اذ لو لا دخالتها في ترتب الغرض على الواجب لما كانت شرطا، غايته ان هذه الدخالة حيث لا يهتدي اليها العقل و العرف أبانها الشارع المطلع على الواقعيات. فاذا كان المناط في الوجوب المقدمي هو دخالته في ترتب الغرض فلا فرق بين الشرط العقلي و الشرعي و الى هذا أشار بقوله: «و فيه مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي».

و الثاني: انه قد عرفت ان المراد من الشرط و الشرطية في المقام هو المقدمة و المقدمية، فاذا كانت مقدمية الشرط الشرعي ماخوذة و منتزعة عن وجوبه يلزم الدور، لأن الوجوب المقدمي انما يترشح من الواجب النفسي على ما هو مقدمة و شرط لتوقف الواجب النفسي عليه، فترشح الوجوب إلى المقدمة يتوقف على كونها مقدمة، و اذا كانت شرطية المقدمة متوقفة على الوجوب المقدمي لزم الدور، لأن الوجوب يتوقف على كونها مقدمة، و كونها مقدمة شرطية تتوقف على الوجوب

ص: 268

فافهم (1).

مقدمة المستحب كمقدمة الواجب

تتمة: لا شبهة في أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب، فتكون مستحبة لو قيل بالملازمة و أما مقدمة الحرام و المكروه فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة، إذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا، كما كان متمكنا قبله، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما، نعم ما لا يتمكن معه من الترك المطلوب، لا محالة يكون مطلوب الترك، و يترشح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه

______________________________

كما زعمه المستدل: من كون المقدمية و الشرطية انما تنتزع من الوجوب المقدمي فهو دور واضح، و اليه أشار بقوله: «انه لا يكاد يتعلق الامر الغيري» إلى آخره.

ثم لا يخفى ان قولهم: ان الشرطية منتزعة عن التكليف، ليس غرضهم انها تنتزع عن التكليف المقدمي، بل مرادهم انها منتزعة عن التكليف النفسي المتعلق بشي ء قد اخذ فيه شي ء يتوقف الغرض من الواجب النفسي عليه، كقوله: صل عن طهارة أو تستر أو استقبال، و الى هذا أشار بقوله: «و الشرطية و ان كانت منتزعة عن التكليف ...» إلى آخره.

(1) لعله أشار إلى ان غرض المفصّل من قوله: لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا ليس توقف مقدّميته في مرحلة الثبوت و الواقع على وجوبه ليلزم الدور، بل غرضه ان الشرطية في مقام الاثبات تتوقف على الوجوب و لا مانع منه، لأن الوجوب انما يتوقف على ما هو مقدمة و دخيل واقعا، و المتوقف على الوجوب هو الشرطية في مقام الاثبات، اذ لو لا ايجابه شرعا لما انتزع منه في مقام الخطاب انه شرطا للواجب، فالوجوب يتوقف على الشرطية الثبوتية، و تتوقف على الوجوب الشرطية الاثباتية، و اذا اختلف الموقوف و الموقوف عليه فلا دور.

ص: 269

المقدمة، فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته (1).

______________________________

(1) المقصود من هذه التتمة هو الفرق بين مقدمة الواجب و المستحب، و مقدمة الحرام و المكروه- بناء على القول بالملازمة- فانه حيث ان الوجود إذا كان مطلوبا يحتاج إلى سد انحاء عدمه من كل جهة و كل جهة من جهات ما له دخالة في عدمه يتوقف وجوده على ايجادها، و حيث كان وجوده مطلوبا فتولد من ارادته ارادات لجميع ما يتوقف عليه وجوده، فإن المطلوب ان كان واجبا كانت مقدماته جميعا واجبة، و ان كان مستحبا كانت مقدماته جميعا مستحبة أيضا.

و اما الحرام و المكروه فحيث ان وجوده مبغوض و المطلوب عدمه، و عدم الشي ء يتحقق بترك احد مقدماته و لا يتوقف تركه على ترك جميع مقدماته، فلذا لا تكون جميع تروك مقدماته مطلوبة، اذ لا يلازم وجودها و عدم تركها وجود المبغوض، و حيث ان وجوده يحصل بالمقدمة الاخيرة و بتركها يتحقق تركه فلذا تتعين للنهي و تكون هي المنهي عنها فقط. إلّا ان الافعال حيث انها تنقسم إلى اختيارية و هي التي تكون الجزء الاخير من العلة فيها هي الارادة، و الارادة لا يعقل ان تكون متعلقة للامر و النهي كما هو رأي المشهور في ان الشرط في التكاليف ان تكون اختيارية، و اما الاختيار بنفسه و هو الارادة ليس باختياري و إلّا لزم التسلسل- كما مر غير مرة- فلذا كانت مقدمات الفعل الاختياري سواء الحرام أو المكروه كلها ليست منهيا عنها فلا تكون مكروهة و لا محرمة، لأن ما عدا الارادة فيها قد عرفت انه لا وجه لارادة تركها فلا وجه لحرمتها أو كراهتها، اذ لا يحصل بوجودها وجود المبغوض المحرّم أو المكروه، و المقدمة الاخيرة فيها هي الارادة و الارادة لا تكون متعلقة لامر و لا نهي، و تنحصر مقدمة الحرام أو المكروه المنهي عنهما بالنهي المقدمي في خصوص المقدمة الاخيرة في الاسباب التوليدية، لأن المقدمة الاخيرة فيها يحصل بوجودها وجود المبغوض و من عدمها يستمر عدم المبغوض.

ص: 270

.....

______________________________

فالمتحصل من جميع ما ذكرنا: ان المقدمة المنهي عنها في الحرام و المكروه هو خصوص المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية، و قد أشار الى ان مقدمة المستحب كمقدمة الواجب بقوله: «لا شبهة في ان مقدمة المستحب كمقدمة الواجب» إلى آخر كلامه. و السبب ما عرفت: من انه بناء على الملازمة تترشح من ارادة الشي ء ارادة لكل واحدة من مقدماته، فمن الواجب يترشح الوجوب و من المستحب يترشح الاستحباب لكل ما يتوقف عليه الوجود المطلوب، و قد أشار إلى انه في الحرام و المكروه لا يترشح من النهي- منهما- نهي ما عدا المقدمة الاخيرة في خصوص الافعال التوليدية بقوله: «و اما مقدمة الحرام و المكروه فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة» و ظاهر هذا هو عدم النهي عما هو مقدمة للحرام أو المكروه مطلقا سواء الاخيرة أو غيرها. إلّا انه سيصرح بان خصوص المقدمة الاخيرة في المقدمات التوليد يتعلق بها النهي الغيري.

ثم شرع في تعليل ذلك بقوله: «اذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا»: أي ان من المقدمات ما يتمكن مع فعله من ترك الحرام و المكروه اختيارا، و هي جميع مقدماته ما عدا المقدمة الاخيرة منها فانه مع فعلها يستطيع ترك الحرام، فترك الحرام كما انه متحقق في حال تركها كذلك هو متحقق في حال فعلها، فانه لو فعلها جميعا ما عدا الاخيرة منها فهو بعد متمكن من ترك الحرام اختيارا بترك المقدمة الاخيرة منها، فهو مع فعلها كحاله قبل فعلها في كونه متمكنا من ترك الحرام اختيارا، و الى هذا أشار بقوله: «كما كان متمكنا قبله فلا دخل له اصلا في حصول ما هو مطلوب من ترك الحرام أو المكروه»: أي فلا دخل لفعل ما عدا المقدمة الاخيرة في حصول ما هو المنهي عنه، لانه مع فعل هذه المقدمات جميعا عدا الاخيرة المكلف يستطيع من ترك المنهي عنه باختياره و ذلك بتركه اختيارا للمقدمة الاخيرة، ففعل هذه المقدمات لا دخل له بحصول المنهي عنه الذي هو الحرام. و حيث انه مع فعل هذه المقدمات ترك الحرام أو المكروه متحقق بترك المقدمة الاخيرة فلا موجب لأن يترشح

ص: 271

.....

______________________________

من طلب ترك الحرام طلب ترك هذه المقدمات: أي ما عدا الاخيرة، و لذا قال:

«فلم يترشح من طلبه»: أي من طلب ترك الحرام أو المكروه طلب ترك مقدماتهما و هي ما عدا المقدمة الاخيرة، و قد أشار إلى توجه النهي إلى خصوص المقدمة الاخيرة بقوله: «نعم ما لم يتمكن معه من الترك المطلوب لا محالة يكون مطلوب الترك» و هي المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية، فانه بعد فعلها لا يتمكن من ترك الحرام أو المكروه، فبتركها يتحقق تركهما و بفعلها يحصل ما طلب تركه و هو الحرام أو المكروه، فتكون هذه المقدمة بالخصوص هي المنهي عنها و المترشح لها النهي من النهي التحريمي و النهي الكراهتي، و لذا قال: لا محالة يكون مطلوب الترك و هو ما لم يتمكن مع فعله من ترك المطلوب تركه «و يترشح من طلب تركهما»: أي الحرام أو المكروه «طلب ترك خصوص هذه المقدمة» و هي المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية.

و قد أشار إلى عدم حرمة ما عداها من المقدمات و هي جميع المقدمات المتقدمة على المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية، و جميع المقدمات في الافعال الاختيارية سواء الاخيرة منها و غيرها لا تكون منهيا عنها و لا يترشح لها نهي غيري بقوله:

«فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته».

و توضيحه: انه قد عرفت ان النهي الغيري انما يترشح لترك المقدمة التي يكون مع فعلها لا يبقى مجال للترك المطلوب و لا يترشح لغيرها من المقدمات، و اذا لم يكن للحرام مثل هذه المقدمة لا تكون مقدمة من مقدماته مترشحا لها النهي الغيري.

و بعبارة اخرى: ان المقدمة التي يترشح لها النهي الغيري هي المقدمة التي بتحققها يكون المنهي عنه ضروري التحقق، و اذا لم يكن للمنهي عنه مثل هذه المقدمة لا تكون مقدمة من مقدماته بحرام، و هذا معنى قوله: «فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته» لأن المقدمة التي يترشح لها النهي من المحرم أو المكروه هي خصوص هذه المقدمة و هي المقدمة

ص: 272

لا يقال: كيف و لا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها يوجد، ضرورة أن الشي ء ما لم يجب لم يوجد (1).

______________________________

الموصوفة بكونها بعد تحققها يكون الحرام ضروري التحقق و هذا معنى قوله لا يبقى معها اختيار تركه.

و على هذا تنحصر المقدمة المحرمة بالمقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية، لأن الافعال الاختيارية و ان كان لها مقدمة أخيرة بحيث إذا وجدت لا بد و ان يوجد الحرام أو المكروه بعدها إلّا أن هذه المقدمة الاخيرة هي الارادة و الارادة لا تكون متعلقة للامر أو النهي، و قد أوضح هذا بقوله: لا يقال، و الجواب بقوله: فانه يقال.

(1) حاصله: ان الممكن لا يعقل ان يوجد إلّا إذا كانت له علة تامة بحيث يجب ان يوجد معها، إذ الممكن مسلوب الضرورة من الطرفين و تأتيه الضرورة و اللزوم من قبل غيره و هي علته، و لا يجوز ان يوجد الممكن إلّا إذا كان بحيث يجب ان يوجد، لانه إذا جاز ان يوجد مع امكان ان لا يوجد جاز ان يوجد من غير علة لأن لازم ذلك ان يترجح احد طرفيه على الآخر من دون مرجح فيكون قد حصل ترجح لاحد اطرافه من دون مرجح، و هو معنى حصول المعلول من غير علة و تفصيله موكول إلى محله.

و على كل ان الممكن ما لم يجب لم يوجد و هي قضية مبرهن عليها في محلها بحيث اصبحت اليوم من المسلمات. و حيث ان الفعل التوليدي و الفعل الاختياري يشتركان في الامكان فكل منهما لا يعقل ان يوجد إلّا ان يكون ضروريا، و معنى كون وجوده ضروريا هو ان لا يبقى مجال لتركه، فكما ان في الافعال التوليدية مقدمة أخيرة يكون وجود الفعل عندها ضروريا، كذلك في الافعال الاختيارية مقدمة أخيرة يكون الفعل معها ضروريا.

و على هذا فكيف يختص النهي الغيري بخصوص المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية دون الافعال الاختيارية؟ مع ان الفعل الاختياري كالتوليدي في انه

ص: 273

.....

______________________________

ضروري التحقق عند حصول مقدمته الاخيرة، و الى هذا أشار بقوله: «كيف»:

أي كيف يكون في خصوص الافعال التوليدية مقدمة بحيث يكون الفعل عندها ضروريا فيترشح له النهي الغيري و لا يكون في الافعال الاختيارية مثلها، و انه ليس في الافعال الاختيارية مقدمة يترشح لها النهي مع انها مثل الافعال التوليدية لها مقدمة أخيرة يكون الفعل عند وجودها ضروريا، و هذا مراده من قوله: «و لا يكاد يكون فعل»: أي لا يعقل ان يوجد فعل «الا عن مقدمة لا محالة معها يوجد» و هي الجزء الاخير من العلة التامة التي لا محالة انه عند وجودها يوجد المعلول «لضرورة ان الشي ء ما لم يجب لم يوجد».

فاجاب عنه بقوله: «فانه يقال» الخ.

و حاصله: انه نعم لا يفترق الحال في الافعال التوليدية و الافعال الاختيارية في ان لكل منهما مقدمة اخيرة يجب عند وجودها وجود الفعل و هي الجزء الاخير من العلة التامة، إلّا ان الجزء الاخير في الافعال التوليدية فعل اختياري يمكن ان يتعلق به النهي، كالالقاء في النار الذي عند حصوله يحصل الاحتراق و كحركة المفتاح الذي يحصل بتحققها حركة الفتح للمزلاج، و الالقاء و حركة المفتاح فعلان اختياريان للفاعل، و اما في الافعال الاختيارية فمقدمتها الاخيرة هي الارادة و هي لا يعقل ان تكون متعلقة لامر أو نهي، لأنها نفس الاختيار التي هي مبادئ الافعال الاختيارية، و الاختيار ليس بالاختيار و إلّا لتسلسلت الارادات، و لذا قال: «نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام» فالافعال الاختيارية كالافعال التوليدية لها مقدمة اخيرة يجب معها صدور الفعل «لكنه لا يلزم ان يكون ذلك»: أي المقدمة التي يجب عندها صدور الفعل «من المقدمات الاختيارية بل» مقدمته الاخيرة «من المقدمات غير الاختيارية كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار و إلّا لتسلسل» كما مر غير مرة في ان الارادة من مبادئ الفعل الاختياري و اما هي فليست اختيارية و إلّا لزم التسلسل.

ص: 274

فإنه يقال: نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام، لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية، بل من المقدمات غير الاختيارية، كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار، و إلّا لتسلسل، فلا تغفل، و تأمل.

فصل فى مسالة الضد

اشارة

«فصل» الامر بالشي ء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا، فيه أقوال، و تحقيق الحال يستدعي رسم أمور:

الاول: الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية، أو الجزئية، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين، و طلب ترك الآخر، أو المقدمية على ما سيظهر (1)، كما أن المراد بالضد هاهنا،

______________________________

(1) لا يخفى ان عنوان هذه المسألة قد اشتمل على الفاظ: الامر، و بالشي ء، و يقتضي، و النهي و الضد.

و لفظ الامر و الشي ء و النهي لا تحتاج إلى تفسير، و بقي لفظ الاقتضاء و الضد.

فعقد الامر الاول لتفسيرهما. و معنى الاقتضاء لغة و عرفا هو الاستيجاب، فيقال اقتضى الحال كذا: أي استوجب الحال كذا، و فعل فلان ما يقتضيه كرمه: أي ما يستوجبه كرمه، فلذا كان الاقتضاء بحسب هذا المفهوم العام يشمل الدلالة اللفظية و العقلية، فمسألة الضد سواء كانت لفظية أو عقلية فلفظ الاقتضاء يشملها.

و اتضح أيضا: ان الاقتضاء بمعناه العام يشمل الاقتضاء بنحو العينية المفهومية و المصداقية، و قد ادعيت العينية المصداقية في خصوص الضد العام، و سيأتي التعرض لها في الامر الثالث إن شاء اللّه تعالى.

ص: 275

.....

______________________________

و اما العينية المفهومية فلم يدعها احد، لأن العينية بحسب المفهوم معناها الترادف و لا يعقل الترادف بين مفهوم الامر بشي ء و مفهوم النهي عن ضده. و كيف يكون المفهوم الايجابي مرادفا للمفهوم السلبي؟ نعم، يمكن ان يكون مصداق المفهوم الايجابي مصداقا- أيضا- للمفهوم السلبي و ان اختلفت جهة انتزاعهما بل لا بد ان يكون جهة انتزاعهما مختلفة، اذ لا يعقل انتزاع ما حقيقته النفي و العدم مما حقيقته الايجاب و الثبوت، فإن الانسان- مثلا- يكون مصداقا لمفهوم الناطق و لمفهوم لا بقر، و لكن جهة انتزاع الناطقية فيه غير الجهة التي ينتزع منها انه لا بقر.

و على كل فلفظ الاقتضاء يشمل العينية المصداقية و المفهومية و ان لم يدع الثانية احد، و يشمل أيضا لفظ الاقتضاء الاقتضاء بنحو الجزئية: بان يدعى ان جزء معنى الامر بالشي ء هو النهي عن ضده و هي الدلالة التضمنية.

و يشمل لفظ الاقتضاء- أيضا- اللزوم بمعانيه الثلاثة: اللزوم البين بالمعنى الاخص: و هو ما يكفي في تصور اللازم تصور الملزوم فقط فالتلازم بينهما امر مفروغ عنه، و قد بلغ إلى حد انه بمجرد حضور الملزوم في الذهن يحضر اللازم أيضا و هذا مناط الدلالة الالتزامية. و اللزوم البين بالمعنى الاعم: و هو ما يحتاج الجزم باللزوم بينهما إلى تصور الملزوم و تصور اللازم و شي ء آخر كالزوجية و الاربعة، فإن الزوجية لازم بين بالمعنى الاعم للاربعة، اذ لا يكفي في تصورها نفس تصور الاربعة، بل لا بد من معرفة كون الاربعة منقسمة بمتساويين. و اللزوم غير البين: هو الذي يحتاج الجزم باللزوم فيه إلى اقامة برهان كالحدوث للعالم، و منه ما يدعى من اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده الخاص، لأن ترك احد الضدين من مقدمات وجود الآخر فانه من التلازم غير البين، اذ لا بد فيه من اقامة الدليل على كون عدم احد الضدين من مقدمات وجود الضد الآخر، و الى ما ذكرنا أشار بقوله: «الاقتضاء في العنوان اعم من ان يكون بنحو العينية أو الجزئية أو اللزوم» و قد أشار إلى اللزوم بمعنييه

ص: 276

هو مطلق المعاند و المنافي وجوديا كان أو عدميا (1).

______________________________

الاولين بقوله: «من جهة التلازم بين طلب احد الضدين و طلب ترك الآخر» و الى اللزوم بمعناه الثالث بقوله: «أو المقدمية».

(1) حيث كان المراد من الضد في اصطلاح الاصوليين غير المراد منه في اصطلاح المنطقيين فلا بأس ببيان حال النسب بين الشيئين تتميما للفائدة.

فنقول: قد ذكروا في مقام تقسيم النسبة بين الشيئين ان كل مفهوم إذا لحظ مع مفهوم آخر، فإما ان يكونا مشتركين في ماهية نوعية واحدة فهما مثلان، و لذا يقولون: المثلان هما الفردان من طبيعة نوعية واحدة.

و اذا لم يشتركا في ماهية واحدة: بان كان لكل واحد منهما ماهية نوعية تخصّه غير الآخر، فاما ان لا يكون لهما إباء عن الاجتماع في محل واحد فهما المتخالفان كالسواد و الحلاوة، فإن الطبيعة النوعية للسواد هو الكيف المبصر و الطبيعة النوعية للحلاوة هو الكيف المذوق لكنهما لا إباء لهما عن الاجتماع في محل فيكون الشي ء الواحد اسودا و حلوا.

و اما ان يكون لهما إباء عن الاجتماع في محل واحد فهما المتقابلان، و التقابل اما ان يكون بين امرين وجوديين، أو وجودي و عدمي، و لا يعقل ان يكون التقابل بين عدميين اذ لا ميز في الاعدام من حيث العدم.

و الوجودان المتقابلان تارة يكونا متلازمين في التصوّر و متكافئين في القوة و الفعلية فهما المتضائفان كالفوق و التحت، و اخرى لا يكونان متلازمين فهما ضدان، الّا ان اهل المعقول يشترطون في تقابل التضاد أن يكون الوجودان المتقابلان بينهما غاية الخلاف و التباعد، فيطلقون الضدين على السواد و البياض لا على السواد و الحمرة.

و التقابل بين وجودي و عدمي تارة يكون بنحو العدم و الملكة: و هما الوجود و العدم المتقابلان اللذان لا يجتمعان و لا يرتفعان عمن له القابلية لهما كالعمى

ص: 277

الثاني: إن الجهة المبحوثة عنها في المسألة، و إن كانت أنه هل يكون للامر اقتضاء بنحو من الانحاء المذكورة، إلا أنه لما كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص، إنما ذهبوا إليه لاجل توهم مقدمية ترك الضد، كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال و تحقيق

______________________________

و البصر، فإن العمى ليس هو اللابصر بل هو عدم البصر ممن له قابلية ان يكون بصيرا و لذلك يرتفعان عمن ليس له القابلية كالجدار فانه لا اعمى و لا بصير.

و اخرى: هما الوجود و العدم اللذان لا يمكن ان يجتمعا و لا يرتفعا عن شي ء اصلا كالبصر و اللابصر، فإن الجدار و ان لم يصدق عليه العمى إلّا انه يصدق عليه انه لا بصر له، و هذا التقابل هو تقابل الايجاب و السلب.

و اذا عرفت هذا عرفت ان الضد باصطلاح اهل فن المعقول و المنطق يختص بالوجوديين و لا يشمل الوجودي و العدمي.

و اما الضدان عند الاصوليين فهما مطلق المتعاندين سواء كانا وجوديين أو احدهما وجودي و الآخر عدمي، فالضدّية عندهم هي التعاند و التنافي و لذلك يقسمون الضد إلى عام و خاص.

و مرادهم بالضد العام مطلق العدم و الترك فلو كانت الضدية عندهم كما هي باصطلاح اهل المنطق لما صح تقسيم الضد إلى المعاند الوجودي و العدمي.

و لا يخفى أيضا انه لا يشترط في المتضادين عند الاصوليين ان يكون بينهما غاية الخلاف، فالسواد و الحمرة عندهم من المتضادين أيضا، و قد أشار إلى ان المراد بالضد في المقام هو الضد عند الاصوليين بقوله: «كما ان المراد بالضد هاهنا هو مطلق المعاند» إلى آخر كلامه.

ص: 278

توهم كون ترك الضد مقدمة لضد آخر

المقال، في المقدمية و عدمها، فنقول و على اللّه الاتكال (1): إن توهم توقف الشي ء على ترك ضده، ليس إلا من جهة المضادة و المعاندة بين

______________________________

(1) ينبغي اولا، بيان ان المهم في هذه المسألة هو اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده الخاص دون ضده العام الذي سيتعرض لاقتضائه في الامر الثالث، فلذلك ابتدأ في البحث عن اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده الخاص في هذه الجهة الثانية.

ثم لا يخفى ان الاقتضاء المذكور في العنوان هو استيجاب شي ء لشي ء و هو يشمل أي نحو من انحاء اللزوم، إلّا انه لما كان من الواضح ان الامر بالشي ء لا يستلزم النهي عن ضده الخاص بنحو اللزوم البين بالمعنى الاخص، بحيث يلزم من مجرد تصور الامر بالشي ء تصور النهي عن ضده الخاص، و لا يستلزمه بنحو اللزوم البين بالمعنى الاعم كملازمة الزوجية للاربعة، إذ لو كان كذلك لما احتاج إلى اقامة البراهين و النقض و الابرام، فلم يبق الّا اللزوم غير البين الذي يحتاج إلى اقامة البرهان.

و قد استدل عليه المشهور القائلون باقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده الخاص- بعد البناء على الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدماته- ان من جملة مقدمات وجود الشي ء عدم ضده الخاص، و اذا كان عدم الضد الخاص واجبا لانه مقدمة للواجب و لا ريب ان الامر بالشي ء يقتضي النهي عن نقيضه- كما هو واضح- مضافا إلى ما سيأتي التعرض له في الامر الثالث و نقيض العدم هو الوجود فاذا كان عدم شي ء مطلوبا كان نقيضه و هو الوجود منهيا عنه، فالامر بالشي ء يستلزم وجوب عدم ضده الخاص المستوجب للنهي عن وجود الضد الخاص. فعمدة ادلة القائلين باقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده الخاص هو المقدمية، و لذا قال: «انما ذهبوا اليه»: أي إلى الاقتضاء لأجل توهم مقدمية ترك الضد، فلذا اوجب ذلك التعرض لبيان السبب لتوهم كون عدم الضد الخاص من مقدمات وجود ضده.

ص: 279

الوجودين، و قضيتها الممانعة بينهما، و من الواضحات أن عدم المانع من المقدمات (1).

و هو توهم فاسد، و ذلك لأن المعاندة و المنافرة بين الشيئين، لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق، و حيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين و ما هو نقيض الآخر و بديله، بل بينهما كمال الملاءمة، كان أحد العينين مع نقيض الآخر و ما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر، كما لا يخفى.

______________________________

(1) و حاصله، ان السبب لذهاب القائلين بان عدم الضد مما يتوقف عليه وجود ضده: هو انه مما لا ريب فيه ان العلة التامة لوجود الشي ء مركبة من مقتض و شرط، و من جملة الشروط عدم المانع فعدم المانع من أجزاء علة وجود الشي ء.

و لا اشكال ان كل ضد يمنع بوجوده وجود الضد الآخر فالتمانع بينهما مما لا يمكن انكاره، فاذا كان وجود احد الضدين مانعا لوجود الآخر كان عدمه من شرائط وجود الآخر، و اذا كان عدم الضد من أجزاء علة الضد الآخر فالامر بالشي ء يقتضي الامر بمقدماته- بناء على الملازمة- فعدم الضد مطلوب لمقدميته للواجب المطلوب وجوده، و اذا كان عدم شي ء مطلوبا كان نقيضه و هو وجود الضد الآخر منهيا عنه، فالامر بشي ء يقتضي النهي عن ضده لانه يقتضي وجوب عدمه و وجوب عدم الشي ء يقتضي النهي عن وجوده، و هذا الاقتضاء انما جاء من طلب وجود الضد الآخر بحسب هذا النحو من الاستلزام.

فعمدة السبب في توهم المقدمية هو التمانع بين الضدين، و لذا قال: «ان توهم توقف الشي ء على ترك ضده ليس إلّا من جهة المضادة و المعاندة بين الوجودين» إلى آخر كلامه.

ص: 280

فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر، كذلك في المتضادين (1)، كيف و لو اقتضى التضاد توقف

______________________________

(1) و حاصل ما اورده- على دعوى كون عدم الضد مقدمة لوجود ضده- ايرادان:

الاول: ان التضاد بين الشيئين لا يقتضي إلّا انهما لا يجتمعان، و ليس لازم عدم الاجتماع بين الشيئين التمانع الذي لازمه ان يكون عدم احدهما مقدمة لوجود الآخر، فإن كون عدم احدهما مقدمة لوجود الآخر غير معقول، لأن من الواضح ان العلة التامة لها التقدم العليّ على معلولها، و اما أجزاء العلة كالمقتضي و الشرط الذي من جملته عدم المانع فإن لكل من هذه الأجزاء التقدم بالطبع الذي مناطه امكان ان يتحقق السابق من دون اللاحق، و لا يمكن ان يتحقق اللاحق و لا يتحقق السابق معه كتقدم الواحد على الاثنين، و لا يعقل ان يكون مثل هذا التقدم في عدم الضد على وجود ضده الآخر، لانه من الواضح ان كل متناقضين في رتبة واحدة لأن كل نقيض هو البديل لنقيضه الذي يحل محلّه.

و من الواضح- أيضا، أنه ليس بين وجودي الضدين تقدم و لا تاخر لضرورة ان وجود كل واحد من الضدين لا ربط له بوجود الضد الآخر، و التقدم و التاخر الطبعي انما هو لأجزاء علة الشي ء، اما أجزاء علة القوام كتقدم كل من أجزاء المركب على المركب، أو علل الصدور كتقدم كل من المقتضي و الشرط على المعلول و وجود الضد بالنسبة إلى وجود ضده ليس من علل قوامه و لا من علل صدوره، فليس بين وجوديهما تقدم و لا تاخر. و كل نقيض حيث انه هو البديل الذي يحل محل نقيضه فلا يعقل إلّا ان يكون هو و نقيضه في مرتبة واحدة، فعدم احد الضدين الذي هو النقيض لوجوده انما يحل محل وجوده فهو في رتبته. و حيث لا تقدم و لا تاخر بين وجودي الضدين فلا بد و ان يكون نسبة نقيض وجود كل منهما و هو عدمه بالنسبة إلى وجود الضد الآخر كذلك لا تقدم بينهما و لا تاخر.

ص: 281

.....

______________________________

نعم، حيث كان الضدان لا يجتمعان و بين وجوديهما في محل واحد تناف و معاندة كان بين عدم احدهما مع وجود الآخر ملاءمة و مقارنة لا انه بينهما تقدم و تاخر، و قد أشار إلى ان التضاد لا يقتضي الّا عدم الاجتماع دون التمانع الذي يقتضي ان يكون عدم احدهما من أجزاء علة الآخر بقوله: «و ذلك لأن المعاندة و المنافرة بين الشيئين لا تقتضي الا عدم اجتماعهما في التحقق» و قد أشار إلى ما ذكرنا اخيرا: من ان عدم احد الضدين مقارن لوجود الضد لا انه من أجزاء علته بقوله: «و حيث لا منافاة اصلا بين احد العينين و ما هو نقيض الآخر و بديله» و هو عدم الضد «بل بينهما كمال الملاءمة» التي لا تقتضي الا المقارنة دون التقدم، و قد أشار إلى انه لا يعقل تقدم عدم احد الضدين على وجود الضد الآخر بقوله: «كان احد العينين مع نقيض الآخر» و هو عدمه «و ما هو بديله»: أي هذا العدم الذي هو البديل للوجود «في مرتبة واحدة»: أي ان تلك الملاءمة بين وجود احد الضدين و عدم الضد الآخر تقتضي ان يكونا من المتقارنين زمانا، لا ان يكون لعدم احد الضدين بالنسبة إلى وجود الضد الملائم له تقدم طبعي كما لأجزاء العلة، لأن هذا العدم نقيض لوجود الضد و حال محله فهو في رتبته، و قد عرفت لا تقدم لوجود احد الضدين بالنسبة إلى وجود الضد الآخر فكذا لا يكون تقدم لعدمه الذي هو البديل له بالنسبة إلى وجود الضد الآخر.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 2 ؛ ص282

م، حيث لا ضديّة و لا منافرة و لا تعاند بين وجود احد الضدين و عدم الضد الآخر كان بينهما ملاءمة و مقارنة لا تقدم، و لذا قال: «من دون ان يكون في البين ما يقتضي تقدم احدهما على الآخر».

و ملخص هذا الدليل: انه حيث لا تقدم بين الوجودين فلا يعقل ان يكون لنقيض احدهما بالنسبة إلى وجود الآخر تقدم لأن النقيض في رتبة نقيضه.

ص: 282


1- آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

وجود الشي ء على عدم ضده، توقف الشي ء على عدم مانعة، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشي ء توقف عدم الشي ء على مانعة، بداهة ثبوت المانعية في الطرفين، و كون المطاردة من الجانبين، و هو دور واضح (1).

______________________________

و قد اقحم- بين هذا الدليل الاول و الدليل الذي سيأتي بيانه- مطلبا آخر و هو دليل نقضي على دعوى ان التعاند بين الضدين يقتضي ان يكون عدم احدهما مما يتوقف عليه وجود الآخر.

و حاصل هذا النقض هو ان التعاند و التنافي بين النقيضين اعلى مرتبة للتعاند و التنافي مع انه لا يعقل ان يكون عدم احدهما مما يتوقف عليه الآخر.

و بعبارة اخرى: ان التعاند و التنافي بين الشيئين لو كان موجبا لتقدم عدم احدهما على تحقق الآخر و ان يكون من أجزاء علته لأوجب ذلك في المتناقضين، و لا يعقل ان يكون لارتفاع احد النقيضين تقدم على تحقق النقيض و إلّا لكان بين نفس النقيضين تقدم و تاخر- أيضا- و هو محال، للزوم امكان ارتفاع النقيضين، لانه لو كان ارتفاع احد النقيضين له تقدم على النقيض الآخر لكان فيه ملاك التقدم، و لازم ذلك انه يمكن ان يتحقق ارتفاع احد النقيضين و لا يتحقق النقيض الآخر و لازم ذلك امكان ارتفاع النقيضين، و الى هذا أشار بقوله: «فكما ان قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع احدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين» و لو كان اصل التعاند مقتضيا للتقدم لاقتضى ان يكون ارتفاع احد النقيضين متقدما و ماخوذا من جملة أجزاء علة تحقق الآخر و هو محال بالبداهة كما عرفت.

(1) هذا هو الدليل الثاني الذي اورده على دعوى كون عدم احد الضدين مما يتوقف عليه وجود الضد الآخر و من أجزاء علته لأجل التمانع و التعاند بين وجوب ذيهما.

و توضيحه: ان الضدين كالسواد و البياض لا يجتمعان في محل واحد و وجود احدهما يمنع عن تحقق وجود الآخر، و اذ لا يعقل ان يكون المحل الواحد في آن واحد

ص: 283

.....

______________________________

اسودا و أبيض، فاذا وجد السواد لا بد و ان يرتفع البياض و اذا وجد البياض ارتفع السواد، فهذا التمانع هو الذي اوجب توهم ان يكون عدم السواد- مثلا- مقدمة لوجود البياض، لأن السواد يمنع بوجوده وجود البياض، فاذا كان هذا التمانع موجبا لأن يكون عدم السواد من مقدمات وجود البياض لأن السواد يطرد بوجوده وجود البياض فالبياض أيضا يطرد بوجوده وجود السواد، و اذا كانت نفس هذه المطاردة توجب ان يكون عدم السواد من مقدمات وجود البياض فإن هذه المطاردة أيضا توجب ان يكون البياض الذي بوجوده يرفع السواد و ينفيه ان يكون البياض علة لعدم السواد.

و بعبارة اخرى: انه كما ان وجود احد الضدين لا يتحقق الّا مع عدم ضده أيضا عدم احد الضدين يتحقق بوجود ضده، فاذا اوجب هذا التمانع مقدمية العدم للوجود فلتوجب مقدمية الوجود للعدم، اذ لا سبب للمقدميّة الا التمانع و هو إذا اقتضى مقدمية عدم احدهما الوجود الآخر فليقتض أيضا مقدمية وجود احدهما لعدم الآخر، لانه كما لا يتحقق وجود احدهما الّا مع عدم الآخر كذلك يتحقق عدم احدهما بوجود الآخر، و اذا كان وجود احد الضدين علة لعدم الآخر لزم الدور، لأن وجود احد الضدين يتوقف على عدم الضد الآخر، لأن الضد مانع بوجوده وجود ضده، و عدم المانع من الشرائط فيتوقف وجود الضد على عدم ضده توقف الشي ء على عدم مانعة، و حيث كان احد الضدين- أيضا- يمنع الضد الآخر و بوجوده يرتفع ضده فيكون وجوده علة لعدم ضده، فيتوقف عدم الضد على وجود الضد الآخر توقف المعلول على علته، و حينئذ يتوقف وجود الضد على عدم ضده لانه من أجزاء علته، و يتوقف عدم الضد على وجود الضد لانه علة له، فيكون وجود الضد متوقفا على عدم ضده الذي كان هذا العدم متوقفا و معلولا لنفس وجود الضد، فيتوقف وجود الضد على العدم المتوقف على هذا الوجود، فيلزم توقف وجود الضد على وجود نفسه و هذا هو الدور الواضح، و الى هذا أشار

ص: 284

و ما قيل في التفصي عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلي، بخلاف التوقف من طرف العدم، فإنه يتوقف على فرض ثبوت المقتضي له، مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده، و لعله كان محالا، لاجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الارادة الازلية به، و تعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائما مستندا إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع، كي يلزم الدور (1).

______________________________

بقوله: «و لو اقتضى التضاد» و الممانعة بين الضدين «توقف وجود الشي ء على عدم ضده» لأن وجوده مانع و عدم المانع مما يتوقف عليه، و لذا قال: «توقف الشي ء على عدم مانعة» فإن هذه الممانعة تقتضي توقف عدم الضد على وجود ضده لانه به يتحقق عدم الضد، و الى هذه أشار بقوله: «لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشي ء توقف عدم الشي ء على مانعة» فانه بوجود المانع أيضا يتحقق عدم الممنوع ل «بداهة» انه في الضدين «ثبوت» الممانعة و «المانعية في الطرفين و كون المطاردة» في الضدين «من الجانبين» لازمه الدور، و لذا قال «و هو دور واضح».

(1) و حاصله: انه اورد على هذا الدور: بان وجود الضد متوقف- فعلا- على عدم ضده و اما عدم ضده فليس بمتوقف- بالفعل- على وجود الضد المتوقف على هذا العدم بل هو متوقف عليه شأنا لا فعلا، و اذا لم يكن التوقف من الجانبين فعليا و كان من جانب فعليا و من الجانب الآخر شأنيا فلا دور.

و بيانه: انه لا اشكال ان الوجود يتوقف على تحقق جميع أجزاء علته من المقتضي و جميع الشرائط التي منها عدم المانع و هو عدم وجود ضده المانع له، بخلاف العدم فانه يستند إلى أحد الاعدام من أجزاء علته.

فإن عدم الوجود يستند تارة إلى عدم المقتضي، و اخرى إلى وجود المانع، و اذا كانا معا متحققين: أي عدم المقتضى و وجود المانع فالعدم مستند إلى عدم المقتضي

ص: 285

.....

______________________________

لا إلى وجود المانع، لانه إذا كان للعدم علل متعددة فانه يستندا إلى أسبق العلل، و حيث ان العدم اسبق من الوجود فعدم الضد انما مستند إلى عدم مقتضيه لا إلى وجود مانعة، فوجود البياض- مثلا- فانه يتوقف على ارادته و جميع شرائطه التي منها عدم السواد في المحل، و اما عدم السواد فانه لا يستند إلى وجود البياض بل يستند إلى عدم ارادة السواد حتى فيما لو كان البياض متحققا، لأن عدم ارادة السواد أسبق من وجود البياض، و قد عرفت انه يستند إلى أسبق العلل.

نعم، لو فرضنا في حال تحقق البياض قد تحققت ارادة السواد مع ساير شرائطه فانه حينئذ يكون عدم السواد- بالفعل- مستندا إلى وجود البياض، الّا انه فرض لا تحقق له و ربما كان محالا هذا الفرض، لأن فرض تحقق البياض لازمه ان الشخص قد تعلقت ارادته به و مع فرض تحقق ارادة الشخص للبياض لا يعقل ان تتعلق إرادته بوجود السواد.

و بعبارة اخرى: ان جميع ما يقع في صفحة وجود الممكنات يستند إلى ارادته- تبارك و تعالى- و لا يعقل ان تتعلق الارادة الازلية منه تبارك و تعالى: بان يريد شخص ضدا في حال ارادته وجود الضد الآخر، فدائما عدم الضد في حال وجود ضده مستند إلى عدم تعلق الارادة الازلية به، فلا يكون عدم الضد مستندا بالفعل إلى وجود ضده بل يكون استناده إلى وجود الضد شأنيا دائما.

و اما من طرف الوجود فانه فعلي دائما لأن الوجود متوقف بالفعل على تحقق العلة التامة له التي منها عدم المانع و هو عدم وجود الضد في المحل، و اذا كان التوقف من جانب فعليا دائما و من جانب شأنيا دائما فلا دور، إذ لازم الدور التوقف بالفعل من الجانبين حتى يكون الشي ء بالفعل موقوفا على ما يتوقف عليه بالفعل فيلزم توقف وجوده على نفس وجوده. و اما إذا كان الوجود متوقفا على شي ء فعلا و ذلك الشي ء لا توقف له بالفعل على هذا الوجود بل له شأن ان يتوقف و لا تنقلب هذه الشأنية إلى فعلية اصلا فلا دور، و الى هذا أشار بقوله: «و ما قيل في التفصى

ص: 286

إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد، و أما إذا كان كل منهما متعلقا لارادة شخص، فأراد مثلا أحد الشخصين حركة شي ء، و أراد الآخر سكونه، فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ موجودا، فالعدم لا محالة يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع (1).

______________________________

عن هذا الدور من ان التوقف من طرف الوجود فعلى» لتوقف وجود الشي ء على جميع أجزاء علته بالفعل التي منها عدم المانع و هو عدم وجود الضد «بخلاف التوقف من اطراف العدم» و هو عدم الضد «فانه يتوقف» فيما لو فرضنا انه قد تحققت جميع أجزاء علة الوجود من المقتضي و جميع الشرائط عدا عدم المانع، ففي مثل هذا الفرض لا يستند عدم وجود الضد إلى عدم وجود المقتضي و عدم سائر الشرائط لفرض تحقق المقتضي مع ساير الشرائط، و انما لا يوجد الضد لأن مانعة و هو الضد الآخر موجود، ففي مثل هذا الفرض يكون وجود الضد هو المانع لعدم وجود الضد الآخر فيستند عدم الضد إلى وجود مانعة، الّا انه فرض لا يتحقق و لعله يكون تحققه من المحال، لأن لازم ذلك ان تتعلق الارادة الازلية: بان يريد شخص ضدا مع ارادة نفس ذلك الشخص لضده الآخر، و حيث لا يعقل تعلق الارادة الازلية كذلك فدائما يكون عدم الضد مستندا إلى عدم مقتضيه لا إلى وجود مانعة.

و حيث لا توقف من طرف عدم الضد على وجود ضده الآخر بالفعل مع انه من طرف الوجود فهو بالفعل لما عرفت: من فعلية توقف وجود الشي ء على جميع أجزاء علته فلا دور، و لذا قال: «فانه يتوقف على فرض ثبوت المقتضى» إلى آخر كلامه.

(1) حاصل ان قلت: ان الملخص- مما مر- ان السبب في ان استناد عدم الضد إلى عدم مقتضيه لا إلى وجود مانعة، و هو عدم تعلق ارادة الشخص بارادة وجود ضد في حال وجود ضده الآخر الذي تعلقت ارادة ذلك الشخص بوجوده فوجد.

ص: 287

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: انه لا يعقل ان يكون لشخص واحد ارادة لوجود ضد و ارادة لوجود الضد الآخر، بل هو دائما ليس الّا له ارادة واحدة لضد واحد. و أما كون السبب لأن لا يكون لشخص واحد ارادتان لضدين هو عدم تعلق الارادة الازلية فلا ربط له بهذه.

ان قلت و على كل فإن هذا انما يتم بالنسبة إلى شخص واحد فانه لا يعقل ان يريد ايجاد ضد مع كونه مريدا لضده الآخر الذي هو موجود فيستند عدم وجود الضد إلى عدم الارادة، إذ لا يعقل ان تتحقق ارادتان لضدين من شخص واحد. و اما إذا كان للضدين ارادتان من شخصين بان تتعلق ارادة شخص آخر لايجاد ضد كان ضده الموجود قد اراده شخص آخر، ففي مثل الفرض الذي يكثر وقوعه و تحققه يكون السبب في عدم وجوده هو وجود الضد الآخر الموجود، فيكون عدم الضد مستندا بالفعل إلى وجود الضد المانع له لأن المقتضي له و هو ارادة الشخص الآخر لوجوده مفروضة مع ساير شرائطه عدا وجود مانعة، فيكون عدمه مستندا بالفعل إلى وجود المانع و هو وجود الضد الآخر، فيكون التوقف من طرف العدم فعليا لا شأنيا.

و من المسلم ان وجود الضد متوقف على عدم ضده بالفعل لضرورة توقف وجود الشي ء بالفعل على جميع أجزاء علته التي منها عدم مانعة، و اذا كان التوقف من الجانبين فعليا يعود الدور، و لذا قال: «و اما إذا كان كل منهما متعلقا لارادة شخص فاراد مثلا احد الشخصين حركة شي ء و اراد الآخر سكونه».

و لا يخفى: انه قد تقدم ان المراد بالضد في المقام هو مطلق المتمانعين في التحقق سواء كانا وجوديين أو كان احدهما وجوديا و الآخر عدميا كمثل الحركة و السكون، أو يكون المراد من السكون هو وضعه الثابت له في حال عدم الحركة فيكون الحركة و السكون من الضدين الوجوديين اللذين لا ثالث لهما كالليل و النهار. و على هذا فاذا اراد الشخص حركة شي ء و اراد الآخر سكونه تكون كلا الارادتين متحققتين «فيكون المقتضى لكل منهما حينئذ»: أي في فرض تحقق الارادتين من شخصين

ص: 288

قلت: هاهنا أيضا مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته، و هي مما لا بد منه في وجود المراد، و لا يكاد يكون بمجرد الارادة بدونها لا إلى وجود الضد، لكونه مسبوقا بعدم قدرته كما لا يخفى (1) غير

______________________________

«موجودا» و اذا كان المقتضي لكل منهما موجودا بالفعل «فالعدم» لاحد الضدين «لا محالة يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع» لا شأنا و اذا كان الاستناد بالفعل من الجانبين لزم الدور.

(1) و توضيحه: ان المقتضي للوجود هو ارادة الشخص الشي ء المستندة لقدرته، فإن من لا قدرة له لا تحصل منه الارادة. و أول نشوء الارادة مترتبة من الشوق ثم تقوى حتى تكون ارادة يصدر منها الفعل، فاذا وقف الشوق عند حد و لم يصل إلى حد الارادة التي هي الجزء الاخير من العلة فعدم تحقق المراد مستند إلى عدم قوة هذا الشوق بحيث يمكن ان يكون ارادة يتحقق بتحققها المراد، و يسمى هذا الشوق غير البالغ حد الارادة التي يترتب عليها المراد بالارادة الضعيفة، و هذا الضعف ربما يكون لسبب غير مزاحمته بالاقوى، و قد يكون السبب فيه مزاحمته بإرادة اقوى منه لشخص آخر و الارادة حينئذ تسمى بالارادة المغلوبة في قدرتها، لتغلب قوة ارادة الشخص الآخر و قدرته عليها.

ففي مقام تزاحم الارادتين و تغلب احدهما على الآخر يكون عدم تحقق المراد مستندا إلى عدم قوة ارادة المريد و ضعف قوته، فانه لا يعقل ان يتقدم احد المتزاحمين الّا لقوته و لا يتاخر المزاحم الآخر إلّا لضعفه، و لا يعقل ان يتحقق المراد مع ضعف الارادة و مغلوبيتها بارادة الشخص الآخر، و انما يعقل تحققه فيما إذا قويت ارادة مريده و تغلبت على الارادة الاخرى. اما إذا لم تكن له قدرة تستطيع ان تتغلب بل كانت قدرته مغلوبة و ارادته واقفة عند حد ضعفها فلا يتحقق المراد، فالسبب في عدم تحقق المراد عدم قدرة المغلوب منهما لا وجود المانع.

ص: 289

.....

______________________________

فاتضح: انه في مقام الارادتين لشخصين ان عدم وجود الضد مستندا إلى عدم قدرة المغلوب في ارادته و بقائها بمرتبتها الضعيفة لا إلى وجود المانع.

هذا على مسلك المشهور القائلين: بان بلوغ حد الارادة يلزمه تحقق المراد، و ان الارادة هي الجزء الأخير من العلة التي لا يتخلف عنها المراد، فالارادة الضعيفة المغلوبة هي بعد لم تبلغ مرتبة الارادة و انما هي مرتبة من الشوق بواسطة تغلب المزاحم وقفت عند حدها و لم تبلغ مرتبة الارادة. و اطلاق الارادة الضعيفة عليها أو الارادة المغلوبة من باب التوسع لا الاطلاق الحقيقي.

و اما على ما ذهب اليه (قدس سره) و صرّح به في الواجب المعلق: و هو ان الارادة تبلغ مرتبتها و لا يلزم تحقق المراد بعدها، فالمقتضي عنده مركب من الارادة و القدرة الغالبة على مزاحمها فاذا غلبها المزاحم الآخر بقوة قدرته فالمقتضي لم يتحقق بجزأيه، لأن جزءه الثاني و هو غلبة قدرته غير متحقق، فيستند عدم وجود الضد إلى عدم تمام المقتضي فانه قد وجد ناقصا و غير تام، و المركب ينتفي بانتفاء احد اجزائه، فعدم الضد مستند إلى عدم تمامية مقتضيه لا إلى وجود المانع، و هذا مراده من قوله: «قلت هاهنا أيضا مستند» عدم الضد «إلى عدم قدرة المغلوب منهما في ارادته و هي مما لا بد منه في وجود المراد»: أي ان علته الارادة و قدرتها الغالبة على مزاحمها جزء المقتضي و لا يوجد المراد إذا لم يكن مقتضيه تاما، فحيث لم يكن المقتضي تاما يستند عدمه إلى عدم تمامية مقتضيه لا إلى وجود المانع، و لذا قال:

«و لا يكاد يكون بمجرد الارادة بدونها»: أي لا يكاد يتحقق وجود الضد المراد بمجرد تحقق الارادة بدون القدرة الغالبة، فعدم تحقق الضد المراد بهذه الارادة المغلوبة مستند إلى عدم تمامية المقتضي «لا إلى وجود الضد» المانع «لكونه مسبوقا بعدم قدرته»: أي لكون هذا الضد المانع مسبوقا بعدم تمامية المقتضي.

و قد عرفت ان عدم الوجود يستند إلى اسبق الاعدام، و عدم تمامية المقتضي اسبق من وجود المانع فالعدم مستند اليه، فلم يفترق الحال بين الشخص الواحد

ص: 290

سديد، فإنه و إن كان قد ارتفع به الدور، إلا أنه غائلة لزوم توقف الشي ء على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها، لاستحالة أن يكون الشي ء الصالح لان يكون موقوفا عليه الشي ء موقوفا عليه، ضرورة أنه لو كان في مرتبة يصلح لان يستند إليه، لما كاد يصح أن يستند فعلا إليه (1).

______________________________

و الشخصين و انه دائما في مقام الفعلية مستند عدم وجود الضد إلى عدم مقتضيه أو الى عدم تماميته، و استناده إلى وجود المانع له صرف الشأنية دون الفعلية.

(1) قوله: «غير سديد». هذا خبر قوله: و ما قيل في التفصي: أي ما قيل في التفصّي عن الدور بان التوقف من جانب فعلي و من جانب شأني غير سديد.

و وجهه: انه بعد اعترافه بان المانع له شأنية ان يكون علة لعدم الضد و ان لم يكن علة بالفعل لكون علته الفعلية اسبق الاعدام و هو عدم المقتضى أو عدم تماميته، الّا ان غائلة الدور و مفسدته موجودة و تكفي فيها الشأنية و هي غير منوطة بالفعلية، لأن غائلة الدور هي انه لا يمكن ان يتوقف وجود الشي ء على ما يصلح و يمكن ان يكون متوقفا على نفس وجوده، فإن معنى الشأنية ان المانع الذي هو وجود الضد يصلح ان يكون علة لما هو علة لوجوده.

و بعبارة اخرى: ان الدور بالفعل هو التوقف الفعلي من الجانبين، و مفسدته هو انه بالفعل يتوقف على ما يتوقف عليه بالفعل، و كل فعلية فرع الامكان، و المحال انما لا يعقل ان يكون فعليا لانه لا يعقل ان يكون ممكنا فإن امكان المحال محال و غائلة امكان الدور موجودة في التوقف الشأني، فإن معنى الشأنية- كما عرفت- امكان التوقف و لازم امكان التوقف امكان الدور المحال و المحال ممتنع الذات مقطوع عدم الامكان.

و لازم ما اعترف به من الشأنية ان يتوقف على وجود الضد ما يتوقف عليه وجود الضد و المحال لا يعقل أن يكون ممكنا، و لذا قال: «فانه و ان كان قد ارتفع به الدور» الفعلي المستلزم للتوقف بالفعل من الجانبين «إلّا ان غائلة» امكان الدور

ص: 291

و المنع عن صلوحه لذلك بدعوى: أن قضية كون العدم مستندا إلى وجود الضد، لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي، و إن كانت صادقة، إلا أن صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك، لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها (1)، مساوق لمنع مانعية الضد، و هو يوجب رفع

______________________________

و هي امكان المحال موجودة و لذا قال: «لزوم توقف الشي ء على ما يصلح ان يتوقف عليه على حالها» و ضمير عليه يرجع إلى الشي ء.

و من الواضح: انه لا يعقل ان يتوقف السواد على عدم البياض مع كون عدم البياض يمكن ان يتوقف على السواد فإن لازم هذا المعنى امكان المحال، و لذا قال:

«لاستحالة ان يكون الشي ء الصالح» و هو وجود السواد- مثلا- «لأن يكون موقوفا عليه الشي ء» و هو عدم البياض ان يكون «موقوفا عليه» وجود السواد «ضرورة انه لو كان» وجود السواد «في مرتبة يصلح لأن يستند عليه» و يستند هنا مبني للمفعول: أي مع كون وجود السواد صالحا لأن يكون مستندا اليه «لما كاد يصح ان يستند فعلا اليه»: أي لا يكاد يصح ان يستند وجود السواد بالفعل الى الشي ء الذي يصلح لأن يكون مستندا إلى وجود السواد و لو شأنا فانه من امكان المحال.

(1) و حاصل هذا المنع هو ان المتحصل من كلام هذا المورد على الدور: هو ان وجود الضد متوقف بالفعل على عدم ضده، و عدم الضد لو كان المقتضي موجودا و ساير الشرائط لاستند هذا العدم إلى وجود الضد. و هذه قضية شرطية و القضية الشرطية تصدق مع كذب طرفيها، فانه من القضايا الصادقة ان نقول: لو كان زيد حمارا لكان ناهقا، مع كذب قولنا: زيد حمار و زيد ناهق.

و الحاصل: ان هذه الشرطية المتحصلة من كلام هذا المورد: انه لو اجتمع عدم الضد مع وجود المقتضي لوجوده و ساير شرائطه لاستند عدم الضد إلى وجود الضد المانع، و لا يلزم صدق الفرض صدق المفروض، فهذه الشرطية صادقة و ان كان

ص: 292

.....

______________________________

صحة استناد عدم الضد إلى وجود ضده قضية كاذبة، فلا يلزم من كلام هذا المورد صلوح ان يستند عدم الضد إلى وجود ضده الذي معناه امكان المحال، و ليس لازم كلامه هذا الصلاحية و هي التوقف الشأني من الجانب الثاني الذي تترتب عليها غائلة الدور: أي امكان المحال، و لا يستلزم كلامه التوقف الفعلي من جانب توقف وجود الضد على عدم ضده التوقف الشأني من جانب توقف عدم الضد على وجود الضد المانع.

و غاية ما يقتضيه قوله هو: انه لو اجتمع عدم الضد مع المقتضي لوجوده و ساير الشرائط لاستند عدم الضد إلى وجود الضد المانع، و قد عرفت انه لا يعقل ان يجتمع عدم الضد مع المقتضي و ساير الشرائط لوجود الضد في حال وجود ضده فلا يستند عدم الضد إلى وجود الضد المانع، و انه لا يعقل الّا ان يكون مستندا دائما اما إلى عدم المقتضي أو عدم تماميته، و الى هذا أشار بقوله: «و المنع عن صلوحه لذلك»:

أي لا يتحصل من كلام المورد الصلاحية و التوقف الشأني حتى يلزم امكان المحال، و استدل على منع الصلاحية و التوقف الشأني «بدعوى ان قضية كون العدم مستندا إلى وجود الضد لو كان» هذا العدم «مجتمعا مع وجود المقتضى و ان كانت صادقة»: أي ان صدق هذه الشرطية و هي كون العدم مستندا إلى وجود لو اجتمع هذا العدم مع وجود المقتضي لوجود الضد لا يستلزم صدقها الصلاحية و التوقف الشأني، و ان وجود الضد يصلح لأن يتوقف عليه عدم ضده، لأن صدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها و لذا قال: «إلّا ان صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك»: أي ان هذه الشرطية لا تقتضي كون وجود الضد صالحا لأن يتوقف عليه عدم ضده «لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها» فهذه القضية صادقة و لا يستلزم صدقها الصلوح و الشأنية حتى يكون من امكان المحال.

ص: 293

التوقف رأسا من البين، ضرورة أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر، إلا توهم مانعية الضد كما أشرنا إليه و صلوحه لها (1).

______________________________

(1) و حاصله: انه لا يستطيع هذه المورد منع الصلاحية من طرف توقف العدم على وجود الضد، لأن تسليمه كون عدم الضد من أجزاء علة وجود ضده انما هو لأجل التمانع بين الضدين، و التمانع كما يقتضي كون عدم الضد لأجل التمانع مما يتوقف عليه وجود الضد فانه يقتضي- أيضا- ان يكون وجود هذا القيد المانع صالحا لأن يكون علة لعدم ضده، فإن اللازم من منع هذه الصلاحية منع المانعية، و لازم عدم المانعية عدم توقف وجود الضد على عدم ضده فلا توقف من الجانبين اصلا، فإن لازم التوقف الفعلي من جانب التوقف الشأني من الجانب الآخر، لأن سببهما واحد و هو التمانع بين الضدين.

و بعبارة اخرى: انا لا نقول ان صدق الشرطية يستلزم صدق طرفيها، الّا ان هذه الشرطية يستلزم صدقها صدق طرفيها، لأن هذا المورد على الدور يقول: ان وجود الضد متوقف على عدم ضده بالفعل و لو اجتمع عدم الضد مع المقتضي لوجود الضد لاستند هذا العدم إلى وجود الضد المانع، فإن المانعية حيث تقتضي كون عدم المانع من شرائط وجود الضد فانها تقتضي- أيضا- صلاحية ان يكون وجود الضد علة لعدم ضده، و قوله لو اجتمع لكان- تصريح منه: بان الضد مانع و المانع يصلح لأن يكون علة لعدم الممنوع، و اذا كان لا يقول بالصلاحية فلا بد ان لا يقول بالمانعية من رأس، و لذا قال: «المنع عن صلوحه» بما ادعاه من عدم لزوم صدق الشرطية صدق طرفيها «مساوق» هذا المنع «لمنع مانعية الضد و هو يوجب رفع التوقف رأسا من البين» و منع المانعية من الجانبين «ضرورة انه لا منشأ لتوهم توقف احد الضدين على عدم الآخر الّا توهم مانعية الضد» و المانعية إذا اقتضت توقف وجود احد الضدين على عدم الآخر توقف الشي ء على عدم مانعة، فإنها تقتضي- أيضا- كون وجود المانع صالحا لأن يكون علة لعدم الضد الممنوع، و متى منعت الصلاحية

ص: 294

.....

______________________________

من جانب فلا بد ان نمنع الصلاحية أيضا من الجانب الآخر، و لازم هذا منع المانعية و التوقف من الجانبين، و لذا قال: «و صلوحه لها»: أي ان لازم توهم مانعية الضد توهم صلوح الضد للمانعية، فمنع صلوح الضد منع للمانعية من رأس.

لا يخفى ان للمصنف حاشية(1) في المقام لا بأس بالاشارة إلى شرحها تتميما للفائدة.

و حاصلها: ان هذه الشرطية التي ذكرها هذا المنتصر للمورد على الدور و هي ان المتحصل من كلام المورد هو انه: لو اجتمع المقتضي و ساير الشرائط لوجود الضد لاستند عدم وجوده إلى وجود الضد المانع هذه الشرطية بنفسها كاذبة، فان الظاهر من هذه الشرطية ان وجود المقتضي هو السبب في استناد عدم الضد إلى وجود ضده، و الحال انه لا يعقل ان يكون وجود المقتضي سببا لاستناد عدم الضد إلى وجود ضده، فان لازمه ان يكون هذا المقتضي مقتضيا للمتنافيين فان المفروض ان هذا المقتضي يقتضي وجود الضد و على الفرض ان عدم الضد يستند إلى وجود الضد المانع حيث يوجد المقتضي فيكون وجود المقتضي مقتضيا ايضا لهذا الاستناد و اقتضائه لاستناد عدم الضد إلى وجود الضد معناه انه سبب للسبب الذي هو العلة في عدم ما يقتضيه، فيكون وجود المقتضي مقتضيا لشي ء و مقتضيا لعدم ذلك الشي ء الذي يقتضيه، و معنى هذا ان يكون الشي ء الواحد مقتضيا لوجود الشي ء و مقتضيا لعدمه و هو محال، و اذا لم يكن هذا الاستناد يتسبب من المقتضي فلا بد و ان يكون هذا الاستناد لخصوصية ذاتية في نفس وجود الضد، و تلك الخصوصية الذاتية ليست إلّا كونه مانعا و عدم المانع من الشروط، و كذلك قد عرفت ان الخصوصية الذاتية الموجودة في الضد ليست إلّا التمانع بمعنى عدم الاجتماع لا التمانع الذي يكون عدم احدهما شرطا في وجود الآخر و سيذكر في المتن ان المانع الذي عدمه شرط في وجود

ص: 295


1- كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني( قدس سره): ج 1، ص 209 حجري.

إن قلت: التمانع بين الضدين كالنار على المنار، بل كالشمس في رائعة النهار، و كذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه، مما لا يقبل الانكار، فليس ما ذكر إلا شبهة في مقابل البديهة (1).

قلت: التمانع بمعنى التنافي و التعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، إلا أنه لا يقتضي إلا امتناع الاجتماع، و عدم وجود أحدهما إلا مع عدم الآخر، الذي هو بديل وجوده المعاند

______________________________

الضد هو علة وجود الضد لا نفس الضد.

(1) حاصله: ان الوجدان إذا صادم البرهان و نفاه يكون البرهان ليس من البراهين الصحيحة بل هو من الشبهة في مقابل البديهة، و الشبهة في مقابل البديهة مرجعها إلى كون البرهان فاسدا من ناحية خفيّة فيعلم اجمالا ببطلانه و ان لم يعلم وجه البطلان.

و هنا قضيتان وجدانيتان لازمهما كون وجود الضد متوقفا على عدم ضده.

الاولى: هي كون الضدين متمانعين فانه بالوجدان ان وجود الضد في المحل يمنع عن وجود الضد الآخر.

و الثانية: وجدانية- أيضا- و هي ان عدم المانع مما يتوقف عليه وجود الشي ء و هو من أجزاء علته و هذا امر وجداني لا يقبل الانكار. و ضمّ القضية الاولى إلى الثانية يقتضي توقف وجود الضد على عدم ضده، و مع قيام الوجدان على هذا التوقف لا ينبغي ان يعبأ بما ذكر: من البراهين على عدم توقف وجود الضد على عدم ضده، و قد أشار إلى الاولى بقوله: «التمانع بين الضدين كالنار على المنار» و الى القضية الثانية بقوله: «و كذا كون عدم المانع» إلى آخره، و الى كون البرهان الذي يقوم الوجدان على خلافه فاسد قد خفى وجه فساده بقوله: «فليس ما ذكر إلّا شبهة في مقابل البديهة» فليس هو ببرهان في الحقيقة بل هو مغالطة قد خفى وجهها.

ص: 296

له، فيكون في مرتبته لا مقدما عليه و لو طبعا (1)، و المانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود هو ما كان ينافي و يزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشي ء و يزاحمه في وجوده.

______________________________

(1) و حاصل الجواب ان الوجدان لا يحكم بان التمانع الموجود بين الضدين هو التمانع الذي لازمه ان يكون عدم احدهما من أجزاء علة الآخر، و انما يحكم الوجدان بان الضدين لا يجتمعان فهما متنافيان و متعاندان في الاجتماع، و ليس كل تناف و تعاند بين شيئين يقتضي ان يكون عدم احدهما من مقدمات وجود الآخر.

نعم، غاية ما يقتضيه التنافي و التعاند بينهما: هو ان عدم احدهما الذي هو البديل لوجوده ان يكون مع وجود الضد الآخر و مقارنا له، لا أن يكون من أجزاء علته ليكون له التقدم عليه بالطبع.

و بعبارة اخرى: ان التنافي بينهما يقتضي ان يكون عدم أحدهما مع وجود الآخر فهو مقارن له و في رتبته، لوضوح ان المتقارنين في التحقق و لا عليّة لاحدهما بالنسبة إلى الآخر لا بد و ان يكونا في مرتبة واحدة، لا أن يكون احدهما متقدما بالطبع على الآخر، و الى هذا أشار بقوله: «إلّا انه لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع» بين الضدين «و عدم وجود احدهما الا مع عدم الآخر»: أي لا يقتضي إلّا ان لا يكون احد الضدين موجودا الّا و عدم الضد الآخر معه، لأن هذا العدم هو بديل الوجود المعاند لهذا الضد، و المعاندة تقتضي ان يكون متى وجد احد المعاندين لا يكون المعاند الآخر موجودا معه، و إلّا لا تكون معاندة بين وجوديهما، و اذا ارتفع الوجود المعاند لهذا الضد الموجود يحل محلّه نقيضه و هو عدمه البديل له، اذ لا يعقل ان يرتفع النقيضان فيكون عدم احد الضدين الذي هو البديل لوجود المعاند مقارنا لوجود ضده و معه في الوجود و في مرتبته لا انه من أجزاء علته و مقدما عليه بالطبع، و الى هذا أشار بقوله: «الذي هو بديل وجوده المعاند له فيكون في مرتبته»: أي مقارنا معه «لا مقدما عليه و لو طبعا».

ص: 297

نعم العلة التامة لاحد الضدين، ربما تكون مانعة عن الآخر، و مزاحمة لمقتضيه في تأثيره، مثلا تكون شدة الشفقة على الولد الغريق و كثرة المحبة له، تمنع عن أن يؤثر ما في الاخ الغريق من المحبة و الشفقة، لارادة إنقاذه مع المزاحمة فينقذ الولد دونه، فتأمل جيدا (1).

______________________________

(1) لما بيّن احد الضدين لا يعقل ان يكون هو المانع الذي يكون عدمه من أجزاء علة الضد الآخر، و حيث ان وجود كل ممكن في عالم الكون و الفساد يحتاج إلى مقتض و شرط و عدم المانع. بقي عليه ان يبيّن المانع الذي عدمه مما يتوقف عليه وجود الضد، فأشار إلى هذا بقوله: «و المانع» إلى آخره، و حاصله: ان المانع الذي عدمه مما يتوقف عليه وجود الضد هو العلة لا نفس الضد الآخر.

و بعبارة اخرى: ان المانع الحقيقي لوجود الضد هو الذي يزاحم سببه و مقتضيه الذي يقتضي وجوده، و المزاحم انما هو علة الضد الآخر لا نفس الضد الآخر، فعلتا الضدين هما المتمانعان و المتغلب من العلتين هو المانع بالفعل الذي يكون عدمه مما يتوقف عليه تأثير الآخر و ايجاده للضد الآخر لا نفس الضدين، و الى هذا أشار بقوله:

«و المانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود»: أي المانع الذي يتوقف على عدمه الوجود للضد الآخر «هو ما كان ينافي و يزاحم المقتضي في تأثيره».

فالمانع هو المزاحم في التأثير و هو العلة لا ما يعاند الشي ء و يزاحمه في وجوده» و هو نفس الضد الذي يعاند بوجوده وجود الضد و ليس هو المزاحم لمقتضي الضد في تأثيره، و انما المزاحم له هي العلة للضد دون المعلول الذي هو نفس الضد، و لذا قال:

«نعم العلة التامة لأحد الضدين ربما تكون مانعة عن الآخر»: أي عن وجود الضد الآخر و مزاحمة لمقتضيه في تأثيره» و لعل وجه تعبيره بربما لبيان المانع الذي يستند عدم وجود الضد اليه لا إلى عدم المقتضي و هو العلة التامة لوجود الضد المجتمعة مع المقتضي و ساير الشرائط لوجود الضد الآخر و يشعر بما احتملناه مثاله الذي انكره و هو الشفقة على الولد الموجبة لارادة انقاذه المجتمعة مع الشفقة على الاخ التي

ص: 298

و مما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الضد الموجود و المعدوم، في أن عدمه الملائم للشي ء المناقض لوجوده المعاند لذاك، لا بد أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه، بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه (1).

______________________________

لا مانع من تأثيرها في انقاذ الاخ الا الشفقة على الولد الموجبة لقوة ارادة انقاذ الولد و تقديمه على الاخ، فعدم انقاذ الأخ لا يستند إلى عدم المقتضى بل يستند إلى العلة التامة لانقاذ الولد المزاحمة لمقتضي انقاذ الاخ المتغلبة عليه.

(1) هذه مقدمة لبطلان التفصيل الآتي.

و حاصل ما يقوله: انه قد تبين مما ذكره و حققه ان الضدين انما يتنافيان في التحقق و انهما لا يجتمعان، و أما التمانع بينهما بمعنى كون عدم احدهما مقدمة للضد الآخر فقد قامت البراهين على محاليته، و ان عدم كل منهما مقارن و في رتبة الضد الموجود لا انه من أجزاء علته و متقدم عليه بالطبع، و لا فرق بين الضد الموجود و الضد المعدوم في ان عدم الضد الموجود مقدمة لوجود الضد الآخر، بخلاف الضد المعدوم فانه ليس من أجزاء علة وجود الضد، فإن عدمه ليس مقدمة، لأن البراهين المتقدمة الدالة على محالية كون عدم احد الضدين لا يعقل ان يكون مقدمة للضد الآخر لا تفرق بين عدم الضد الموجود و الضد المعدوم، و غاية ما تقتضيه هو الملاءمة بين وجود الضد و عدم الضد الآخر و انهما في رتبة واحدة، و تارة يتحققان معا كما إذا كان احد الضدين موجودا ثم خلفه الضد الآخر، فإن وجود الضد و عدم الضد الذي كان موجودا يتقارنان في التحقق، و حيث لا يكون الضدان موجودين لجواز ارتفاعهما معا يكون عدم احدهما متحققا قبل تحقق الضد.

فإن قلت: ان كون عدم احد الضدين يمكن ان يتحقق و لا يتحقق معه وجود الضد الآخر، بخلاف وجود الضد فانه لا يمكن ان يتحقق الّا و معه عدم ضده، و هذا هو ملاك السبق و التقدم بالطبع و هو ملاك المقدمية و العلية.

ص: 299

فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الاعلام، حيث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود، و عدم التوقف على عدم الضد المعدوم، فتأمل في

______________________________

قلت، أولا: انه ليس لازم كل سبق و لحوق هو المقدمية و كونه من أجزاء علته، فإن الملازم للسبب و المقتضي في وجوده متقدم بالطبع و سابق على المسبب لتحقق ملاك السبق بالطبع فيه مع انه ليس من أجزاء علة المسبب.

و ثانيا: ان هذا لا يوجب الفرق بين الضد الموجود و المعدوم.

و ثالثا: ان ما يدعيه المفصّل الآتي هو كون عدم الضد الموجود سابقا بالطبع على وجود الضد الآخر لانه من اجزاء علته، و اما الضد المعدوم فلا سبق له على وجود الضد الذي يوجد.

و على كل فقد ظهر- مما ذكرنا- انه لا سبق بنحو المقدمية لعدم الضد الموجود على وجود ضده، و قد أشار إلى ما ذكرنا بقوله: «و مما ذكرنا ظهر انه لا فرق بين الضد الموجود و المعدوم في ان عدمه»: أي الضد الموجود «الملائم للشي ء»: أي الملائم لوجود ضده و الموصوف أيضا بانه هو «المناقض لوجوده»: أي ان هذا العدم الملائم هو النقيض للوجود «المعاند» ذلك الوجود و المنافي «لذاك»: أي لذاك الشي ء الذي يلائمه هذا العدم و هو الضد الآخر و انه «لا بد ان يجامع معه»: أي ان يجامع ذلك العدم مع الضد الذي يوجد «من غير مقتض لسبقه»: أي من غير مقتض لسبق عدم الضد الموجود- سبقا مقدميا- على وجود الضد الآخر «بل قد عرفت» مما ذكره من البرهان «ما يقتضى عدم سبقه»: أي عدم سبق هذا العدم على وجود الضد الآخر.

ص: 300

أطراف ما ذكرناه، فإنه دقيق و بذلك حقيق. فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمية (1).

و أما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود، في الحكم، فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر، لا أن يكون محكوما بحكمه (2).

______________________________

(1) لقد عرفت وجه الانقداح لبطلان هذا التفصيل، و هو كون عدم الضد الموجود من أجزاء علة الضد الآخر، و ان وجوده متوقف على هذا العدم و هو رفع الضد الموجود، و اما الضد المعدوم فلا يتوقف وجود ضده على عدمه.

و لعل وجه هذا التفصيل: ان الشرط الذي يتوقف عليه وجود الضد هو قابلية المحل لوجوده، و حيث يكون المحل مشغولا بالضد فلا قابلية للمحل لوجود الضد الآخر، فيتوقف وجوده على قابلية المحل المتوقفة على رفع هذا الضد الموجود في المحل. و اما إذا كان المحل غير مشغول بالضد فالقابلية متحققة و ليست بمتوقفة على عدم الضد، فالضد المعدم لا توقف لوجود ضده على عدمه، بخلاف الضد الموجود فإن وجود ضده متوقف على عدمه لانه بعدمه تتحقق القابلية للمحل.

و فيه، أولا: ان القابلية امر وجودي و لا يعقل ان يترشح الامر الوجودي من العدمي.

و ثانيا: انه كما يجوز ان تكون القابلية متوقفة على عدم الضد الموجود كذلك يمكن ان يكون تحققها في حال عدم الضد المعدوم بسبب عدم الضد المعدوم.

و ثالثا: ما عرفت من عدم امكان ان يكون عدم الضد الموجود من اجزاء علّة ضده الذي يوجد بدلا عنه.

(2) حاصله: انه لا ينبغي ان يتوهم احد بان القول بوجوب عدم الضد فيما إذا كان وجود الضد الآخر مطلوبا ليس لأجل مقدمية عدم الضد لوجود ضده، بل لأن

ص: 301

و عدم خلو الواقعة عن الحكم، فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا، بل على ما هو عليه، لو لا الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي، من الحكم الواقعي (1).

______________________________

وجود الضد و عدم ضده متلازمان في التحقق و المتلازمان في التحقق متلازمان في الحكم، و لا شبهة في ان عدم الضد ملازم في التحقق لوجود ضده.

و الجواب: هو ان وجود الضد و عدم ضده و ان كانا من المتلازمين في التحقق إلّا انه لا يستلزم التلازم في التحقق التلازم في الحكم، لأن الحكم لا يعقل ان يكون من غير سبب و ملاك، و الوجوب منحصر في النفسي و الغيري و حيث انه ليس في هذا العدم ملاك الوجوب النفسي، بل وجود ملاك الوجوب النفسي فيه يخرجه عن محل الكلام، لأن الكلام في ان الامر بالشي ء يقتضي وجوبه لا ان وجوبه باقتضاء من نفسه، و أما الوجوب الغيري فملاكه المقدمية أو العلية، و حيث لا علية لوجود احد المتلازمين بالنسبة إلى وجود الملازم الآخر فلا وجوب غيري.

نعم، غاية ما تقتضيه الملازمة ان لا يختلفا في الحكم، فاذا كان احد المتلازمين واجبا- كما في المقام- فلا يعقل ان يكون ملازمه حراما أو مباحا لأن حرمته يلازمها التكليف بما لا يطاق، و اباحته لازمها اللغوية إذ ما لا بد من وجوده لا معنى لحكمه بالترخيص، فلازم التلازم بين الواجب و ملازمه في التحقق هو ان لا يكون لملازمه حكم لا أن يكون حكمه الوجوب، و لذا قال: «فغايته ان لا يكون احدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر» لا حكما الزاميا و لا غير الزامي «لا» ان لازم التلازم «ان يكون محكوما بحكمه» فليس لازم التلازم بين وجود الضد و عدم ضده ان يكون عدم ضده الملازم له محكوما بمثل حكمه.

(1) هذه إشارة إلى سؤال في المقام: و هو انه يلزم على ما ذكرت من كون الملازم للواجب ان لا حكم له خلو هذا الملازم عن الحكم، و الحال انه من المسلم انه لا تخلو واقعة عن حكم.

ص: 302

الامر الثالث: إنه قيل بدلالة الامر بالشي ء بالتضمن على النهي عن الضد العام، بمعنى الترك، حيث أنه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل و المنع عن الترك. و التحقيق أنه لا يكون الوجوب إلا طلبا بسيطا، و مرتبة وحيدة أكيدة من الطلب، لا مركبا من طلبين، نعم في مقام تحديد تلك المرتبة و تعيينها، ربما يقال: الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك، و يتخيل منه أنه يذكر له حدا، فالمنع عن

______________________________

فاجاب: بان عدم خلو الواقعة عن الحكم انما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي، لأن الشي ء إمّا فيه ملاك الرجحان في جانب الوجود فهو اما واجب أو مستحب، أو فيه ملاك الرجحان من جانب العدم فهو اما حرام أو مكروه، أو لم يكن فيه الملاكان و هو تارة فيه ملاك الترخيص فهو المباح اباحة اقتضائية، و اخرى لا يكون فيه فهو المباح باباحة لا اقتضائية.

و على كل فالمراد بعدم خلو الواقعة عن الحكم هو عدم خلوها عن الحكم الواقعي، و اما خلوها عن الحكم الفعلي لمانع يمنع عن فعلية الحكم الواقعي فلا مانع منه كما في الضد الملازم لعدم الضد الواجب، فإن عدم الضد الواجب حرام و لكن الضد الملازم لهذا العدم الحرام لا حكم له فعلي و ليس بحرام و هو باق على ما فيه من الملاك للحكم الواقعي، و كما انه لأجل المانع و هو ملازمته للحرام لم يكن حكمه الواقعي فعليا فلا حكم فعلى له كذلك ليس فيه مقتضى الحرمة فلا حرمة فيه أيضا، و لذا قال: «فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا».

و قد أشار إلى انه باق على ما هو عليه من الملاك لحكمه الواقعي الذي منع عن فعليته ملازمته للعدم الحرام لانه ضد لما هو الواجب بقوله: «بل على ما هو عليه» إلى آخر كلامه. و قوله: «من الحكم الواقعي» من متعلقات بل على ما هو عليه، و تقدير العبارة: بل هو على ما هو عليه من الحكم الواقعي لو لا الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي.

ص: 303

الترك ليس من أجزاء الوجوب و مقوماته، بل من خواصه و لوازمه، بمعنى أنه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة، و كان يبغضه البتة (1).

______________________________

(1) هذا الامر الثالث لبيان ان اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن تركه المعبر عنه في اصطلاحهم بالضد العام باي نحو من أنحاء الاقتضاء، امّا اصل الاقتضاء فلا كلام فيه لما سيجي ء من ان النهي عن تركه اما ملازم له أو متحد معه مصداقا.

ثم لا يخفى: انه قد مر ان الاقتضاء اما بنحو العينية المفهومية أو العينية المصداقية أو كونه جزء معناه فيقتضيه بالتضمن أو كونه امرا ملازما له فيقتضيه باللزوم. و لكن لم يتوهم احد ان مفهوم الامر بالشي ء عين مفهوم المنع عن تركه، لوضوح عدم معقولية كون المفهوم الايجابي عين المفهوم السلبي، و لذا لم يتعرض المصنف لدفعه و قد تعرض لعدم دلالته عليه بالتضمن و انه ليس بمتحد معه مصداقا فيتعين ان يكون ملازما له، و سيأتي الإشارة منه إلى ان اللزوم بينهما من اللزوم البين بالمعنى الاعم لا من البين بالمعنى الاخص و لا من غير البين.

و الحاصل: انه ذهب بعض إلى دلالته عليه بالتضمن لانه جزء من معناه، فإن حد الوجوب و تعريفه المشتمل على تمام ماهيته هو طلب الشي ء مع المنع عن تركه، فالمنع من الترك جزء معناه و دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له دلالة تضمنيّة.

و الجواب عنه: يتضح ببيان حقيقة الوجوب، فنقول: ان الطلب اما ان يكون هو الارادة الاكيدة أو البعث و التحريك الاعتباري، فإن كان هو الارادة فيكون من مقولة الكيف النفساني، و من المعلوم في محله ان الاعراض بسائط خارجية ليست بمركبة من مادة و صورة و لا من جنس و فصل، و ان كان هو البعث و التحريك الاعتباري فالامور الاعتبارية اشد بساطة من الاعراض، لأن الامور الاعتبارية من موجودات افق الاعتبار و ليست من موجودات عالم الخارج حتى يتوهم تركبها، بل هي امور قائمة باعتبار المعتبر لها فلا يعقل التركب في حقيقة الطلب.

ص: 304

.....

______________________________

نعم الطلب الوجوبي بناء على كونه هو الارادة فهو ارادة اكيدة، و لا شبهة ان تأكد الارادة معناه شدة وجودها و شدة الوجود امر وجودي و ليس بعدمي حتى يصح ان يكون هو المنع من الترك.

و لا يخفى أيضا ان الشي ء كما يعرّف بشرح حقيقته كذلك يعرّف بذكر لوازمه، و تعريفهم للوجوب بانه الطلب للشي ء مع المنع عن تركه تعريف له بذكر لازم الوجوب، و ذلك حيث ان الطلب مشترك بين الطلب الندبي و الوجوبي، و الطلب الندبي لازمه الرضا و الاذن في الترك بخلاف الطلب الوجوبي فإن لازم كونه طلبا الزاميا ان يكون لا يرضى بتركه لا ان المنع من الترك جزء حقيقة الوجوب، و لذلك كما انهم يعرفونه: بانه طلب الفعل مع المنع من الترك، كذلك يعرفونه: بان الوجوب هو الطلب الالزامي.

و لا يخفى أيضا ان المنع من الترك لازم بيّن بالمعنى الاعم و ليس لازما بيّنا بالمعنى الاخص و لا لازما غير بيّن، امّا انه ليس لازما بينا بالمعنى الاخص لوضوح انه كثيرا ما يتصور الآمر الطلب الوجوبي و يأمر أمرا وجوبيا الزاميا و لا يتصور مفهوم المنع عن الترك، و اللازم البين بالمعنى الاخص هو الذي يكفي في تصوره تصور الملزوم و لذا تكون الدلالة عليه دلالة التزامية، و ليس من اللازم غير البين اذ لا يحتاج إلى اقامة دليل على لزومه كلزوم الحدوث للعالم و كوجوب المقدمة المترشح لها من وجوب ذيها كما مر، فلا بد و ان يكون من اللزوم البين بالمعنى الاعم و انه مع الالتفات إلى الترك يجزم الشخص الآمر بانه لا يرضى به و يمنع عنه و هو مبغوض له، و قد أشار المصنف إلى كون الطلب بسيطا و غير مركب بقوله: «انه لا يكون الوجوب الا طلبا بسيطا و مرتبة وحيدة اكيدة من الطلب» هذا بناء على كون حقيقة الامر الوجوبي هو الارادة الشديدة، فيكون الطلب الوجوبي هو ارادة الشي ء ارادة شديدة منبعثة عن مصلحة ملزمة، و حيث كانت المصلحة ملزمة فلا بد و ان تكون ارادة الشي ء الناشئة عنها ارادة اكيدة شديدة و لا تكون كالإرادة المنبعثة عن مصلحة غير الزامية،

ص: 305

و من هنا انقدح أنه لا وجه لدعوى العينية، ضرورة أن اللزوم يقتضي الاثنينية، لا الاتحاد و العينية.

نعم لا بأس بها، بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد، و هو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود و بعثا إليه، كذلك يصح أن ينسب إلى الترك بالعرض و المجاز و يكون زجرا و ردعا عنه (1)

______________________________

فإنها لا بد و ان تكون الارادة الناشئة عنها ذات مرتبة أضعف من الارادة المنبعثة عن المصلحة الملزمة، و ان كان كل من الارادتين كافيا في جعل الداعي و التحريك إلى اتيان الشي ء، اذ ما لم يكن الشوق بالغا لجعل الداعي لا يكون طلبا و لا باعثا و محركا.

فظهر: ان حقيقة الوجوب هو الارادة الشديدة فقط و ليست حقيقته مركبة من طلبين: طلب الفعل، و النهي عن الترك، و ليست حقيقة الوجوب هو ارادة الشي ء و كراهية تركه و بغضه، و الى هذا أشار بقوله: «لا مركبا من طلبين» و أشار إلى ان توهم تركب حقيقة الوجوب من طلب الفعل و المنع عن تركه قد نشا من تعريفهم له بذلك و انه تعريف باللازم، و ليس هو الحد المشتمل على أجزاء ذات الطلب بقوله:

«نعم في مقام تحديد تلك المرتبة و تعيينها» إلى آخره، و أشار إلى انه لازم بين بالمعنى الاعم بقوله: «بل من خواصه و لوازمه بمعنى انه لو التفت الامر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة و كان يبغضه البتة».

(1) لا يخفى انه إذا ثبت ان المنع من الترك من لوازم الطلب الوجوبي فهو كما ينتفي به دعوى دلالته عليه بالتضمن كذلك ينتفي به دعوى العينية و الاتحاد في المصداق، لوضوح ان الامر اللازم لشي ء ليس هو عين ذلك الشي ء و متحدا معه مصداقا، لأن العينية و الاتحاد في المصداق لازمها ان يكون المفهومان منتزعين عن شي ء واحد و ليس لكل واحد منشأ انتزاع غير منشأ انتزاع الآخر، بخلاف كون شي ء لازما لشي ء فإن لازمه ان يكونا اثنين و لكل واحد منشأ انتزاع غير منشإ انتزاع الآخر.

ص: 306

.....

______________________________

و توضيح الحال: ان المراد بالمنع من الترك ان كان هو الزجر و البغض و الكراهية للترك فلا بد و ان يكون من لوازم طلب الفعل و ارادته و حبه، و لا يعقل ان يكون مصداق الزجر و البغض هو مصداق الارادة و المحبوبية، و كيف يكون مصداقهما واحدا و متعلق الزجر و البغض هو الترك و متعلق الارادة و الحب هو الفعل؟

فيتعين ان يكون المنع من ترك الفعل من لوازم ارادة الفعل و طلبه، و اذا كان المراد من المنع من الترك هو تبعيد المبعوث إلى الفعل عن نقيضه و عدمه فيمكن ان يكون شي ء واحد- و هو الطلب- منسوبا إلى الوجود أولا و بالذات، و الى عدمه و تركه ثانيا و بالعرض و المجاز، فان البعث إلى وجود الشي ء كما انه تقريب إلى طرف الوجود اولا و بالذات فانه تبعيد عن خلافه و عدمه و تركه ثانيا و بالعرض.

و من الواضح: ان ما بالذات غير ما بالعرض و المجاز، و ليس ما بالذات عين ما بالعرض. نعم حيث كان جعل الداعي و التحريك إلى ايجاد الشي ء فهو تقريب إلى الوجود اولا و بالذات و تبعيد عن عدمه ثانيا و بالعرض، لبداهة ان القرب إلى شي ء قرب اليه اولا و بالذات و بعد عن مقابله ثانيا و بالعرض، و قد أشار إلى ان المنع من الترك ان كان هو البغض للعدم و للترك فهو لازم طلب وجود الشي ء بقوله: «و من هنا انقدح انه لا وجه لدعوى العينية» إلى آخره، و قوله: من هنا إشارة إلى ما ذكره قبل الانقداح بلا فصل و هو قوله: «لما كان راضيا به لا محالة و كان يبغضه البتة».

و أشار إلى توجيه العينية و الاتحاد بما ذكرنا بقوله: «نعم لا بأس بها بان يكون المراد بها انه يكون هناك طلب واحد و هو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود و بعثا اليه» و هو كما انه تحريك ينسب إلى الوجود اولا و بالذات «كذلك يصح ان ينسب» هذا الطلب و البعث نحو الوجود إلى العدم و «إلى الترك بالعرض و المجاز لأن التقريب إلى شي ء تبعيد عن خلافه و مقابله «و يكون زجرا و ردعا».

ص: 307

فافهم (1).

ثمرة المسألة

الامر الرابع: تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة، و هي النهي عن الضد بناء على الاقتضاء، بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد، ينتج فساده إذا كان عبادة (2). و عن البهائي رحمه اللّه أنه أنكر الثمرة،

______________________________

(1) لعله إشارة إلى ان المراد من الزجر و الردع ليس هو البغض و الكراهية بل هو التبعيد عن الترك.

(2) لا يخفى ان المترتب على اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده الخاص هو النهي، و حرمة الضد الخاص اعم من ان يكون عبادة أو غير عبادة، و لكن حيث كان المهم هو الخلاف بين المشهور و البهائي من انكار هذه الثمرة في العبادة لذلك خصّ الثمرة بالعبادة.

و حاصله: انه بناء على اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده الخاص، فاذا عصى المكلف و ترك الأهم و هي الازالة و فعل الصلاة فبناء على اقتضاء الأمر للنهي عن ضده الخاص تكون الصلاة منهيا عنها، و سيأتي في مسألة النهي في العبادة ثبوت دلالة النهي المتعلق بالعبادة على فسادها فتكون الصلاة فاسدة.

و اما بناء على عدم اقتضاء الامر بالشي ء للنهي عن ضده الخاص فلا تكون الصلاة منهيا عنها فلا تكون فاسدة.

و لا يخفى ان المشهور القائلين بفساد العبادة- بناء على الاقتضاء- لا بد ان لا يقولوا- بما تقدم تحقيقه من المصنف- في ان الامر الغيري لا يوجب ثوابا و لا عقابا و لا قربا و لا بعدا، فانه بناء عليه لا يكون النهي المتعلق بالعبادة منافيا لعباديتها إذا امكن ان تقع عبادة بغير قصد امتثال امرها، فإن النهي المتعلق بها المستفاد من وجوب عدمها لانه مقدمة للضد الأهم لا يعقل ان يزيد على وجوب عدمها الغيري الذي لا يوجب قربا و لا ثوابا، و لا يوجب ترك هذا العدم الذي هو فعل الصلاة بعدا و لا عقابا، و حيث لا يوجب النهي عقابا و لا بعدا فلا يمنع عن صلاحيتها لوقوعها

ص: 308

بدعوى أنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد، بل يكفي عدم الامر به، لاحتياج العبادة إلى الامر (1).

و فيه: إنه يكفي مجرد الرجحان و المحبوبية للمولى، كي يصح منه أن يتقرب به منه، كما لا يخفى، و الضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك، فإن المزاحمة على هذا لا توجب إلا ارتفاع الامر المتعلق به فعلا، مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة، كما هو مذهب

______________________________

عبادة، حيث يمكن ان تقع عبادة من غير قصد امتثال امرها بقصد رجحانها الذاتي أو محبوبيتها، فإن النهي- بناء على الاقتضاء- لا يستلزم الّا سقوط الامر بها لعدم امكان اجتماع الامر و النهي فيها، فالنهي المتعلق بها يلازمه سقوط امرها، و لكن حيث لم يكن هذا النهي مبعدا و لا موجبا للعقاب فلا يمنع من وقوعها عبادة بقصد رجحانها أو محبوبيتها النفسيّة.

(1) قد عرفت ان المشهور قالوا بفساد العبادة بناء على اقتضاء الامر للنهي عن ضده الخاص.

و قد انكر البهائي رحمه اللّه هذه الثمرة، و قال: بان العبادة تقع فاسدة سواء قلنا بان الامر بالشي ء يقتضي النهي اولا يقتضي النهي، لانه بناء على عدم اقتضاء الامر للنهي عن ضده الخاص فالعبادة لا تكون متعلقة للنهي الّا انها ملازمة للمحرم، فإن وجود الضد المهم يلازم عدم الضد الأهم، و عدم الواجب الاهم محرم و الملازم للمحرم لا يعقل ان يكون واجبا لعدم امكان اختلاف المتلازمين في الحكم، فلا مناص عن سقوط الامر بالصلاة الملازم لعدم الازالة المحرّم، و حيث لا أمر بالصلاة فلا بد و ان تقع فاسدة، لأن وقوعها صحيحة يتوقف على قصد امرها و لا أمر بها للملازمة، و هذا مراده من قوله: «بل يكفي عدم الأمر به»: أي يكفي عدم الامر بالضد في وقوع الضد فاسدا حيث يكون الضد عبادة «لاحتياج العبادة إلى الأمر».

ص: 309

العدلية، أو غيرها أي شي ء كان، كما هو مذهب الاشاعرة، و عدم حدوث ما يوجب مبغوضيته و خروجه عن قابلية التقرب به كما حدث، بناء على الاقتضاء (1).

______________________________

(1) و حاصل ما ذكره ردا على البهائي في انكاره للثمرة: هو ان المشهور القائلين بفساد العبادة بهذا النهي لانه يوجب مبغوضيتها، و مع كون الشي ء يقع مبغوضا لا يعقل ان يكون صالحا لأن يكون مقربا، و لا يعقل ان يقع راجحا و محبوبا، فإن رجحانه قد زاحمته مرجوحيته بهذا النهي و محبوبيته قد زاحمته مبغوضيته له أيضا، بخلاف سقوط الأمر لأجل الملازمة، فإن الملازمة لا توجب الّا سقوط الامر و لا يستلزم ارتفاع الرجحان و المحبوبية المتحققين في الملازم، فالصلاة الملازمة لعدم الاهم المحرم لم يرتفع رجحانها و محبوبيتها لهذه الملازمة، و انما ارتفع الامر بها فقط، فيمكن ان يؤتى بها بقصد رجحانها و محبوبيتها الذاتية المقتضية للأمر بها لو لا ابتلاؤها بالمانع عن امرها، فالضد العبادي يقع صحيحا بناء على عدم حرمته لبقائه على ما هو عليه من رجحانه الذاتي و محبوبيته الذاتية، بخلاف ما إذا كان الضد العبادي محرما فانه لا يقع راجحا و لا محبوبا فلا يصح ان يقع عبادة و متقربا به، و العبارة واضحة عدا قوله: «كما هو مذهب العدلية أو غيرها».

و توضيحها انه لا ينبغي ان يقال: ان الضد العبادي عند المشهور انما يصح ان يقع عبادة بناء على عدم الاقتضاء و ان ارتفع الامر للملازمة، بان يأتي به بقصد رجحانه الذاتي، و محبوبيته لتحمله للمصلحة المحبوبة انما هو لأن مشهور العدلية يقولون بتبعية الاحكام للمصالح و المفاسد في المأمور به، فحيث يرتفع الحكم فقط للملازمة يبقى الرجحان و المحبوبية.

اما بناء على مذهب الاشاعرة المنكرين لتبعيتها للمصالح و المفاسد فعند ارتفاع الأمر للملازمة لا يتاتى قصد القربة لعدم احراز المصلحة و الرجحان و المحبوبية في الفعل.

ص: 310

في مبحث الترتب

اشارة

ثم إنه تصدى جماعة من الافاضل، لتصحيح الامر بالضد بنحو الترتب على العصيان، و عدم إطاعة الامر بالشي ء بنحو الشرط المتأخر، أو البناء على المعصية (1)، بنحو الشرط المتقدم، أو المقارن، بدعوى أنه

______________________________

فانه يقال: ان الاشاعرة و ان لم يقولوا بالمصالح و المفاسد الّا انهم لا يقولون بالجزاف البحت و ان الحكم لا ملاك له اصلا، و حيث لا نهي في الضد بناء على الملازمة فملاك الامر العبادي موجود في متعلقه و ان سقط الامر به، فيقصد ذلك الملاك الموجب لتعلق الامر العبادي و هو كاف في وقوعه عبادة سواء كان ذلك الملاك هو المصلحة كما هو مذهب العدلية أو غير المصلحة كما هو مذهب الاشاعرة، لانه انما سقط بالملازمة الامر بالضد فقط، و أما ملاكه فهو باق على ما هو عليه سواء كان هو المصلحة أو غيرها، فيقصد الملاك الموجود في الضد العبادي و يقع عبادة بهذا القصد.

(1) قد عرفت ان المتلازمين في الوجود لا يعقل اختلافهما في الحكم، فالصلاة الملازمة لترك الأهم- و هي الازالة- لا يعقل الاتيان بها عبادة بقصد امرها، اذ لا يعقل بقاء الامر فيها، و انما يصح اتيانها بقصد المحبوبية و الرجحان الذاتي.

و قد تصدى بعض المحققين لإمكان الاتيان بها بقصد امرها، لأن بقاء الامر بالصلاة التي هي المهم على اطلاقه مع كون ان الأمر بالاهم التي هي الازالة مفروض الاطلاق لازمه اجتماع الضدين في آن واحد، و اما إذا خرج الأمر بالصلاة من مرحلة الاطلاق إلى التعليق و الاشتراط على عصيان الامر بالأهم فلا مضادة بينهما: بان يقول الآمر أزل فإن لم تزل فصلّ، و حيث لا مضادة من الامر بالصلاة على وجه التعليق و الترتب فلا مانع من الاتيان بقصد امرها، فانه لا يأتي بها الّا في حال عصيان الامر بالإزالة، و في هذا الحال لا مضادة فلا مانع من الامر بالصلاة حينئذ، و سيأتي الإشارة إلى بيان وجه عدم المضادة فيما إذا كان الأمر على وجه التعليق في عبارته (قدس سره).

ص: 311

لا مانع عقلا عن تعلق الامر بالضدين كذلك، أي بأن يكون الامر بالاهم مطلقا، و الامر بغيره معلقا على عصيان ذاك الامر، أو البناء و العزم عليه، بل هو واقع كثيرا عرفا (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان التقسيم البدوي للعصيان ثلاثة، كما ان للبناء على المعصية ايضا ثلاثة: العصيان بنحو الشرط المتقدم، أو المقارن، أو المتأخر، و لكن حيث ان اخذ العصيان بنحو الشرط المتقدم لازمه خروج المقام عن محل الكلام، لأن النزاع في امكان الترتب و عدمه انما هو لاستلزامه الجمع بين الامر بالضدين اولا، و مع فرض تحقق العصيان بنحو الشرط المتقدم لا ريب في عدم استلزامه الجمع بين الامر بالضدين، لانه بعد تحقق العصيان يسقط الامر، و مع تقدمه زمانا على زمان الامر بالضد لا مانع من الامر بالضد الآخر، اذ لا تزاحم بين الموجود و المعدوم، فإن الامر بالصلاة بعد سقوط الامر بالإزالة و تقدم سقوطه لعصيانه لا مانع من الامر بالصلاة المعلق على عصيان الامر بالازالة المتقدم بالزمان على الامر بالصلاة اذ لا تزاحم بينهما بالضرورة، و كيف يقع التزاحم بين الامر الموجود و الامر الساقط المتقدم سقوطه على هذا الامر الموجود.

و اما اخذ العصيان للازالة مقارنا للامر بالصلاة فلأنه على ما تقدم منه في الواجب المعلق من لزوم تأخر الانبعاث عن البعث زمانا يلزم الخروج عن محل النزاع أيضا، لأن التضاد بين الأمرين بالضدين انما هو لعدم امكان الانبعاث عنهما في زمان واحد، امّا اجتماع نفس البعثين و الأمرين في زمان واحد فلا مانع منه لعدم التضاد بين نفس البعثين من دون اجتماع الانبعاثين عنهما، فاذا اخذ العصيان للاهم- و هو الامر بالازالة- مقارنا للامر بالصلاة فلا محالة يتأخر الانبعاث عن الامر بها عن زمان بعثها، فلا يجتمع في زمان واحد امران يتزاحمان في الانبعاث عنهما، لأن الانبعاث عن الامر بالصلاة متأخر عن زمان الامر بالصلاة، و الامر بالصلاة و ان كان في زمان الامر بالازالة لأن العصيان للامر بالازالة لا بد و ان يكون مجتمعا مع زمان الامر

ص: 312

قلت: ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد، آت في طلبهما كذلك، فإنه و إن لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع طلبهما،

______________________________

بالازالة و الامر بالصلاة موجود في ذلك الزمان أيضا، الّا انه حيث كان الانبعاث عن الامر بالصلاة غير مجتمع زمانا مع الامر بالصلاة و متأخر بالزمان عنه و في زمان الانبعاث عن الامر بالصلاة لا وجود للامر بالازالة لسقوطه بالعصيان- فلا يجتمع الامران في ضدين متزاحمين في الانبعاث عنهما.

و أمّا أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر فهو محل الكلام لاجتماع الامرين بعثا و انبعاثا في زمان واحد، فبناء على صحة الترتب يصح هذا الاجتماع و بناء على محاليته لا يصح، و أما إذا كان المعلق عليه الامر بالمهم هو البناء على معصية الأمر بالأهم فسواء اخذ بنحو الشرط المتأخر أو المقارن أو المتقدم يكون من مورد النزاع، اذ البناء على المعصية ليس موجبا لسقوط الامر مثل العصيان له، فيجتمع الامران على نحو الترتب و هو محل النزاع.

إلّا انه في اخذ البناء بنحو الشرط المتقدم مناقشة، وجهها: ان الشرط المتقدم غير المستمر إلى زمان الامر هو المراد بالشرط المتقدم، و اما الشرط المستمر تحققه إلى زمان الامر فهو الشرط المقارن، و عليه فالبناء على المعصية للأهم إذا لم يستمر إلى زمان الأمر بالصلاة فلا بد و ان يكون متبدلا بالبناء على اطاعة الأهم، و مع البناء على اطاعة الاهم لا مجال لحصول الصلاة، و اذا لم يعقل حصول الصلاة لا وجه لتصحيحها، إذ الترتب انما يكون وجها للصحة حيث يعقل حصولها.

و على كل فقد ظهر الوجه في تخصيص المصنف اخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر، و البناء على المعصية في اخذه بالانحاء الثلاثة، و انما ذكر في العبارة في اخذ البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدم و المقارن و لم يذكر اخذه بنحو الشرط المتأخر لانه هو المسلم اخذه في العصيان دون الشرط المتقدم و المقارن، فذكر ما لا يمكن اخذه شرطا في العصيان و ترك ذكر المتأخر لانه من المسلم.

ص: 313

إلا أنه كان في مرتبة الامر بغيره اجتماعهما، بداهة فعلية الامر بالاهم في هذه المرتبة، و عدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص، أو العزم عليها مع فعلية الامر بغيره أيضا، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا (1).

______________________________

(1) لا يخفى انه قد استند القائلون بصحة اجتماع الامرين بضدين على نحو الترتب إلى وجوه قد أشار إلى بعضها المصنف، منها ما أشار اليه في طي عبارته هذه بقوله:

«فانه و ان لم يكن في مرتبة طلب الاهم».

و توضيحه: ان الملاك في استحالة طلب الضدين هو ان يكون لكل واحد منهما اطلاق يشمل جميع مراتب اطلاق طلب الضد الآخر، بحيث يلزم ان يجتمع الطلبان في مرتبة واحدة، و اما إذا كان طلب الأهم متأخرا بمرتبة واحدة فضلا عما لو كان متأخرا بمرتبتين- كما في المقام- فلا مانع من اجتماعهما.

و الحاصل ان المحال اجتماع الطلبين في عرض واحد، أما إذا كان احدهما متأخرا بالمرتبة عن الآخر فلا يكون في عرضه، فلا يكون اجتماعهما من اجتماع طلب الضدين المحال، و طلب المهم بنحو الترتب و التعليق على عصيان الاهم متأخر عن عصيان الامر بالأهم، لوضوح تأخر كل مشروط عن شرطه بمرتبة، و عصيان الامر بالاهم متأخر بالرتبة أيضا عن الامر بالأهم، اذ لا يعقل ان يتحقق عصيان لأمر من دون الامر و يعقل ان يتحقق امر و لا عصيان، فالأمر بالمهم متأخر بمرتبة عن العصيان و المتأخر بمرتبة عن الأمر بالأهم، فالأمر بالمهم متأخر عن الأمر بالأهم بمرتبتين، و اذا كان الأمر بالمهم متأخرا بالمرتبة عن الامر بالاهم فلا يكون من اجتماع الأمرين في عرض، لأن العرضية لازمها ان يكون اطلاق كل منهما مزاحما لإطلاق الآخر و منافيا له، و بعد تأخر المهم بمرتبتين لا يجتمع اطلاق احدهما مع اطلاق الآخر، لوضوح انه في مقام اطاعة الأمر بالأهم و امتثاله لا اطلاق للامر بالمهم، بل لا وجود له اصلا لانه منوط بعصيان الأهم، فحيث لا عصيان لا موضوع للامر بالمهم، و في

ص: 314

.....

______________________________

فرض عصيان الامر بالأهم و لو في ظرفه ليس للامر بالأهم اطلاق يشمل ظرف عصيانه، لأن ظرف عصيانه ظرف عدمه، و لا يعقل ان يكون للامر اطلاق يشمل ظرف عدم الامر، فلا يكون اجتماع طلب الاهم و طلب المهم المعلق على فرض عصيان الاهم من الاجتماع في عرض واحد، بحيث يكون لكل واحد منهما اطلاق يزاحم الآخر.

و الجواب عنه: ان عدم اجتماع طلب الضدين في عرض واحد انما هو لاجتماعهما في زمان واحد بحيث يكون كل واحد منهما فعليا في حين فعلية الآخر، و كل واحد منهما يقتضي انبعاثا في حال ان الآخر يقتضي- أيضا- انبعاثا في ذلك الوقت، و هذا بعينه موجود في الأمر بالضدين على نحو الترتب، لأن غاية ما اقتضاه الأمر بالضد الآخر على نحو الترتب هو تأخر الأمر بالمهم بالمرتبة عن الأمر بالاهم، و التأخر بالمرتبة لا ينافي الاجتماع بالزمان، فإن الامر بالمهم في مقام اطاعة الامر بالاهم و ان كان لا تحقق له لانه مشروط بعصيان الاهم إلّا ان هذا الفرض لا كلام فيه، و انما الكلام في تصحيح الأمر بالمهم في ظرف عصيان الأمر بالأهم، و اخذ العصيان للاهم بنحو الشرط المتأخر للامر بالمهم لا يلازم سقوط الامر بالاهم، إذا المفروض ان العصيان للأهم في ظرفه لا بالفعل هو الشرط للامر بالمهم، و في مثل هذا الفرض الأمر بالأهم موجود و غير ساقط فيجتمع الأمر بالأهم و الأمر بالمهم بالفعل، و يكون كل منهما فعليا و يقتضي انبعاثا بالفعل، فإن الامر بالاهم متحقق لاطلاقه و عدم تقييده بالمهم، و الأمر بالمهم متحقق بالفعل أيضا لفرض ان شرطه عصيان الامر بالأهم في ظرفه المتأخر عن هذا الزمان، فيجتمع الأمر بالضدين بالفعل و كل واحد منهما فعلى.

و بعبارة اخرى: ان المانع عن ان يكون لكل واحد منهما اطلاق بالفعل في عرض الآخر هو اجتماعهما بالفعل بنحو ان يكون كل واحد منهما فعليا و يقتضي انبعاثا بالفعل، و هذا المانع موجود في الامر بالضدين و ان كان احدهما مترتب على عصيان

ص: 315

.....

______________________________

الآخر بنحو الشرط المتأخر، فإن الأمر بالمهم و ان كان لا اطلاق له يشمل مقام الامتثال و الإطاعة للامر بالأهم لانه قد اخذ فيه عصيان الامر بالاهم، إلّا ان هذا العصيان ماخوذ بنحو الشرط المتأخر الذي لازمه كون الامر المشروط به فعليا قبل زمان تحقق الشرط، فقبل تحقق العصيان الذي هو زمان فعلية الأمر بالأهم الامر بالمهم أيضا فعلي، فيجتمع الامر بالضدين و كل واحد منهما فعلي، فإن المفروض ان للأمر بالاهم اطلاقا يشمل جميع الازمنة الذي منها الزمان الذي يكون الامر بالمهم فيه فعليا لتحقق شرطه في ظرفه، فالاجتماع في الوجود متحقق و يكفي فيه ان يكون لأحدهما اطلاق يشمل حال وجود الآخر، فالأمر بالمهم و ان لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم إلّا ان الأمر بالأهم متحقق في مرتبة الأمر بالمهم، لفرض اطلاق الامر بالأهم بحيث يشمل مرتبة الأمر بالمهم، فيلزم اجتماع الأمر بالضدين بالفعل. هذا كله فيما إذا كان الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالاهم بنحو الشرط المتأخر الذي قد عرفت ان عصيانه في ظرف متأخر لا يقتضي سقوطه بالفعل.

و أما بناء على كون الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو البناء على عصيان الأهم، فاجتماعهما واضح باي نحو اخذ البناء شرطا متقدما أو مقارنا أو متأخرا، فإن البناء على معصية الأمر لا يسقط الأمر، و الى ما ذكرنا أشار بقوله: «فانه و ان لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع طلبهما» لأن المفروض ان الأمر بالمهم لا اطلاق له يشمل حال تحقق الأمر بالاهم، اذ لم يكن له اطلاق يقتضي تحققه في جميع الاحوال حتى حال تحقق الامر بالأهم «إلّا انه كان في مرتبة الامر بغيره» و هو مرتبة الامر بالمهم «اجتماعهما»: أي اجتماع الامر بالاهم و الامر بالمهم في مرتبة الامر بالمهم، و قوله: اجتماعهما هو اسم كان لبداهة فعلية الأمر بالاهم لفرض اطلاقه في جميع المراتب التي منها مترتبة الامر بالمهم، و لذا قال: «بداهة فعلية الامر بالأهم في هذه المرتبة» و هي مرتبة الامر بالمهم، لأن الامر بالمهم قد صار فعليا لفرض تحقق شرطه و هو العصيان في الزمان المتأخر، و عصيان الامر بالأهم في الزمان المتأخر لا يوجب

ص: 316

لا يقال: نعم لكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار، فلولاه لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالاهم، و لا برهان على امتناع الاجتماع، إذا كان بسوء الاختيار (1).

______________________________

سقوط الامر بالأهم حالا، فإن الامر يسقط بعصيانه الحالي لا بعصيانه المتأخر عنه زمانا، و لذا قال: «و عدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد» غير المتحققة بالفعل و «ما لم يعص» الامر بالأهم لا يسقط الأمر بالأهم، و قد أشار إلى اجتماعهما فيما كان الشرط للمهم هو العزم على عصيان الاهم و البناء على معصيته بقوله: «أو العزم عليها»: أي على المعصية، ففي فرض العزم و البناء على المعصية للاهم يكون الامر بالمهم فعليا لتحقق شرطه، و الامر بالأهم فعلى لانه لا يسقط بمجرد العزم على عصيانه، فيجتمع الأمران بضدين فعليين و هذا مراده من قوله:

«فعلية الامر بغيره أيضا لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا».

(1) هذا الوجه الثاني، و حاصله: ان غاية ما ذكر ان الأمر بالضدين على نحو الترتب لازمه الاجتماع حيث يعصي المكلف الأمر بالأهم، أما إذا لم يعص و يطع الأمر بالأهم فلا يتحقق الاجتماع لعدم تحقق شرط الامر بالمهم، و العصيان انما يكون بسوء اختيار المكلف، لأن المخالفة لا بالاختيار ليست عصيانا، و الامر بالضدين الذي يكون السبب في اجتماعهما سوء اختيار المكلف لا مانع منه عقلا، لأن المحال هو ان يكون السبب الموقع للمكلف في التكليف بما لا يطاق لم يات من ناحية المكلف.

و بعبارة اخرى: ان المحال هو ان يأمر المولى ابتداء بايجاد الضدين فيكون كل منهما في عرض الآخر من دون ان يكون المكلف موجبا لاجتماعهما، لانه إذا كان المكلف في تمام الطوع و الانقياد لا يستطيع ان يمتثل فيكون القاؤه فيما لا يطاق امتثاله من ناحية المولى لا من ناحية المكلف و هو القبيح، و اما إذا كان القاؤه فيما لا يطاق بسوء اختياره فليس بقبيح.

قوله: «حيث يعصي فيما بعد» لأن العصيان ماخوذ بنحو الشرط المتأخر.

ص: 317

فإنه يقال: استحالة طلب الضدين، ليس إلا لاجل استحالة طلب المحال، و استحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته، لا تختص بحال دون حال، و إلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب، مع أنه محال بلا ريب و لا إشكال (1).

______________________________

قوله: «فلولاه لما كان متوجها اليه الا الطلب بالاهم» لانه لو لم يعص الأمر بالاهم لما كان الامر بالمهم متوجها، و لو اطاع لما توجه اليه الا طلب واحد و هو الطلب بالأهم.

(1) و حاصله: ان قبح الطلب بما لا يطاق و بتحصيل المحال لا يدور مدار سوء اختيار المكلف و حسن اختياره، فإن طلب المحال من الحكيم لا يصدر و ان كان بسوء اختيار المكلف، و لذا لا يعقل ان يأمر المولى بالمحال معلقا امره به على امر اختياري للمكلف، فلا يصح ان يأمر المولى ابتداء و يقول لعبده ان دخلت الدار فاجمع بين الضدين أو النقيضين، مضافا إلى ان الأمر بداعي جعل الداعي، و مع علم المولى بالمحال تحققه لا يعقل ان يأمر بداعي جعل الداعي اليه.

و الحاصل: انه لو صح من المولى الحكيم ان يقول لعبده ان عصيت الأمر بالأهم بسوء اختيارك فأزل وصل لصح منه ان يأمر- ابتداء- و يقول ان دخلت الدار- مثلا- فأزل وصل جاعلا كل واحد منهما في عرض الآخر من دون حاجة إلى التعليق على العصيان بنحو الترتب، و من الواضح محاليته و لذا قال: «و إلّا لصح فيما علق امر اختياري في عرض واحد»: اي و لو صح الامر بالضدين بنحو الترتب لكونه بسوء الاختيار فيصح الطلب للمحال معلقا على سوء اختيار المكلف و يكون طلب المحال لا بسوء اختيار المكلف محالا، و طلبه بسوء اختياره لا محالية فيه- لجاز و صح من المولى ابتداء ان يأمر بالضدين في عرض واحد و يعلق امره بهما على شي ء اختياري و هذا لا يصح قطعا فلا يصح الجمع على نحو الترتب.

ص: 318

إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد و الاجتماع كذلك، فإن الطلب في كل منهما في الاول يطارد الآخر، بخلافه في الثاني، فإن الطلب بغير الاهم لا يطارد طلب الاهم، فإنه يكون على تقدير عدم الاتيان بالاهم، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه، و عدم عصيان أمره (1).

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثالث الذي أشار اليه بقوله ان قلت لتصحيح الأمر بالضدين على نحو الترتب، و مبنى هذا الوجه ليس التاخر بالمرتبة كما مر في الوجه الاول، و انما حاصله: ان المانع من الأمر بالضدين في عرض واحد هو كون كل منهما يطرد الآخر و يقتضي ان يشغل المحل هو دون الضد الآخر، و الأمر بالضدين على نحو الترتب لا مطاردة بينهما كذلك، لأن الأهم لا يطرد المهم، لانه في مورد امتثاله لا تحقق للمهم حتى يطرده الأهم لانه منوط بعصيانه، امّا في حال اطاعته و امتثاله و الاتيان به لا تحقق للامر بالمهم، و طلب المهم أيضا لا يطرد الأهم لأن مورده حال عدم الإتيان بالأهم و عصيانه، و الأهم في حال عصيانه و عدم الإتيان به لا اطلاق له، اذ لا يعقل ان يشمل اطلاق الامر بالأهم مورد عصيانه و عدم الاتيان به، و إذا كان لا مطاردة بينهما فلا مانع من اجتماعهما، و الى ما ذكرنا أشار بقوله: «فرق بين الاجتماع في عرض واحد و الاجتماع كذلك»: أي على نحو الترتب «فإن الطلب في كل منهما في الاول»: أي اجتماعهما في عرض واحد «يطارد الآخر» فإن لازم اجتماعهما في عرض واحد ان يكون كل واحد منهما يقتضي و يطلب ان يطرد الآخر و يشغل المحل دونه «بخلافه في الثاني» و هو الاجتماع على نحو الترتب «فإن الطلب بغير الأهم»: أي بالمهم «لا يطارد طلب الأهم».

ذكر عدم مطاردة المهم للاهم و سيشير إلى انه في مورد الاتيان بالأهم لا تحقق للامر بالمهم حتى يطرده الأهم.

ص: 319

قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير الاهم و هل يكون طرده له إلا من جهة فعليته، و مضادة متعلقه له. و عدم إرادة غير الاهم على تقدير الاتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه، على تقدير عدم الاتيان به و عصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير، مع ما هما عليه من المطاردة، من جهة المضادة بين المتعلقين، مع أنه يكفي الطرد من طرف الامر بالاهم، فإنه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد، كما كان في غير هذا الحال، فلا يكون له معه أصلا بمجال (1).

______________________________

و حاصل ما ذكره: هو ان طلب غير الأهم لا يطارد طلب الأهم لانه لا يكون طلب غير الأهم إلّا في مورد لا اقتضاء لطلب الأهم فيه و هو مورد عصيانه و عدم الاتيان به، و لذا علل عدم مطاردة طلب غير الأهم لطلب الأهم بقوله: «فانه يكون على تقدير عدم الاتيان بالأهم» و عصيانه، و في مثل هذا لا اقتضاء لطلب الأهم حتى يطرده طلب غير الأهم: أي طلب المهم.

ثم أشار إلى انه في مورد اطاعة الامر بالأهم لا تحقق لطلب غير الأهم حتى يطرده طلب الأهم بقوله: «فلا يكاد يريد غيره»: أي لا يكاد يريد غير الأهم «على تقدير اتيانه»: أي على تقدير اتيان الأهم «و عدم عصيان امره».

(1) محصل قوله يرجع إلى جوابين:

الأول: ان المطاردة من الطرفين موجودة، و توضيحه: ان هنا فرضين: فرض اطاعة الامر بالأهم و في هذا الفرض لا مطاردة بينهما لعدم تحقق شرط الامر بالمهم، و فرض عصيان الامر بالأهم، و قد عرفت انه في هذا الفرض لا يسقط الامر بالأهم، لأن العصيان له الذي هو شرط تحقق الامر بالمهم و فعليته ماخوذ بنحو الشرط المتأخر، و ما لم يتحقق العصيان خارجا لا يسقط الامر بالأهم، و اذا كان الامر بالأهم موجودا و فعليا تقع المطاردة بينهما لتحقق فعليتهما معا.

ص: 320

.....

______________________________

و ما يقال: من انه لا يعقل ان يكون للامر بالأهم اطلاق يشمل عصيانه فلا تجتمع الفعليتان.

فانه يقال اولا: ان الامر بالأهم لا يعقل ان يشمل زمان عصيانه المتحقق خارجا دون الزمان الماخوذ العصيان فيه بنحو الشرط المتأخر.

و ثانيا: ان المطاردة تدور مدار فعلية الأمر بالضدين و وجودهما، لأن كلا منهما بفعليته يقتضي طرد الآخر، فالأمر بالأهم و ان لم يكن له اطلاق لساني يشمل العصيان مطلقا إلّا ان المدار في المطاردة هو الوجود و الفعلية و هي متحققة لفعليتهما معا في الزمان الذي لم يتحقق العصيان فيه خارجا، و الى هذا أشار بقوله: «ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير بالأهم»: أي كيف لا يطارد الامر بالأهم الامر بغير الأهم- و هو الامر بالمهم- «و هل يكون طرده له»: أي طرد المهم للاهم «الا من جهة فعليته و مضادة متعلقه له» و الفعلية متحققة و مضادة المتعلقين معلومة «و عدم ارادة غير الأهم على تقدير الاتيان به» يشير بهذا إلى الفرض الاول الذي ذكرناه و هو انه في حال اطاعة الأهم لا مطاردة.

و حاصله: انه لا ملازمة بين عدم المطاردة في فرض الاتيان بالأهم و وجود المطاردة في فرض عدم ارادة الأهم و عدم الاتيان به و عصيانه، فانه في الفرض الاول لا تحقق للامر بالمهم، و في الفرض الثاني الامر بالمهم متحقق، و اذا كان فعليا فلا بد و ان يطارد الامر بالأهم، و ليست الّا ان كلّا منهما يقتضي امتثالا لا يمكن معه امتثال الآخر لتضاد متعلقهما، فعدم طرد المهم للاهم في حال الاتيان بالأهم لعدم تحقق المهم «لا يوجب عدم طرده»: أي لا يوجب عدم طرد المهم «لطلبه»: أي لطلب الأهم «مع تحققه»: أي مع تحقق المهم «على تقدير عدم الاتيان به»: أي عدم الاتيان بالأهم «و عصيان امره فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير» و هو تقدير عدم الاتيان بالأهم و عصيانه لا على تقدير الاتيان به و اطاعته.

ص: 321

إن قلت: فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات (1)؟

______________________________

و الجواب الثاني: ما أشار اليه بقوله: «مع انه يكفي الطرد من طرف الامر بالأهم».

و توضيحه: انه إذا قلتم بفعلية كلا الامرين فلا بد من الالتزام بالمطاردة من الجانبين، و ان قلتم بعدم فعلية الامر بالمهم فعلية مطلقة و ان الفعلية المطلقة للامر بالأهم وحده، لأن الامر بالمهم حيث كان مشروطا بعصيان الأهم ففعليته مقيدة بخلاف الامر بالأهم، فإن فعليته مطلقة و غير مشروطة بشي ء، فمرجع هذا إلى ان الامر بالأهم حيث يكون فعليا مطلقا فهو يطرد الامر بالمهم و لا يكون له مجال معه، و اذا لم يكن له مجال معه فلا تكون له فعلية مع فعليته، و اذا لم يكن الامر بالمهم فعليا فكيف يمكن قصد امتثال امره؟ و الحال ان مراد المصحح بنحو الترتب هو امكان اتيان المهم بقصد امتثال امره الفعلي.

فاتضح: ان الفعلية المطلقة من جانب الأهم وحده تكفي في عدم فعلية الامر بالمهم و طرده عن ان يكون فعليا، و لذا قال: «فانه على هذا الحال»: أي على حال عدم الاتيان بالأهم «يكون» الامر بالأهم «طاردا لطلب الضد» و هو المهم «كما كان» طاردا له «في غير هذا الحال»: أي في غير حال عدم الاتيان به و هو حال اطاعة الامر الأهم «فلا يكون له» أي للامر بالمهم «معه»: أي مع الامر بالأهم «اصلا بمجال» و ما ذكرنا ينبغي ان يكون مراده من كفاية الطرد من جانب واحد. فلا يرد عليه ان هذا غير معقول و ان المطاردة لا بد و ان تكون من الجانبين.

(1) هذا هو الوجه الرابع الذي ذكروه لصحة الترتب و هو ان وقوعه ادل دليل على امكانه، اذ غير الممكن لا يعقل وقوعه و الوقوع آية الامكان، و متى امكن ان يقع فلا بد من صحته إذا وقع.

ص: 322

قلت: لا يخلو إما أن يكون الامر بغير الاهم، بعد التجاوز عن الامر به و طلبه حقيقة. و إما أن يكون الامر به إرشادا إلى محبوبيته و بقائه على ما هو عليه من المصلحة و الغرض لو لا المزاحمة، و أن الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الامر بالاهم، لا أنه أمر مولوي فعلي كالامر به، فافهم و تأمل جيدا (1).

______________________________

و من الواضح وقوعه في العرفيات فانه واقع في الاوامر العرفية ان يقول السيد لعبده: افعل هذا، فإن عصيت و لم تفعل فافعل هذا، و قد وقع في الشرع أيضا و مثلوا له بما إذا وجب عليه الخروج من بلده في شهر رمضان لسفر الحج الواجب بحيث يكون اداء الحج موقوفا على السفر في شهر رمضان لحصول الرفقة- مثلا- في ذلك الشهر دون غيره فلم يمتثل امر الخروج و بقى في بلده، فانه يتوجه اليه الامر بالصوم ما دام في بلده مع ان الامر بالأهم و هو الخروج إلى سفر الحج متوجه، فتوجه التكليفين انما هو على نحو الترتب، فانه مامور بالخروج امرا مطلقا و غير مقيد بشي ء، و مامور بالصوم على تقدير عدم الخروج و عدم امتثاله له فهو امر مقيد بعدم امتثال الامر بالخروج، و اذا ثبت وقوع الامرين على نحو الترتب عرفا و شرعا فهو اعظم دليل على امكانه و صحته.

(1) و توضيحه: انه في الشرع لم يرد الامران بلسان الترتب، فانه لم يصلنا على لسان الشارع انه قال اخرج لسفر الحج في رمضان و ان لم تمتثل فصم، و انما هو دعوى ان لازم فتوى المشهور بوجوب الصوم على من لم يخرج هو الأمر على نحو الترتب، و سيأتي التعرض لجوابه.

و اما الاوامر العرفية فالجواب عنها: بان غاية ما جاء في العرف هو ظهور كون الامرين مجتمعين على نحو الترتب، و الظهور العرفي لا يقاوم البرهان العقلي على محالية الاجتماع بنحو كون الامرين متحققين معا و مولويين، فلا بد من تأويل الاوامر العرفية، اما بان يكون مراد الآمر بقوله: افعل هذا فإن لم تفعله في وقت كذا

ص: 323

.....

______________________________

- مثلا- فافعل هذا: انه إذا لم تفعله فقد تجاوزت عن الامر به، و لا محالة مع تجاوز الآمر عن امره يسقط امره و لا يبقى إلّا الامر بالمهم فلا جمع بين الضدين، و قد أشار اليه بقوله: «لا يخلو اما ان يكون الامر بغير الأهم بعد التجاوز عن الامر به»: أي بعد التجاوز عن الامر بالأهم «و» عن «طلبه حقيقة» و قد عرفت انه مع تجاوز الآمر عن امره و رفع يده عنه لا بد من سقوطه، فيبقى الامر بغير الأهم وحده فلا جمع بين الامرين المولويين على نحو الترتب.

و اما ان يكون امره ليس مولويا بل ارشاديا إلى تاتي الصوم بقصد رجحانه الذاتي، فإن الصوم حيث كان ملازما لنقيض الضد المأمور به فلا امر به للتلازم و ليس بمنهي عنه، فيمكن اتيانه بقصد رجحانه الذاتي و محبوبيته الذاتية، و الامر بالصوم ارشاد إلى امكان الاتيان به بقصد رجحانه لا ينافي حرمة نقيض الضد الآخر الملازم لهذا الضد، فإن المتلازمين لا يعقل ان يختلفا في الحكم الذي لازمه كون الامر بهما مولويا.

اما الامر ارشادا في فعل احد الضدين- المهم- فيجتمع مع النهي المولوي لنقيض الضد الأهم الملازم، و الى هذا أشار بقوله: «و اما ان يكون الامر به ارشادا» إلى آخر كلامه.

و قوله: «لو لا المزاحمة»: أي ان الضد لم يفقد بواسطة ملازمته لما هو المحرم من رجحانه الذاتي و غرضه و مصلحته شيئا، و هو باق على ما كان عليه من المصلحة و الغرض الموجبين للأمر به مولويا لو لا المزاحمة، فالمزاحمة انما اسقطت الامر به مولويا. و اما مصلحته فلم تمس بشي ء فيصح الاتيان به بداعي محبوبيته الذاتية المعلولة لهذه المصلحة، و يستحق على اتيانه المثوبة لوقوعه مقربا و يخفف به معصيته للامر الأهم لأن الحسنات يذهبن السيئات.

و اما ما وقع في الاوامر الشرعية كالفتوى بصحة الصوم في شهر رمضان مع امره بالخروج إلى سفر الحج الأهم.

ص: 324

اشكال المصنف (قده) على القائل بالترتب

ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب، بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الامرين لعقوبتين، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، و لذا كان سيدنا الاستاذ (قدس سره) لا يلتزم به- على ما هو ببالي- و كنا نورد به على الترتب، و كان بصدد تصحيحه (1)، فقد ظهر أنه لا وجه لصحة العبادة، مع مضادتها لما هو أهم منها، إلّا ملاك الامر.

______________________________

فالجواب عنه: انه حيث لم يرد صريحا من الشارع انه إذا لم تسافر فصم فالفتوى بالصحة اما مبنية على قصد رجحانه الذاتي، أو توهم امكان الترتب.

(1) لا يخفى ان الترتب المدعى اما بين الموسع و المضيق، و اما بين المضيقين.

و لا اشكال انه لا بأس بالتزام العقاب على ترك المضيق في وقته، و على ترك الموسع إذا ترك في جميع وقته كالإزالة و الصلاة فيما إذا ترك الازالة و الصلاة في جميع الوقت، إلّا ان الترتب كما يتأتى بين الموسع و المضيق كذلك يتاتى بين المضيقين.

و على القول بصحة الترتب فلا بد من الالتزام بعقابين على ترك المضيقين، فلو فرضنا- مثلا- ان الوقت لا يسع إلّا لصلاة اليومية أو لصلاة الآيات و قلنا ان اليومية اهم، فعلى القول بعدم صحة الترتب فلا خطاب الا باليومية و ليس إلّا عقاب واحد على تركها.

و على القول بالترتب فالخطاب يكون: صل اليومية فإن لم تصلها فصل الآيات، فاذا تركهما فلا مناص من الالتزام بعقابين: عقاب على ترك اليومية و عقاب على ترك الآيات، و الالتزام بعقابين لازم صحة العقاب على ما لا يطاق و هو محال من الحكيم، و ذلك لأن المفروض ان الوقت لا يسع إلّا احدهما و حيث يكون كذلك فلا يسع الا امتثالا واحدا، و العصيان الموضوع لصحة العقاب انما هو بازاء الامتثال، فاذا كان الوقت لا يسع إلّا امتثالا واحدا فلا يكون في قباله الاعقاب واحد، فالعقاب المتعدد على ما لا يسع إلّا امتثالا واحدا لازمه صحة العقاب على ما لا يطاق، و قبح

ص: 325

نعم فيما إذا كانت موسعة، و كانت مزاحمة بالاهم في بعض الوقت، لا في تمامه، يمكن أن يقال: إنه حيث كان الامر بها على حاله، و إن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الاهم من أفرادها من تحتها، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الامر، فإنه و إن كان الفرد خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها، إلا أنه لما كان وافيا بغرضها كالباقي تحتها،

______________________________

العقاب على ما لا يطاق كالتكليف بما لا يطاق قبيح على الحكيم، بل لعله السبب في عدم صحة التكليف بما لا يطاق.

لا يقال: ان الالتزام بعقابين في المقام كالالتزام بعقابين على دخول الدار المغصوبة و على الخروج منها، مع ان الخروج بعد الدخول مما لا بد منه و العقاب على ما لا بد منه عقاب على ما لا يطاق.

و السر في جوازه هو القدرة على تركه بترك الدخول، و متى كان الشي ء مقدورا و لو بالواسطة صح العقاب عليه، و المقام مثله فإن المكلف يسعه ان لا يعاقب اصلا بامتثاله الأهم، و يسعه ان يكون له عقاب واحد بان يفعل المهم في حال ترك الأهم و يقدر على تركهما فيعاقب عليهما.

فانه يقال: فرق بين المقامين فإن العقاب على الدخول و الخروج انما هو لكون لكل منهما خطاب في عرض الآخر، غايته ان الدخول مقدور على تركه بلا واسطة و الخروج مقدور الترك بالواسطة، و ليس في المقام امران في عرض واحد احدهما مقدور بواسطة و الآخر مقدور بلا واسطة، بل هما امران متوجهان دائما في زمان لا يسع إلّا امتثالا واحدا، و الدخول و الخروج لهما امتثالان و ذلك بترك الدخول، فانه بترك الدخول يتحقق أيضا ترك المنهي عنه و هو التصرف في الغصب الذي من مصاديقه ترك الخروج.

و بعبارة اخرى: إذا صح ان يكون لهما امتثالان صح ان يكون لهما عقابان، و اذا لم يكن لهما امتثالان فلا يصح ان يكون لهما عقابان.

ص: 326

كان عقلا مثله في الاتيان به في مقام الامتثال، و الاتيان به بداعي ذلك الامر، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا (1).

______________________________

(1) هذا لازم ما مر فانه على القول بالترتب يمكن اتيان العبادة بقصد امتثال امرها، فيصح الاتيان بالصلاة في حال ترك الازالة بقصد امرها. و حيث عرفت عدم صحة الترتب فلا يمكن الاتيان بها بقصد امرها.

ثم لا يخفى انه قد عرفت ان الترتب له مقامان: المضيقان، و الموسع و المضيق، و في المضيقين لا يعقل اتيان المهم إذا كان عبادة بقصد امتثال امره، و ينحصر اتيانه عبادة بقصد ما فيه من ملاك المحبوبية لما عرفت: من انه بمزاحمته بالأهم لم يسقط منه الا الامر به لأجل الملازمة، و لكنه باق على ما هو عليه من ملاكه و محبوبيته، و العبادة كما تقع عبادة بقصد امتثال امرها كذلك تقع عبادة بقصد محبوبيتها و هو قصد ما هو الملاك للامر بها و ينحصر اتيانها عبادة بذلك، و الى هذه أشار بقوله:

«فقد ظهر انه لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو اهم منها الا ملاك الامر» كاليومية و الآيات، فانه لو فرضنا اهمية اليومية و عند تركها يصح اتيان الآيات بما فيها من المحبوبية و المصلحة التي هي الملاك للامر بها.

و يظهر من المصنف بان قصد الملاك منحصر في المضيقين لا في الموسع و المضيق، فانه في الموسع قد تصور المصنف امكان اتيان العبادة المهمة بقصد امتثال امرها، و أشار اليه بقوله: «فيما إذا كانت موسعة و كانت الخ».

و توضيحه: ان الامر متعلق بالطبيعة اما بنحو الطبيعة السارية في افرادها، أو بالطبيعة بنحو يكون اول الافراد و آخرها بنحو الحدين، و المأمور به هو الطبيعة بين هذين الحدين و الفرق بينهما ان المتعلق هو الطبيعة الملحوظ انطباقها على افرادها في الاول، و في الثاني لا يكون التطبيق ملحوظا للآمر و انما هو بيد المكلف.

و على كل فالطبيعة بما هي مامور بها لا تسع هذا الفرد المزاحم بالأهم و لكنه انما لا تسعه بما هي مامور بها لابتلائه بالمزاحم، لا لقصور فيه من حيث كونه مصداقا

ص: 327

.....

______________________________

للطبيعة بما هي، و لا من حيث عدم وفائه بالغرض أو المصلحة التي هي الملاك للأمر به، فالطبيعة بما هي و بما فيها من الغرض و المصلحة تسعه، و انما لا تسعه بما هي مامور بها لابتلائه بالمزاحم، و المزاحمة أوجبت خروج هذا الفرد عن تعلق الامر به فقط، من دون عروض نقص فيه من ساير الجهات الموجودة في بقية افراد الطبيعة، فالامر بالطبيعة بعد خروج هذا الفرد المزاحم عن ان يسعه الامر أوجب تضيق دائرة المتعلق للطبيعة و اختصاصها بما هي مامور بها بغير هذا الفرد، إلّا ان هذا الفرد الخارج عن ان يشمله الأمر مساو لسائر افراد الطبيعة في كل جهة عدا انه لا يمكن ان يشمله الامر. و كما ان الاتيان بفرد مما يشمله الامر يحصل به الغرض و يسقط به الامر، كذلك الاتيان بهذا الفرد الخارج عما يتعلق به الامر يحصل به الغرض و يسقط به الامر لحصول غرضه، و اذا كان الفرد الخارج بهذه المثابة فيمكن ان يقصد باتيانه امتثال الامر المتعلق بالطبيعة التي لا تسع هذا الفرد الخارج بما هي مامور بها، و لكن تسعه بما هو مصداق لنفس الطبيعة و بما هو واف بالغرض و المصلحة كسائر افرادها التي تسعها بما هي مامور بها، و قصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة لا يتوقف على خصوص الاتيان بالفرد الذي تسعه الطبيعة بما هي مامور بها، لأن قصد امتثال الامر هو قصد الاتيان بما يحصل به تمام الغرض و يسقط به الامر، و المفروض ان الفرد الخارج يحصل باتيانه تمام الغرض و يسقط باتيانه الامر المتعلق بالطبيعة، اذ لا معنى لبقائه بعد حصول تمام غرضه. فكما يمكن قصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بالفرد الذي تسعه الطبيعة المأمور بها كذلك يمكن قصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة التي لا تسع هذا الفرد بوصف كونها مأمورا بها بهذا الفرد الخارج عنها، فيقصد به امتثال الامر المتعلق بالطبيعة الخارج عنها هذا الفرد.

و بعبارة اخرى: ان خروج الفرد عن الطبيعة المأمور بها على ثلاثة انحاء:

الاول: ان يكون فردا لطبيعة اخرى كالفرد الزكاتي و الفرد الصومي فانه لا يعقل ان يحصل بهما امتثال الامر المتعلق بطبيعة الصلاة.

ص: 328

.....

______________________________

الثاني: ان يكون خروج الفرد عن الطبيعة المأمور بها لعروض تخصيص للامر بالطبيعة اوجب خروج هذا الفرد كخروج العالم الفاسق بالتخصيص عن الامر المتعلق باكرام العلماء، فإن مثل هذا الفرد بعد ابتلائه ذاتا بالمانع و هو الفسق صار ليس كسائر افراد الطبيعة المتعلق بها الامر، و حكمه حكم النحو الاول في انه لا يعقل ان يقصد به امتثال الامر المتعلق بالطبيعة التي لا تسعه.

الثالث: ان يكون خروج الفرد لابتلائه بالأهم المزاحم للامر بالمهم فقط من دون عروض شي ء على هذا الفرد الخارج، فالفرق بين الثاني و الثالث هو ان المانع عن تعلق الامر بالفرد الخارج قد عرض ذات الفرد الخارج، و في الثالث لم يعرض المانع على ذات الفرد الخارج و انما منع عن تعلق الامر به فقط، فهو كسائر افراد الطبيعة المأمور بها من كل جهة من حيث ذاته و ذاتها و لم يفترق عنها إلّا انه لأجل المزاحمة صار لا يمكن ان يتعلق به الامر، فلا مانع من ان يقصد به امتثال الامر المتعلق بالطبيعة التي لا تسعه بما هي مأمور بها، و لذا قال: «حيث كان الامر بها على حاله» بمعنى انه لم يطرأ على الأمر المتعلق بالطبيعة تضيق لأجل التخصيص «و ان صارت» الطبيعة «مضيقة بخروج ما زاحمه الأهم من افرادها من تحتها» فهي مضيقة للمزاحمة لا للتخصيص و الفرد خرج عنها و صارت ضيقة بخروجه إلّا انه لا شي ء عرض على هذا الخارج عنها بل العارض انما عارض الامر و زاحمه عن ان يتعلق به فقط، و حيث كان الحال كذلك «امكن ان يؤتى بما زوحم منها» و هو الفرد الخارج «بداعي ذاك الامر» المتعلق بالطبيعة الخارج عنها هذا الفرد للمزاحمة «فانه و ان كان» هذا الفرد «خارجا عن تحتها بما هي مامور بها إلّا انه لما كان وافيا بغرضها» و مساو لبقية افرادها من حيث ذاته و ذاتها من كل جهة فهو «كالباقي تحتها كان عقلا» هذا الفرد الخارج عنها كالفرد الباقي تحتها فهو «مثله في الاتيان به في مقام الامتثال و الاتيان به بداعي ذلك الامر بلا تفاوت» لما عرفت ان قصد امتثال الأمر يتأتى في الفرد الذي يحصل به تمام الغرض و يسقط باتيانه الامر، و هذا الشرط

ص: 329

و دعوى أن الامر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها، و ما زوحم منها بالاهم، و إن كان من أفراد الطبيعة، لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها فاسدة، فإنه إنما يوجب ذلك، إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة، فإنه معها و إن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها، إلا أنه ليس لقصور فيه، بل لعدم إمكان تعلق الامر بما تعمه عقلا، و على كل حال، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال و إطاعة الامر بها، بين هذا الفرد و سائر الافراد أصلا.

هذا على القول بكون الاوامر متعلقة بالطبائع.

و أما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك (1)، و إن كان جريانه عليه

______________________________

موجود في هذا الفرد الخارج كما هو موجود في الفرد المندرج فلا تفاوت عند العقل في امكان قصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بكل واحد من هذين الفردين.

(1) حاصل هذه الدعوى ان الامر انما هو بداعي جعل الداعي، و معنى قصد امتثاله هو الاتيان بتحريك من الامر و بدعوة منه و لا يكاد يدعو الا إلى متعلقه. و حيث فرض خروج هذا الفرد المهم بواسطة مزاحمته بالأهم عن كونه متعلقا للامر فلا يعقل ان يدعو الامر اليه، فلا يعقل ان يقصد بهذا الفرد الخارج امتثال الامر غير المتعلق به على الفرض، فهو و ان كان من افراد الطبيعة بما هي لكنه ليس من افرادها بما هي متعلقة للامر، و الى هذا أشار بقوله: «و ان كان من افراد الطبيعة إلى آخره».

و قد اجاب عنها بقوله: «فاسدة فانه انما يوجب الخ» و قوله فاسدة خبر قوله و دعوى.

ص: 330

.....

______________________________

و محصل الجواب: ما اشرنا اليه في الحاشية السابقة و هو ان الامر و ان كان لداعي جعل الداعي إلى امتثاله إلّا ان امتثاله ليس إلّا الاتيان بما هو متحمل لتمام غرضه و يسقط الامر بالاتيان به، و هذا الفرد الخارج حيث كان مثل ساير افراد الطبيعة من ناحية الغرض التام و يترتب على الاتيان به سقوط الامر لاستيفاء الغرض منه، فلا مانع من ان يقصد به امتثال الامر المتعلق بالطبيعة و ان كانت لا تسع هذا الفرد من حيث المزاحمة، إلّا ان هذا الفرد ليس من افراد طبيعة اخرى حتى يخرج تخصصا، و لم يبتل بالمانع في نفس ذاته حتى يخرج تخصيصا كخروج العالم بالفسق عن طبيعة اكرم العلماء، و انما خرج عنه للمزاحمة فقط، و هو مثل ساير افراد الطبيعة من كل جهة تخص ذات الفرد، فلا مانع- حينئذ- من ان يقصد بهذا الفرد الخارج الذي هذه صفته امتثال الامر المتعلق بالطبيعة، و الى هذا أشار بقوله: «فانه انما يوجب ذلك»:

أي ان خروج الفرد انما يوجب عدم امكان قصد الامتثال للطبيعة التي لا تسعه «إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك»: أي بما هي مامور بها لأجل كونه «تخصيصا لا مزاحمة فانه معها»: أي فانه مع المزاحمة «و ان كان لا تعمه»: أي لا تعم الفرد الخارج «الطبيعة المأمور بها» بما هي مامور بها «إلّا انه» أي إلّا ان عدم عمومها له «ليس لقصور» في ذات الفرد الخارج كما في الفرد الخارج تخصيصا «بل» عدم عمومها له «لعدم امكان تعلق الامر بما يعمه»: أي عدم امكان تعلق الامر بالطبيعة «بما يعمه»: أي بما يعم هذا الفرد «عقلا» لأجل ابتلاء الامر بالمهم بالامر بالأهم، فلا يعقل ان يعم الامر بالمهم لهذا الفرد المبتلى بترك الأهم الذي هو المحرم لعدم امكان اختلاف المتلازمين في الوجود في ناحية الحكم، فيسقط الامر بالمهم عن امكان عمومه و شموله لهذا الفرد لذلك، لا لاختلاف في ذات هذا الفرد المهم مع ساير افراد طبيعته المأمور بها لعدم ابتلائها بالأهم.

ص: 331

أخفى، كما لا يخفى (1) فتأمل (2).

______________________________

«و على كل» فحيث كان هذا الفرد مساويا لبقية الافراد من كل جهة «فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال و اطاعة الامر بها»: أي اطاعة الامر المتعلق بالطبيعة «بين هذا الفرد و ساير الافراد اصلا».

(1) الوجه في كونه بناء على تعلق الامر بالفرد اخفى، هو ان الفرق بين تعلق الامر بالطبيعة و تعلقها بالفرد: هو عدم دخول المشخصات للطبيعة الموجودة في المأمور به بناء على تعلقه بالطبيعة، و دخول المشخصات في المأمور به بناء على تعلقه بالفرد، و اذا كانت المشخصات داخلة في المأمور به فينحل الامر المتعلق بالفرد إلى أوامر بافراد متباينة، لوضوح ان مشخص كل فرد من افراد الطبيعة غير مشخصات الفرد الآخر، و اذا كان المتعلق امورا متباينة فقد يتوهم انه لا يعقل ان يقصد امتثال الامر المتعلق بشي ء مباين بايجاد شي ء يباينه، و هل هذا الا كقصد امتثال الامر بالصلاة باتيان الصوم.

و يدفع هذا التوهم ان من الواضح ان مباينة افراد طبيعة واحدة ليست كمباينة افراد طبيعتين، لأن افراد الطبيعة الواحدة و ان تباينت في كون مشخص كل حصة منها غير مشخص الحصة الاخرى منها إلّا ان الغرض الذي يترتب عليها واحد، و اذا كان الغرض واحدا و قصد الامتثال ليس إلّا قصد الاتيان بما فيه الغرض التام الذي دعا لهذا الامر فلا محيص من انه باتيانه يسقط الامر بخلاف افراد الطبيعتين فانهما لا يشتركان في غرض واحد.

(2) و لعله إشارة إلى ان قصد امتثال الامر ان كان معناه دعوة الامر و تحريكه إلى الفعل فلا يعقل ان يحرك الامر إلى غير ما تعلق به، و ان كان قصد الامتثال معناه قصد الاتيان بما فيه الغرض الداعي إلى الامر الذي بإتيانه يسقط الامر، فهو معنى قصد الملاك و التحريك بداعي الملاك لا بدعوة الامر، و ليس هنا شي ء ثالث يكون معنى لقصد الامتثال.

ص: 332

ثم لا يخفى أنه بناء على إمكان الترتب و صحته، لا بد من الالتزام بوقوعه، من دون انتظار دليل آخر عليه، و ذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلا امتناع الاجتماع في عرض واحد، لا كذلك، فلو قيل بلزوم الامر في صحة العبادة و لم يكن في الملاك كفاية، كانت العبادة مع ترك الاهم صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال، كما إذا لم تكن هناك مضادة (1).

______________________________

(1) توضيحه ان لدليل الصلاة اطلاقا يشمل اتيانها في كل جزء من أجزاء وقتها، و بعد ابتلائها بالازالة فلا يعقل الامر بهما: بان يكون كل منهما في عرض واحد، و بناء على عدم امكان الترتب لا بد من تقييد اطلاق دليل الصلاة بغير ما يشمل هذا الفرد من الصلاة المزاحم بالازالة مطلقا سواء أطاع الامر بالازالة أو عصاه.

و اما بناء على امكان الترتب فلا بد من تقييدها بمقدار أن لا يكون الامر بها في عرض الازالة و ذلك: بان يامر بها مترتبة على عصيان الامر بالازالة، فالأمر بالصلاة في حال عصيان الازالة متحقق، لأن تقييد الاطلاق باكثر من مقدار ما ترتفع به المزاحمة تقييد له من غير موجب للتقييد، و يكون رفع يد عن الحجة بغير الحجة.

فالقول بامكان الترتب يلازمه وجود الامر بالصلاة على ذلك النحو، فاذا قلنا بان الامر العبادي ينحصر امتثاله بقصد الامر و لا يتأتى بقصد المحبوبية و ملاكها فلا بد من قصد امتثال الامر الموجود بالصلاة في اتيانها عبادة، و على الترتب الأمر بها موجود لأن المزاحمة لم توجب سقوطه مطلقا سواء أطاع الامر بالازالة أو عصاه، بل انما اوجبت تقييده بعصيان الازالة، فيقصد امتثال الامر بالصلاة في حال عصيان الازالة و تصح الصلاة و تقع متقربا بها كما لو لم تكن مبتلاة بالازالة.

قوله: «لا كذلك»: أي لا على الترتب فإن الصلاة إذا زوحمت بالازالة فلا يصح الامر بها في عرض الازالة قطعا، و اما الأمر بها معلقة على عصيان الازالة فإن قلنا بصحة الترتب يصح الامر بها كذلك، و ان قلنا بعدم صحة الترتب فيسقط

ص: 333

.....

______________________________

الامر بها مطلقا سواء اطاع الامر بالازالة أو عصاه، و مع القول بالترتب لا بد من تقييده بالعصيان للازالة، و لا وجه لسقوطه مطلقا اذ الضرورات تقدر بقدرها، و الامر بالصلاة انما لا يعقل ان يكون في عرض الازالة بان يقول المولى: بعد عروض الامر بالازالة صل مطلقا ازلت ام لم تزل، اما بان يقول ان عصيت فصل فلا مانع منه على القول بامكان الترتب، و اذا امكن للمولى ان يقول كذلك فلا بد و ان يقول كذلك، لأن سقوط الامر بالصلاة مطلقا عند عروض الامر بالازالة تقييد باكثر مما يلزم و هو لا يصح، فالامكان ملازم للوقوع في المقام.

قوله: «و لم يكن في الملاك كفاية» هذه هي الثمرة بين القول بالترتب و عدمه، فانه مع القول بامكان وقوعها عبادة بقصد الملاك لا تكون الثمرة عملية بل تكون علمية، فإن من يقول بالترتب و يقول بصحة وقوعها عبادة بقصد الملاك يسعه إيقاعها عبادة بقصد امتثال امرها، و يسعه ايقاعها عبادة بقصد ملاكها ايضا، و من يقول بعدم معقولية الترتب و يقول بصحة قصد الملاك فانه و ان لم يسعه قصد امتثال الامر في المضيقين أو في الموسع و المضيق بناء على ما ذكرناه في وجه التامل، إلّا انه يسعه ايقاعها عبادة بقصد الملاك فلا تكون ثمرة عملية.

و اما إذا كان القائل بعدم الترتب لا يقول بصحة اتيانها بقصد الملاك فلا بد من التزامه ببطلانها لعدم امكان وقوعها عبادة، و اذا كان القائل بعدم وقوعها عبادة بقصد ملاكها و كان ممن يقول بالترتب فتقع الصلاة عبادة كما لو كانت غير مزاحمة بالازالة، أو كانت الازالة بنحو لا تنافي الصلاة: بان كانت لا تحتاج إلى تحريك ينافي الصلاة و لا استدبار القبلة، و الى هذا أشار بقوله: «فلو قيل بلزوم الامر في صحة العبادة» و ان قصد الملاك لا يفيد في وقوعها عبادية «و لم يكن في» قصد «الملاك كفاية كانت العبادة مع ترك الأهم» و عصيانه «صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال»: أي في حال عصيان الأهم و ترك اطاعته- بناء على امكان الترتب- و تكون

ص: 334

فصل عدم جواز الامر مع العلم بانتفاء الشرط

فصل لا يجوز أمر الآمر، مع علمه بانتفاء شرطه، خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا، ضرورة أنه لا يكاد يكون الشي ء مع عدم علته، كما هو المفروض هاهنا، فإن الشرط من أجزائها، و انحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى (1)، و كون الجواز في العنوان بمعنى الامكان الذاتي بعيد عن محل الخلاف بين الاعلام. نعم لو كان المراد من لفظ الامر، الامر ببعض مراتبه، و من الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الآخر، بأن يكون النزاع في أن أمر الامر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه، بمرتبة فعليته.

______________________________

الصلاة صحيحة في حال عصيان الازالة «كما إذا لم تكن هناك» بين الصلاة و الازالة «مضادة اصلا».

(1) لا يخفى ان ذكر علم الآمر في العنوان ينبغي ان يكون مستدركا، اذ الشرط انما هو للامر لا لعلم الآمر، فسواء علم الآمر بالانتفاء أو لم يعلم بالانتفاء فالشرط شرط للامر. فينبغي ان يكون العنوان لا يجوز الأمر مع انتفاء شرطه.

ظاهر العنوان ان المراد من الامر مرتبته الفعلية، و ان الضمير في شرطه يرجع إلى الامر بهذه المرتبة، و على هذا فكونه شيئا غير جائز من اوضح الواضحات، اذ بعد كون الشرط شرطا للامر بمرتبته الفعلية ففعليته على الفرض منوطة بالشرط، و الآمر يعلم بانتفاء شرط فعلية امره، و مع هذا فكون امره فعليا لازمه اما الخلف و هو كون ما فرض شرطا للفعلية ليس بشرط لها، أو وجود المعلول مع عدم تمامية علته، و حيث ان فرض الخلف فرض الخروج عن موضوع العنوان فلذا لم يشر اليه، و أشار إلى المحذور الثاني فقال: «ضرورة انه لا يكاد يكون الشي ء مع عدم علته».

ص: 335

و بعبارة أخرى كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية لعدم شرطه، لكان جائزا، و في وقوعه في الشرعيات و العرفيات غنى و كفاية، و لا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مئونة برهان.

و قد عرفت سابقا أن داعي إنشاء الطلب، لا ينحصر بالبعث و التحريك جدا حقيقة، بل قد يكون صوريا امتحانا، و ربما يكون غير ذلك (1). و منع كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدّا واقعا، و إن كان

______________________________

(1) لا يخفى انه حيث كان وجود المعلول من دون علته التامة واضح الفساد، فحملا لكلام القائلين بالجواز قد قيل: ان مراد القائلين بالجواز هو الامكان الذاتي دون الامكان الوقوعي.

و توضيحه: ان ظاهر قولهم: هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه هو انه هل يمكن ان يقع أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه و هذا واضح الفساد، اذ لازم الجواز انه يمكن ان يقع المعلول من دون تمامية علته، و الحال ان الممكن الجائي له الوجود من ناحية وجود علته لا يعقل وجوده قبل وجود علته التامة، فلذا في مقام التأويل أولوا الجواز في العنوان بارادة الامكان الذاتي و هو سلب الضرورة عن الطرفين، و من المعلوم ان الممكن مسلوب الضرورة عن الطرفين لحيثية امكانه المنتزعة عن مقام ذات الممكن بما هو ممكن، سواء تمت علة وجوده أو لم تتم.

فيكون المتحصل من هذا التأويل ان القائل بالجواز يقول ان الامر مع عدم علة وقوعه هو باق على إمكانه الذاتي، و هذا أيضا من الواضحات التي لا تقبل الإنكار، فإن الامكان الذاتي لا يفارق الممكن سواء وجد أو لم يوجد، اذ وجوده عند تمامية علته و ان كان واجبا و ضروريا، إلّا ان هذه الضرورة آتية له من ناحية الغير و هي علته لا من ناحية ذاته، فهو في حد ذاته و ان وجب وجوده الّا انه لا اقتضاء له من حيث ذاته لا لوجوده و لا لعدمه.

ص: 336

.....

______________________________

و حينئذ يكون الإنكار عليهم في غير محلّه فهل يسوغ لأحد من ساير الطلبة ان ينكر على القائلين: بان الممكن ممكن سواء وقع أو لم يقع، فكيف يسوغ الانكار عليهم من اعلام العلماء؟

فارجاع الجواز في كلام القائلين بالجواز إلى الامكان الذاتي في غير محله، و لذا قال: «و كون الجواز في العنوان» بمعنى الامكان الذاتي «بعيد عن محل الخلاف بين الاعلام».

و قد ذكر هو (قدس سره) تاويلا لكلام القائلين بالجواز غير هذا التاويل أشار اليه بقوله: «لو كان المراد من لفظ الامر الخ».

و حاصل هذا التاويل: ان يراد من امر الآمر هو الأمر بمرتبته الانشائية، و من الضمير في شرطه الراجع إلى الامر هو الامر بمرتبته الفعلية، فيكون المتحصل من هذا انه هل يجوز أمر الآمر بمرتبته الانشائية مع علمه بانتفاء شرط فعليته؟

و ينبغي ان لا يخفى انه خلاف الظاهر، لأن الظاهر من الضمير الراجع إلى شي ء ان يكون راجعا اليه بما له من معناه الاول، فارجاع الضمير اليه بان يراد منه معنى آخر غير معناه الاول بنحو الاستخدام خلاف الظاهر، و لذا كان تأويلا.

و على كل فيكون النزاع في ان الامر حيث انه بداعي جعل الداعي فمع علم الآمر بان هذا الامر لا يبلغ درجة الفعلية لانتفاء شرط فعليته هل يجوز ان ينشئه؟

فالقائل بعدم جوازه يقول انه حيث ان مرتبة الانشاء انما هي لأجل ان يبلغ درجة الفعلية، و حيث لا يبلغها لانتفاء شرطها يكون انشاؤه لغوا. و القائل بالجواز يقول بعدم انحصار الغاية في انشائه في كونه لجعل الداعي بل يكون له غايات اخرى، فلذا يجوز ان ينشئه و ان علم انه لا يبلغ درجة الفعلية.

و المصنف يرى جواز انشائه و ان علم انه لا يبلغ درجة الفعلية، و استدل على جوازه بوقوعه و هو اتم دليل عليه، فلذا قال: «و في وقوعه في الشرعيات و العرفيات

ص: 337

.....

______________________________

غنى و كفاية» فإن الأوامر الامتحانية واقعة في الشرع كأمر ابراهيم بذبح اسماعيل، و وقوعها في العرف واقع بالوجدان.

و لا اشكال انه في الأوامر الامتحانية انشاء للطلب و هو انشاء لا يتخطى مرتبة الانشاء، لأن الغرض منها لا يتعلق بالفعل المتعلق للامر بل في كون المكلف في صدد الانقياد و الاطاعة، فاذا خطر للمكلف الاطاعة حصل الغرض من الامر الامتحاني.

و بعبارة اخرى: ان الانشاء ان كان بداعي البعث و التحريك إلى ايجاد الفعل خارجا فهو الذي يبلغ درجة الفعلية و هو الذي يكون طلبه بداعي الجد، و الطلب الذي لا يبلغ مرتبة البعث و التحريك لإيجاد الفعل خارجا فهو الطلب الصورى الباقي في حد انشائيته.

و مما ذكرنا يتضح: ان العبد إذا كان لا ينكشف للمولى كونه داخلا تحت رسم العبودية الّا بان يفعل المأمور به، كما في المولى العرفي بالنسبة إلى عبده حيث انه لا يعلم ما في نفس عبده، فربما لا ينكشف ذلك له الّا بأن يفعل العبد ما أمر به، فأمر مثل هذا بالفعل ليس امرا امتحانيا بل امر حقيقي بداعي الجد. غاية الأمر ان الغرض المتعلق بايجاد الفعل خارجا هو ان يكون كاشفا عن كون العبد داخلا فيما ينبغي له من رسم العبودية، و لا يلزم ان يكون الغرض المترتب على الفعل الخارجي امرا خارجيا أيضا كأمر المولى عبده بان يشرب المائع الخاص لأجل نفعه لمزاج العبد.

و على كل فانشاء الطلب لا يتوقف و لا ينحصر بان يكون الداعي لإنشائه هو البعث الجدي إلى ايجاد الفعل كما عرفت- فيما تقدم- من مباحث الامر ان الانشاء قد يكون بداعي الجد إلى ايجاد متعلق الامر، و قد يكون بداعي الامتحان، و قد يكون بداعي الترجي كانشاء العاشق طلب زيارة محبوبه مترجيا منه ذلك، و لذا قال (قدس سره): «قد عرفت سابقا ان داعي انشاء الطلب لا ينحصر بالبعث» إلى آخر كلامه، و قوله: «و غير ذلك» هو غير داعي الامتحان من الترجي و التمني و غيرها من الدواعي التي مر ذكرها في مبحث الامر.

ص: 338

في محله، إلا أن إطلاق الامر عليه، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث توسعا، مما لا بأس به أصلا، كما لا يخفى.

و قد ظهر بذلك حال ما ذكره الاعلام في المقام من النقض و الابرام، و ربما يقع به التصالح بين الجانبين و يرتفع النزاع من البين (1)، فتأمل جيدا (2).

______________________________

(1) حاصله: انه ربما يقال ان الامر موضوع لانشاء الطلب الذي يكون بداعي الجد فلا يكون الانشاء بغير هذا الداعي امرا.

فانه يقال: انه و ان لم يكن امرا حقيقيا إذا كان مقيدا بكونه بداعي الجد الّا انه يكون امرا توسعا و مجازا، و يصح اطلاق الامر عليه مع قيام قرينة على ذلك.

(2) ربما يكون إشارة إلى انه لا يقع التصالح بين القائلين بالجواز و القائلين بعدم الجواز، بحمل القائلين بالجواز على ان يريدوا من الامر مرتبته الانشائية، و من الضمير الراجع اليه في شرطه مرتبته الفعلية و لا يلزم من هذا القول بامكان ان يوجد المعلول من دون علته التامة. و القائلون بعدم الجواز ارادوا من الامر مرتبته الفعلية، و من الضمير الراجع اليه في شرطه أيضا مرتبته الفعلية، و اما إذا كان المراد من الأمر مرتبته الانشائية و من ضمير شرطه مرتبته الفعلية فانهم يقولون بجوازه و لا ينكرونه لوقوعه في الشرعيات و العرفيات، و لأن داعي انشاء الامر لا ينحصر في البعث الجدي و لا يلزم ان يكون دائما بداعي جعل الداعي و البعث و التحريك.

الّا ان هذا التصالح- أيضا- بعيد عن ظواهر كلماتهم لانه:

اولا: ليس من المألوف استعمال الاستخدام في عناوين المسائل التي هي محل النزاع.

ثانيا: انهم رتبوا ثمرة على هذا الخلاف، و ان ثمرة القول بالجواز ترتب الكفارة على من افطر عمدا في شهر رمضان ثم حدث في اثناء اليوم حيض أو سفر قبل الظهر. و القائلون بعدم الجواز اما ان يلتزموا بعدم الكفارة أو انحلال الامر بصوم

ص: 339

فصل تعلق الاوامر و النواهي بالطبائع

فصل الحق أن الاوامر و النواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد، و لا يخفى أن المراد أن متعلق الطلب في الاوامر هو صرف الايجاد، كما أن متعلقه في النواهي هو محض الترك، و متعلقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود و المقيدة بقيود، تكون بها موافقة للغرض و المقصود، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنا، لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الاحكام، بل في المحصورة، على ما حقق في غير المقام. و في مراجعة الوجدان للانسان غنى و كفاية عن إقامة البرهان على ذلك، حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلا نفس الطبائع، و لا نظر له إلا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية، و عوارضها العينية، و إن نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام المطلوب، و إن كان ذاك لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية.

فانقدح بذلك أن المراد بتعلق الاوامر بالطبائع دون الافراد، انها بوجودها السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود، متعلقة للطلب، لا أنها بما هي هي كانت متعلقة له، كما ربما يتوهم، فإنها كذلك ليست إلا هي، نعم هي كذلك تكون متعلقة للامر، فإنه طلب الوجود (1)،

______________________________

اليوم إلى اوامر بعدد قطعات النهار، و هذه الثمرة ظاهرة في كون مراد المجوزين و المانعين هو الأمر بمرتبته الفعلية و من ضمير شرطه هو أيضا مرتبته الفعلية؟

(1) ظاهر المصنف و غيره ان الخلاف في ان متعلق الطلب هل هو وجود الطبيعة أو وجود الافراد.

ص: 340

.....

______________________________

و الفرق بينهما هو انه بناء على ان المتعلق للطلب هو وجود الطبيعة تكون المشخصات خارجة عن المطلوب و من لوازمه، و بناء على كون متعلق الطلب هو وجود الافراد تكون المشخصات داخلة في المطلوب، فإن الفرد ليس هو إلّا الطبيعة الموجودة بمشخصاتها.

و اختار (قدس سره) ان متعلق الطلب هو وجود الطبيعة دون الافراد في الامر، و متعلق الطلب في النهي هو ترك الطبيعة دون ترك الفرد، و لذا قال: «ان متعلق الطلب في الاوامر هو صرف الايجاد كما ان متعلقه في النواهي هو محض الترك و متعلقهما»: أي و متعلق الايجاد و الترك «هو نفس الطبيعة».

و استدل عليه: بان الوجدان شاهد بان متعلق الغرض هو نفس الطبيعة وجودا أو تركا، و اذا كان متعلق الغرض هو الطبيعة و الامر و النهي انما يتعلقان بما هو المتحمل للغرض دون ما هو خارج عنه، فانه لا يعقل ان يكون الخارج عنه متعلق الغرض داخلا في متعلق الامر و النهي بعد ان كان العلة فيهما هو الغرض، فيكون دخول ما هو خارج عن الغرض في متعلق الامر من قبيل المعلول من غير علة.

و من الواضح ان المشخصات لوجود الطبيعة خارجة عما به ثبوت الطبيعة و تحققها فانه بوجودها و المشخصات خارجة عنه ملازمة له، فإن الغرض المتعلق باكرام زيد يتحقق بوجود اكرامه، و لا دخل لكون الاكرام في مكان خاص أو زمان خاص في الغرض المترتب على اكرامه، بحيث لو امكن ان يوجد الاكرام من دون مكان أو زمان لما كان مضرا في تحقق الامتثال، لحصول ما فيه الغرض الداعي إلى الامر، و كذلك لو أمكن ان يحصل ترك الطبيعة من دون زمان- مثلا- لما كان مضرا في تحقق الامتثال لما تعلق به النهي من عدم تحقق المفسدة الداعية لطلب تركه.

و عبارة المتن واضحة، و ان الاستدلال مركب من مقدمتين:

الاولى: وجدانية و هي ان ما فيه الغرض هو ايجاد الطبيعة أو تركها، و ان جميع الخصوصيات الخارجة عن وجود الطبيعة- مثلا- كمشخصاتها اللازمة لهويتها

ص: 341

.....

______________________________

العينية خارجة عما فيه الغرض، و ان الوجدان هو الشاهد على ذلك، و جميع ما ذكر في المتن لإثبات هذه المقدمة.

و اما المقدمة الثانية البرهانية: و هي انه لا يعقل ان يكون ما هو خارج عما فيه الغرض داخلا في متعلق الطلب، فلم يشر اليها لكونها امرا مفروغا عنه.

و قد تضمنت عبارة المتن جملا لا بأس بالإشارة إلى تفسيرها:

- منها: قوله: «كما هو الحال في القضية الطبيعية الخ». توضيحه ان القضية الطبيعية في اصطلاح المنطقيين هي القضية التي كان الموضوع فيها هو الطبيعة الكلّية بما هي كلّية، كقولهم: الحيوان جنس، و الانسان نوع، و لذلك قيدها بقوله في غير الاحكام، فإن الكلي بما هو كلي لا يعقل ان يكون متعلقا لحكم من الاحكام الشرعية، اذ لا يعقل ان يكون المطلوب في قوله صلّ هو طبيعة الصلاة الكلية بما هي كلية، إذ الطبيعة بما هي كلية لا موطن لها الّا الذهن و لا وجود للكلي بما هو كلي في الخارج، و متعلق الطلب هو ايجاد الطبيعة خارجا، فلا يعقل ان يكون المطلوب هو ايجاد الكلي بما هو كلي في الخارج.

و قد عرفت مما ذكرنا: ان متعلق المحمول في القضية الطبيعية المنطقية هو الطبيعة و لا يعقل ان يكون هو الفرد، اذ عدم معقولية كون الفرد نوعا أو جنسا من اوضح الواضحات، و هذا هو السبب في تشبيه متعلق الطلب بالقضية الطبيعية.

و حاصله: ان متعلق الطلب هو الطبيعة دون الفرد كما ان الموضوع في القضية الطبيعية هو الطبيعة دون الفرد.

- منها: قوله (قدس سره): «بل في المحصورة الخ». لا يخفى ان قولنا الانسان نوع في القضية الطبيعية تمام المنظور فيها هو طبيعة الانسان و هي تمام المنظور اليه، اذ لا يعقل ان يكون المنظور فيها هو الطبيعة بما هي مرآة للأفراد، فإن لازمه ان يكون كل فرد من افراد الانسان نوعا و هو باطل ضرورة. و القضية المحصورة هي ما احيطت بحاصر يحصر افرادها كقولهم: كل انسان ناطق، و حيث كان الغرض منها

ص: 342

.....

______________________________

حصر الافراد التي يصدق عليها المحمول و هو الناطق، فلا بد و ان يكون المنظور فيها هي الطبيعة لا بما هي مرآة لافرادها فليست هي تمام المنظور اليه بل هي ما فيه ينظر، و لذا قالوا: ان الطبيعة في القضية الطبيعية ما له ينظر و في المحصورة ما فيه ينظر، الّا انه في كل منهما الطبيعة هي المنظورة دون الفرد، غايته انه في الطبيعة هي تمام ما ينظر و في المحصورة الطبيعة ما فيه ينظر، فالمنظور في كل منهما هو الطبيعة، و لذا قال:

«بل في المحصورة» فانه الطبيعة فيها أيضا هي المنظورة الّا انه لأن تكون كمرآة لغيرها، و الافراد انما يصح ان يقال منظور اليها باعتبار أن ما هو كالمرآة لها هو المنظور، و اما نفس الافراد باعيانها و هوياتها الخاصة فلا يعقل ان تكون حاضرة في ذهن الناظر، فالمنظور اولا و بالذات في ذهن الناظر هو الطبيعة، و حيث لم تكن تمام المنظور اليه بل لغرض ان تكون كمرآة لأفرادها فنسب النظر إلى افرادها بالعرض.

و على كل فالطبيعة في الطبيعية و المحصورة هي المنظورة دون الفرد.

- منها قوله (قدس سره): «و ان نفس وجودها الخ». توضيحه ان الطبيعة بما هي هي الطبيعي، و الطبيعة المضافة إلى فردها بنحو ان تكون الاضافة داخلة و المضاف خارج هو الحصة، و المضاف و المضاف اليه معا هو الفرد، و المتعلق للطلب هو الوجود المضاف إلى الطبيعة فقط دون الوجود المضاف الى حصصها و دون الوجود المضاف إلى افرادها، لأن المتحمّل للغرض هو الوجود المضاف إلى افرادها، لأن المتحمل للغرض هو الوجود المضاف إلى الطبيعة فقط دون الوجود المضاف إلى الطبيعة المضافة، فإن اضافتها كالمضاف اليه خارجان عما فيه الغرض، و هذا الوجود المطلق المضاف إلى الطبيعة حيث انه يسع و يصدق على كل وجود خارجي للطبيعة يسمى بالوجود السعيّ، فالمطلوب هو وجود الطبيعة فقط و ان كان هذا المطلوب إذا تحقق خارجا لا ينفك عن الاضافة و لا ينفك عن المضاف اليه، لأن وجود الطبيعة اذا تحقق تتحقق معه المشخصات فلا بد ان تحقق اضافته إلى المشخصات أيضا. و لفظ الخصوصية في المتن تشمل الاضافة و المضاف اليه الذي أشار إلى كونها

ص: 343

فافهم (1).

دفع وهم: لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب، إنما يكون بمعنى أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد، و جعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة، و إفاضته، لا أنه يريد ما هو صادر و ثابت في

______________________________

خارجة عما هو متعلق الطلب بقوله: «و ان كان ذاك الوجود لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية».

- و منها: قوله: «فانقدح بذلك الخ» يريد انه لا ينبغي ان يتوهم من قولهم:

ان الطبيعة هي متعلق الطلب في قبال الفرد أن غرضهم ان الطبيعة بما هي متعلقة للطلب، بل غرضهم ان متعلق الطلب هو الوجود السعي للطبيعة في قبال وجودها المتخصص بخصوصية الفردية، اذ لا يعقل ان يتعلق الطلب بالطبيعة من حيث هي، فإن الماهيات من حيث هي ليست إلّا هي لا مطلوبة و لا غير مطلوبة، و انما المتعلق للطلب وجودها المناسب لها و هو وجودها السعي من دون تخصصه بخصوصية.

و وجه الانقداح مما ذكرنا: هو ان الطلب مسبب عن الغرض و الغرض انما يقوم بوجودها لا بما هي. نعم حيث كان الامر هو طلب الوجود و الوجود يتعلق بالطبيعة من حيث هي صح ان يقال ان الامر متعلق بالطبيعة من حيث هي هي، و قد اشار إلى هذا بقوله: «نعم هي كذلك» أي نعم ان الطبيعة بما هي تكون متعلقة للامر لا للطلب، لأن الطلب متعلقه وجود الطبيعة دون الطبيعة بما هي.

(1) لعله إشارة إلى انه لا ينبغي ان يتوهم من التعليل لعدم تعلق الطلب بالطبيعة ان الطبيعة من حيث هي لا تكون متعلقة للطلب، لأنها ليست إلّا هي لا مطلوبة و لا لا مطلوبة هو كون الطبيعة من حيث هي لا يعقل ان تكون متعلقة لشي ء اصلا، فإن كون الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي لا يمنع من ان يتعلق بها شي ء، فإن الوجود انما يتعلق و يعرض للطبيعة من حيث هي، و لكن حيث انه مسبب عن غرض يقوم بوجودها فلا يعقل ان يتعلق بها من حيث هي و انما يتعلق بوجودها.

ص: 344

الخارج كي يلزم طلب الحاصل، كما توهم (1)، و لا جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة، و قد جعل وجودها غاية لطلبها و قد عرفت أن الطبيعة

______________________________

(1) حاصل الوهم ان متعلق الطلب لا يعقل ان يكون وجود الطبيعة و لا بد و ان يكون هو الطبيعة، لانه ليس للماهية الا وجودان: وجود ذهني، و وجود عيني خارجي و ليس هو وجودها الذهني لأنه:

اولا: ان الاغراض انما يتحملها الماهية الموجودة في الخارج دون الموجودة في الذهن.

و ثانيا: انه إذا كان المتعلق هو الوجود الذهني فهو الوجود الذهني الذي تحقق في ذهن الآمر و هذا غير مقدور للمكلف تحصيله.

و ثالثا: مخالفته للوجدان فإن من طلب طبيعة من عبده لا يريد منه وجودها الذهني، و لا يعقل- أيضا- ان يكون المتعلق للطلب هو وجودها العيني الخارجي، لأن الوجود الخارجي بنفسه لا يعقل ان يكون متعلقا للطلب لأن الطلب من موجودات عالم النفس دون الخارج، فلا بد ان يكون متعلقه مما يحصل في افقه و عالمه و إلّا انقلب الذهن خارجا أو الخارج ذهنا و هو واضح الفساد.

و اما كون متعلق الطلب هو وجود الطبيعة الذهني الفاني في الوجود الخارجي، بنحو فناء العنوان في معنونه و فناء الصورة في ذي الصورة فهو- أيضا- غير معقول، إذ المطابق للصورة لا يعقل ان يكون معدوما في الخارج، و اذا كان موجودا يلزم طلب الحاصل، اذ لا معنى لتعلق الطلب بالموجود، فإن الطلب انما هو ليكون سببا للوجود، فلا يعقل ان يتعلق بالموجود و لذلك كان الطلب الحاصل من المحالات الواضحة. هذا أولا.

و ثانيا: ان الطلب إذا كان سببا للوجود و الموجود لا يعقل ان يتحمل وجودا آخر، فإن الموجود لا يكون موجودا فلا يتعلق الطلب بايجاد الموجود.

ص: 345

.....

______________________________

و حاصل ما ذكرنا: انه إذا كان لا يصح ان يتعلق الطلب بوجود الطبيعي الذهني و لا وجودها الخارجي فلا بد ان يكون متعلق الطلب هو الطبيعة من حيث هي.

و الجواب: و هو الدفع الذي أشار اليه بقوله: «لا يخفى ان كون وجود الطبيعة أو الفرد» إلى آخره.

و توضيحه: ان الطبيعة من حيث هي لا يعقل ان تكون متعلقة للطلب لما عرفت من ان المتحمل للغرض هو وجودها لا هي من حيث هي، و لا بد ان يكون ما فيه الغرض هو المتعلق للطلب كما عرفت. و اما الوجود الذهني للطبيعة فلا يعقل ان يكون هو المتعلق للطلب لما تقدم من المحاذير المذكورة.

فتعين ان يكون متعلق الطلب هو وجود الطبيعة خارجا، و لا يلزم منه طلب الحاصل، بتوضيح كيفية تعلق الطلب بوجود الطبيعة خارجا هو ان الشوق من الصفات النفسية ذات المتعلق، فالشوق لا بد له من تعلق في افق الشوق، و المعدوم المطلق من كل جهة لا تحقق له اصلا فلا يكون متعلقا للشوق، و الموجود المتحقق في الخارج لا يشتاق إلى وجوده لفرض تحقق وجوده، فلا بد ان يكون متعلق الشوق وجود الطبيعة خارجا بنحو الفرض و التقدير، ليخرج بواسطة تعلق الشوق به من الفرض و التقدير إلى الثبوت و التحقق، فهو معدوم خارجا و موجود فرضا و تقديرا و هو معدوم من جهة و موجود من جهة.

فاتضح: ان متعلق الطلب وجود الطبيعة خارجا بنحو الفرض و التقدير، و لا يلزم من هذا طلب الحاصل، و لا فرق في هذا بين القول بتعلق الطلب بوجود الطبيعة أو بوجود الفرد و الى هذا أشار بقوله: «ان كون وجود الطبيعة أو الفرد» إلى آخر كلامه.

قوله (قدس سره): «و جعله بسيطا». قد مر فيما تقدم الفرق بين الجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة و هو جعل الشي ء: أي كونه موجودا فقط، و لجعل التأليفي الذي مفاد كان الناقصة جعل الشي ء شيئا كجعل الجسم أبيض أو الماء باردا و امثال

ص: 346

بما هي هي ليست إلا هي، لا يعقل أن يتعلق بها الطلب لتوجد أو تترك، و أنه لا بد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها فيطلبه و يبعث إليه، كي يكون و يصدر منه (1)، هذا بناء على أصالة الوجود.

______________________________

ذلك، و الطلب كما يمكن ان يتعلق بجعل الشي ء بنحو كان التامة كذلك يمكن ان يتعلق بجعل الشي ء شيئا.

و لكنه حيث كان الغرض بيان كيفية تعلق الطلب بصرف وجود الطبيعة أو وجود الفرد، و ليس في مقام بيان كيفية تعلق الطلب و انحائه- لذلك خص الجعل البسيط بالذكر، فقال: «ان الطالب» لشي ء «يريد صدور الوجود من العبد» و يريد منه «جعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة و افاضته»: أي و يريد من عبده افاضة الوجود على الطبيعة خارجا «لا انه يريد» منه «ما هو صادر».

(1) لا يخفى ان هذا قول ثالث بين كون متعلق الطلب الطبيعة بما هي، و بين كون متعلقه وجود الطبيعة.

و سبب القول به ان القائل يرى ان ما به الغرض هو وجود الطبيعة، و حيث لم يستطع دفع شبهة طلب الحاصل فقال ان متعلق الطلب هو الطبيعة من حيث هي، و يكون وجودها غاية لتعلق الطلب بها. و قد عرفت انه لا وقع للشبهة و ان وجود الطبيعة بنفسه هو المتحمل للغرض، و هو متعلق الطلب من دون لزوم محذور، فلا داعي لجعله غاية لمتعلق الطلب بعد ان كان بنفسه يمكن ان يكون متعلقا له. هذا أولا.

و ثانيا: ان الطبيعة من حيث هي قد تقدم انه لا يعقل ان تكون متعلقة للطلب، لانها من حيث هي ليست إلّا هي لا مطلوبة و لا غير مطلوبة، فلا معنى لتعلق الطلب بها و جعل وجودها غاية لطلبها، بل لا بد ان يكون متعلق الطلب هو وجود الطبيعة، فلا بد في مقام تعلق الطلب ان يلاحظ الطبيعة و يلاحظ وجودها و عدمها، و حيث كان متعلق غرضه وجودها فيطلبها كي يخرجها من الفرض إلى التحقق.

ص: 347

و أما بناء على أصالة الماهية، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا، بل بما هي بنفسها في الخارج، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات و الاعيان الثابتات، لا بوجودها كما كان الامر بالعكس على أصالة الوجود. و كيف كان فيلحظ الامر ما هو المقصود من الماهية الخارجية أو الوجود، فيطلبه و يبعث نحوه ليصدر منه و يكون ما لم يكن، فافهم و تأمل جيدا (1).

______________________________

(1) اختلف الحكماء في هذه المسألة:

فذهب فريق إلى اصالة الوجود و انه هو المفاض من الجاعل و هو منبع الآثار، و الماهية امر انتزاعي و هي حدوده.

و ذهب الفريق الآخر إلى ان الماهية هي الاصيلة و هي المفاضة من الجاعل تكتسب حيثية من الجاعل يصح ان ينتزع منها انها موجودة، و الوجود امر منتزع عنها إذا اكتسبت تلك الحيثية. و لكن الفريقان اتفقا على ان الماهية من حيث هي هي بحيث لم تكتسب حيثية من الجاعل لا موجودة و لا معدومة.

فإن قلنا ان الاصيل هو الوجود كان الطلب متعلقا بوجودها، و ان قلنا ان الماهية هي الاصيلة كان الطلب متعلقا بحيثيتها التي تكتسبها من الجاعل. فالماهية من حيث هي ليست متعلقة للطلب على أي حال، لأن الداعي إلى طلبها ما هو منبع الآثار و هو المتحمل للغرض الذي من اجله كانت متعلقة للطلب، و منبع الآثار إما وجودها أو حيثيتها التي تكتسب من الجاعل. و على هذا فالمتعلق هي الماهية بحيث تكون موجودة إما اصالة أو انتزاعا، اما من حيث هي فلا يتعلق بها الطلب، و قد أشار إلى ما ذكرنا بقوله: «هذا بناء على اصالة الوجود»: أي بناء على اصالة الوجود فمتعلق الطلب ايجاد الماهية و وجودها. و الفرق بين الوجود و الإيجاد اعتباري، فانه حيث ينسب إلى الماهية فهو وجود الماهية، و حيث ينسب إلى موجدها فهو ايجاد الماهية.

ص: 348

.....

______________________________

«و اما بناء على اصالة الماهية فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة»: أي الماهية «بما هي أيضا» لما عرفت من اتفاقهم على كون الماهية: أي الطبيعة من حيث هي لا موجودة و لا معدومة و لا مطلوبة و لا لا مطلوبة «بل» متعلق الطلب بناء على اصالة الماهية الطبيعة «بما هي بنفسها في الخارج» فإن الماهية لا تكون بنفسها في الخارج متحققة إلّا اذا كانت مكتسبة حيثية من الجاعل «فيطلبها كذلك»: أي فيطلبها بما هي بنفسها في الخارج أي بما هي مكتسبة حيثية من الجاعل لانها هي التي تكون متحملة للغرض، و لا تكون كذلك الا حيث تكون مكتسبة حيثية من الجاعل فيلحظها في مقام تعلق الطلب بها في مرحلة الفرض و التقدير بما هي مكتسبة تلك الحيثية فيطلبها لأن يخرجها من الفرض و التقدير إلى التحقق و الثبوت، و لذا قال:

«لكي يجعلها بنفسها» بواسطة الطلب «من الخارجيات و الأعيان الثابتات» و الماهية انما تكون من الخارجيات و من الأعيان الثابتة في الخارج حيث لا تكون هي الماهية من حيث هي التي هي لا موجودة و لا معدومة، بل حيث تكون الماهية مكتسبة حيثية من الجاعل تكون بتلك الحيثية خارجية و بعينها ثابتة في الخارج، لأن منبع الأثر بناء على اصالة الماهية هي الماهية بحيث تكون كذلك «لا بوجودها» إذ الوجود بناء على اصالة الماهية امر انتزاعي، و منبع الاثر هو منشأ انتزاعه و هي الماهية التي تكون خارجية و ثابتة بعينها في الخارج، و بناء على اصالة الوجود يكون الأمر بالعكس.

فالمطلوب يكون وجود الماهية لانه منبع الأثر، و الماهية تكون امرا انتزاعيا محددا للوجود و ما به الاثر هو متعلق الطلب، و لذا قال: «كما كان الامر بالعكس على اصالة الوجود و كيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود» في مقام طلبه و هو المتحمل للاثر و هو احد الامرين «من الماهية الخارجية» بناء على اصالة الماهية «أو الوجود» بناء على اصالة الوجود «فيطلبه و يبعث نحوه» المكلف ليكون طلبه داعيا «ليصدر منه و يكون ما لم يكن».

ص: 349

فصل اذا نسخ الوجوب فلا دلالة على بقاء الجواز

فصل إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ و لا المنسوخ، على بقاء الجواز بالمعنى الاعم، و لا بالمعنى الاخص، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الاحكام، ضرورة أن ثبوت كل واحد من الاحكام الاربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن، و لا دلالة لواحد من دليلي الناسخ و المنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا بد للتعيين من دليل آخر، و لا مجال لاستصحاب الجواز، إلا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، و هو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الآخر، و قد حققنا في محله، أنه لا يجري الاستصحاب فيه (1)، ما لم

______________________________

(1) إذا نسخ الوجوب فهل هناك دليل على ثبوت حكم من الاحكام للمنسوخ ام لا؟

و توضيحه يحتاج إلى بيان امور:

الأول: ان الدليل ينحصر في ثلاثة اشياء: دليل الناسخ، و دليل المنسوخ، و القواعد العامة، و الذي هو محل الكلام في دلالته هو دليل الناسخ و دليل المنسوخ و خصوص الاستصحاب من القواعد، لأن هذه الثلاثة إذا وجد أحدها فهي مقدمة على بقية القواعد العامة، و اذ لم توجد فلا اشكال في جريان البراءة عن التكليف بالترك فيكون مؤداها- عملا- مساوقا للاباحة.

و الثاني: ان في المسألة اقوالا:

الأول: بقاء الجواز بالمعنى الاعم الذي هو كالجنس للوجوب و الاستحباب و الاباحة.

الثاني: الجواز بالمعنى الأخص الذي هو الاباحة.

الثالث: الاستحباب.

ص: 350

.....

______________________________

الامر الثالث: ان مساق أدلتهم التي ذكرت في المطولات مشعر بان كلامهم و خلافهم مبني على كون الوجوب امرا مركبا: من الجواز، مع المنع من الترك.

و اما بناء على كون الوجوب امرا بسيطا فلا ينبغي توهم بقاء الجواز لا بالمعنى الأعم، اذ لا تركيب حتى يقال ان النسخ انما تعلق بالفصل و هو المنع من الترك، و لا يلزم من ارتفاع الفصل ارتفاع الجنس فيثبت الجواز بالمعنى الاعم.

و لا بالمعنى الاخص بان يقال: ان الجواز بالمعنى الاخص فصله امر عدمي و هو عدم المنع من الترك، اذ الاباحة ليست هي إلّا جواز الفعل مع عدم المنع عن تركه، فاذا ارتفع المنع من الترك بواسطة نسخ الوجوب يثبت فصل الاباحة، فإن هذا الكلام كله انما يتأتى بناء على التركيب دون البساطة، فإن الوجوب على البساطة إما ان يكون هو الارادة و الارادة من الاعراض النفسية و العرض بسيط، أو هو البعث و التحريك اعتبارا و هو اشد بساطة من العرض.

و على كل فإن ما يتوهم الاستدلال به- بناء على التركيب- هو إما دليل الناسخ أو دليل المنسوخ، و لا دلالة لهما على شي ء مما ادعي.

اما دليل الناسخ فلانه انما دل على ارتفاع هذا المركب: من الجواز و المنع من الترك، و لم يدل على كيفية الرفع فانه كما يجوز ان يكون المركب مرتفعا لارتفاع بعضه و هو المنع من الترك فيكون الجواز باقيا- كما يدعيه القائل ببقاء الجواز- كذلك يمكن ان يكون المركب مرتفعا بارتفاع كلا جزئية، و دليل الناسخ قد دل على الرفع و لا دلالة فيه على ان هذا الرفع بأي نحو. هذا أولا.

و ثانيا: ان المدعي للدلالة على الجواز إما يريد الجواز بالمعنى الأعم أو الجواز بالمعنى الأخص، و الجواز بالمعنى الأعم جنس و الجنس بما هو جنس كلي لا ثبوت له في الخارج، انما الثابت في الخارج هو حصص الكلي و كل حصة منه غير حصته الاخرى، فالحصة منه الموجود في ضمن الوجوب غير الحصة منه الموجودة في ضمن غيره، و الجواز بمعناه الجنسي الكلي ليس حكما من الاحكام الخمسة.

ص: 351

.....

______________________________

و مما ذكرنا ظهر: انه لا وجه لإرادة الجواز بالمعنى الاخص لأن الجواز الموجود في ضمن الوجوب حصة غير الحصة الموجودة في الجواز بالمعنى الاخص.

و أما الدليل المنسوخ فغاية ما يمكن ان يقال في توجيه دلالته على ثبوت الجواز ان اللفظ الدال على معنى مركب له دلالتان: مطابقية و تضمنيّة، فهو يدل على الجواز و المنع من الترك بالدلالة المطابقية، و يدل على الجواز بالدلالة التضمنية، و الناسخ انما دل على رفع دلالته المطابقية فتبقى دلالته التضمنية على الجواز.

و فيه أولا: ان الدلالة التضمنية انما هي من توابع المطابقية، و بعد ارتفاع الدلالة المطابقية بالنسخ لا تبقى الدلالة التضمنية لانها تبع لها، و بعد ارتفاع المتبوع لا معنى لبقاء التابع.

و ثانيا: ان الدلالة التضمنية التي كانت في ضمن الدلالة المطابقية هي الدلالة على حصة من الجواز و لم يكن هناك دلالة تضمنية على الجواز بمعناه الكلي، اذ ليس الكلي بما هو كلي جزءا من المركب و انما جزء المركب حصة منه. و من الواضح- أيضا- انه لا دلالة تضمنية على حصة اخرى من الجواز حتى يثبت الجواز بالمعنى الأخص، و الحصة التي كانت في ضمن المركب الوجوبي لا بد من ارتفاعها، اذ لا إشكال في ان هذه الحصة من الجواز غير الحصة الاخرى الموجودة في ضمن غيره من الاباحة و الاستحباب.

فاتضح: انه لا دلالة لكل من الدليل الناسخ و المنسوخ على بقاء الجواز بمعناه الأعم و لا بمعناه الاخص. و اتضح- أيضا- مما ذكرنا انه لا دلالة لهما على ثبوت غير الجواز من الاحكام: من الاستحباب و الكراهة و الحرمة.

اما الاستحباب فلأن فصل الجواز فيه امر وجودي و هو رجحان الفعل على الترك، و لا ينبغي ان يتوهم دلالة دليل الناسخ الرافع للوجوب على بقاء الجواز متفصّلا بفصل وجودي. و كذلك الكراهة فإن فصلها أيضا الرجحان، غايته انه للترك على الفعل، و لا دلالة لدليل الناسخ على بقاء الجواز متفصّلا بفصل رجحان

ص: 352

.....

______________________________

الترك. و اما الحرمة فمن اوضح الاشياء عدم دلالة الدليل الرافع للوجوب على عدم جواز الفعل و المنع من فعله.

و اما الدليل المنسوخ فلم يكن فيه دلالة تضمنية على أحد هذه الأحكام حتى يتوهم بقاؤها بعد ارتفاع الدلالة المطابقية. هذا كله في دلالة دليل الناسخ و المنسوخ و انه لا دلالة لاحدهما على شي ء اصلا، و قد أشار اليه بقوله: «فلا دلالة لدليل الناسخ و لا المنسوخ» إلى آخر عبارته.

و اما الاستصحاب فقد أشار اليه بقوله: «لا مجال لاستصحاب الجواز الّا بناء الخ» ربما يقال بدلالة الاستصحاب على بقاء الجواز بعد رفع الوجوب بالتقريب الذي ذكرناه- في الحاشية السابقة- بان الوجوب انما هو الجواز مع المنع من الترك، و رفعه اما برفع جزئه و هو المنع من الترك، أو برفع كلا جزئيه، و حيث كان رفعه برفع أحد جزئيه محتملا فيكون مجرى للاستصحاب، بان نقول: كان الجواز قبل الناسخ متيقنا و بعد الناسخ مشكوك ارتفاعه لاحتمال ان الناسخ رفع المنع من الترك وحده فنستصحب الجواز الذي كان متيقنا.

و توضيح الجواب عنه: انه أما على البساطة فلا مجال للاستصحاب، اذ ليس الحكم الوجوبي مركبا من جنس و فصل بل هو إما الارادة أو البعث اعتبارا بداعي التحريك، و الارادة من اقسام العرض و العرض لا تركب فيه من جنس و فصل، و اعتبار البعث من الامور الاعتبارية و هي ابسط من العرض.

و أما بناء على التركيب فقد عرفت ان الموجود في ضمن النوع أو الفرد هو حصص الكلي، فالجواز الموجود في ضمن الوجوب غير الجواز في ضمن الاباحة أو الاستحباب، فالاستصحاب الشخصي للجواز الذي كان في ضمن الوجوب غير جار لانه متيقن الارتفاع.

و اما استصحاب الجواز الكلي فتوضيحه: ان الاستصحاب الجاري في الكلي ثلاثة اقسام:

ص: 353

.....

______________________________

القسم الاول: هو استصحاب حصة الكلي الموجودة في ضمن الفرد، كما لو شككنا في وجود زيد بعد اليقين بوجوده، فانه في حال وجود زيد كما كنا متيقنين بوجوده كذلك كنا متيقنين بوجود الانسان الذي في ضمنه و هو مجرى الاستصحاب كما ان زيدا مجرى له، و لا يجري هذا الاستصحاب في مقامنا للقطع بارتفاع تلك الحصة من الكلي بارتفاع الوجوب.

الثاني: من اقسام استصحاب الكلي هو ان يكون مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع و ما هو مقطوع البقاء، كما لو علمنا بوجود حيوان في الدار بين كونه إنسانا أو بقّا، فإن كان بقّا فقد ارتفع جنس الحيوان بارتفاعه، و ان كان انسانا فهو باق قطعا، و لا مجرى لاستصحاب الفردين بخصوصهما لأن احدهما متيقن الارتفاع و الآخر مشكوك الحدوث من الأول لا يقين به. و أما الكلي و هو الحيوان بما هو حيوان فقد كان متيقنا و الآن مشكوك.

و قد وقع الكلام في جريان هذا الاستصحاب في نفس الكلي، و لكنه سواء قلنا بجريانه أو عدم جريانه ليس المقام منه، فإن الحكم لم يكن مرددا بين الوجوب و غيره قبل ورود الناسخ للوجوب.

الثالث: من اقسام الكلي ما إذا احتملنا حدوث فرد من الكلي مقارنا لارتفاع فرد منه- كما في المقام- فانه بعد ارتفاع الوجوب تحتمل وجود حصة من الجواز الكلي في ضمن الإباحة أو الاستحباب، فيمكن ان يقال بجريان الاستصحاب في كلي الجواز لتيقن الكلي بوجود الجواز الذي كان في ضمن الوجوب و الشك في ارتفاعه- فعلا- لاحتمال بقائه بوجوده في ضمن الإباحة أو الاستحباب اللذين حدوثهما كان مقارنا لارتفاع الوجوب، فيكون كلي الجواز بما هو متيقن سابقا مشكوكا لا حقا، و قد أشار إلى عدم جريان الاستصحاب الشخصي و الكلي بقسميه بقوله: «لا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناء على جريانه في القسم الثالث» إلى آخر كلامه.

ص: 354

يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع، بحيث عد عرفا انه باق، لا أنه أمر حادث غيره.

و من المعلوم أن كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا و عرفا، من المباينات و المتضادات، غير الوجوب و الاستحباب، فإنه و إن كان بينهما التفاوت بالمرتبة و الشدة و الضعف عقلا إلا أنهما متباينان عرفا، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر، فإن حكم العرف و نظره يكون متبعا في هذا الباب (1).

______________________________

ثم أشار إلى عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث كما ياتي تحقيق عدم جريانه في باب الاستصحاب.

و ملخصه: إن الكلي بما هو كلي لا يقين سابق فيه بل اليقين انما هو بالحصة منه الموجودة في ضمن الفرد الوجوبي المرتفع، و الحصة الأخرى التي يحتمل وجودها في ضمن الفرد الذي يحتمل حدوثه مقارنا لارتفاع الفرد المرتفع مشكوكة الحدوث، و أما الكلي بما هو كلي لم يكن متيقن الحدوث و مشكوك الارتفاع ليتم اركان الاستصحاب فيه، بخلاف القسم الثاني فانه حيث لم يكن في الفرد بخصوصه يقين سابق بل كان اليقين السابق متمحضا في نفس الكلي كان مجال للقول بجريان الاستصحاب فيه، و لذا قال (قدس سره): «و قد حققنا في محله انه لا يجري الاستصحاب فيه»: أي في هذا القسم الثالث.

(1) لقد استثني من القسم الثالث بعض مصاديقه فقالوا بجريان الاستصحاب فيه، و هو ما إذا كان المستصحب المتيقن وجوده سابقا ذا مراتب تختلف شدة و ضعفا كالبياض و كان المتيقن السابق الفرد القوى منه، فاذا دل دليل الناسخ على ارتفاع البياض الشديد و يشك في ارتفاعه بجميع مراتبه أو المرتفع خصوص شدته كان الاستصحاب في بقاء البياض بما هو جار، لأن المرتبة الضعيفة و ان كانت عقلا حصة من البياض غير الحصة التي مع المرتبة الشديدة إلّا انه حيث بقاء الموضوع و ارتفاعه

ص: 355

.....

______________________________

انما هو بنظر العرف و العرف يرى ان المرتبة الضعيفة الباقية بعد ارتفاع المرتبة الشديدة ليس فردا آخر مباينا للفرد الاول بل في نظره ان الباقي هو الفرد الاول فأركان الاستصحاب فيه بنظر العرف تامة فيجري فيه الاستصحاب، بل قد يقال بتحقق أركان الاستصحاب عقلا، لأن البياض بمرتبته الضعيفة ليس حصة من الكلي توجد بعد ارتفاع المرتبة القوية، بل البياض بمرتبته الضعيفة كان موجودا في ضمن المرتبة الشديدة، غايته انها لا بحدها الضعفي، و هو كوجود الاربعة في ضمن الخمسة، فالمرتبة الضعيفة بنفسها كانت متيقنة و الآن مشكوكة فيجري الاستصحاب فيها و الاستصحاب شخصي لا كلي، بل لو قلنا بعدم تمامية هذا- عقلا- فجريانه بنظر العرف حيث ان موضوع الاستصحاب عرفي- أيضا- هو استصحاب شخصي لا كلي لما عرفت: من ان الباقي بنظر العرف هو الفرد الأول و لا يرى انه فرد آخر غير الفرد المرتفع، فالاستصحاب شخصي على كل حال فهو خارج- موضوعا- عن استصحاب الكلي.

إلّا ان هذا غير منطبق على مقامنا لأن الأحكام متضادة بنظر العرف و العقل، و ليس لها ماهية واحدة متفاوتة أو وجود واحد ذو مراتب و هو واضح بناء على ان الاحكام من الاعتبارات، و أما بناء على انها هي الارادة فمن الواضح- أيضا- ان ارادة إرخاء العنان في الاباحة غير ارادة الوجوب أو ارادة الاستحباب و غير ارادة العدم لزوما أو ترجيحا.

نعم يمكن ان يقال ذلك في خصوص الوجوب و الاستحباب و الحرمة و الكراهة، فانه لو دليل الدليل على ارتفاع الوجوب و احتملنا الاستحباب و قلنا بان الحكم هو الارادة لكان مجال لاستصحاب الارادة التي كانت في ضمن الوجوب لا بحدها الضعفي، و كذلك الحال في الحرمة و الكراهة فإن ارادة العدم لا بحدها الضعفي تكون موجودة في ضمن ارادة العدم بحدها اللزومي الذي هو الحرمة، إلّا ان الاستصحاب بقاء موضوعه و اتحاد المتيقن و المشكوك فيه انما هو بنظر العرف دون العقل، فالعقل

ص: 356

.....

______________________________

و ان رأى اتحاد الموضوع إلّا ان العرف يرى ان الاستحباب غير الوجوب و الكراهة غير الحرمة فهما عنده من المتضادات، و العرف هو المحكم في بقاء موضوع الاستصحاب فلا يجري الاستصحاب. و تحقيقه مفصلا موكول إلى باب الاستصحاب فراجع. و قد أشار المصنف إلى ما ذكرناه أولا من جريان الاستصحاب في ذي المراتب المتفاوتة بالشدة و الضعف فيما اذا كان المرتفع و المشكوك متصلين كما اذا كان المرتفع هو البياض الشديد و المشكوك هو مرتبة ضعيفة من ذلك البياض الذي كان موجودا بمرتبته الشديدة لا بياضا ضعيفا آخر بقوله: «ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية او الضعيفة المتصلة بالمرتفع» كما عرفت من لزوم كون المشكوك هو المرتبة الضعيفة من ذلك البياض الموجود بمرتبته الشديدة لا بياضا آخر «بحيث يعد عرفا انه باق لا انه امر حادث غيره»: أي عند العرف ان المشكوك ليس امرا حادثا غير الذي كان سابقا بل ما كان سابقا هو المشكوك فعلا عنده، و اذا كان كذلك فيجري الاستصحاب لتمامية أركانه، بل قد عرفت انه كذلك بنظر العقل- أيضا- و ان الاستصحاب شخصي لا كلي، و قد أشار الى ان العرف و العقل لا يريان ذلك في الاحكام، بل الاحكام عندهما من المتضادات عدا الاستحباب و الوجوب و الحرمة و الكراهة بقوله: «و من المعلوم ان كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا و عرفا من المباينات و المتضادات غير الوجوب و الاستحباب» و انما اقتصر على الوجوب و الاستحباب و لم يذكر الحرمة و الكراهة لان الكلام في نسخ الوجوب لا في نسخ الحرمة، و إمكان استصحاب المرتبة الضعيفة من الارادة التي كانت في ضمن ارادة الوجوب.

و لا يخفى انه يمكن ان يكون هذا الملاك للقول بانه اذا نسخ الوجوب فالباقي بعد ذلك هو الاستحباب.

و على كل «فانه و إن كان بينهما»: أي بين الوجوب و الاستحباب «التفاوت بالمرتبة و الشدة و الضعف عقلا» فان الاستحباب هو المرتبة الضعيفة من الارادة

ص: 357

فصل في الواجب التخييري

فصل اذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الاشياء، ففي وجوب كل واحد على التخيير، بمعنى عدم جواز تركه إلا إلى بدل، أو وجوب الواحد لا بعينه، أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما، أو وجوب المعين عند اللّه، أقوال (1).

______________________________

و الوجوب هو المرتبة الاكيدة الشديدة منها إلّا ان بقاء الموضوع و اتحاده مع المشكوك ليس بنظر العقل حتى يمكن جريان الاستصحاب، بل هو موكول الى نظر العرف و العرف يرى انهما من المتباينين و الموضوع فيهما ليس متحدا، و لذا قال (قدس سره):

«إلّا انهما متباينان عرفا» إلى آخر كلامه و قد عرفت- أيضا- ان هذا الكلام انما يتأتى بناء على ان الحكم هو الارادة، و أما بناء على انه من الاعتبارات فلا مجال لهذا الكلام اصلا.

(1) اذا ورد الأمر باحد الشيئين كالحمد و التسبيحات في الأخيرتين من الرباعية، أو احد اشياء كالعتق و الصوم و الإطعام في خصال الكفارة، و لا اشكال في ان فعل احد افراد التخيير يحصل به الامتثال، و لا إشكال- أيضا- ان ترك الجميع يوجب العقاب.

إلّا ان الإشكال في ان الواجب حقيقة أي شي ء هو في الوجوب التخييري، و قد أشار المصنف الى ان فيه اقوالا اربعة:

الأول: ان الواجب التخييري هو الذي يجوز تركه الى بدل، فالواجب كل واحد من الاشياء التي وقع بينها التخيير، بخلاف الواجب التعييني المتعلق بطبيعة واحدة ذات افراد، فان الواجب فيه واحد و هو الطبيعة و كل واحد من افرادها به يحصل مصداق الواجب لا ان كل واحد منها واجب، فالتخيير بين الافراد في الواجب التعييني عقلي لا شرعي، بخلاف الواجب التخييري فان كل واحد من الافراد واجب شرعا اذ ليس المتعلق للوجوب طبيعة واحدة فان افراد الواجب

ص: 358

.....

______________________________

التخييري طبائع متعددة لا افراد طبيعة واحدة كما في الواجب التعييني. هذا هو الفرق الاول بين الواجب التخييري و الواجب التعييني.

الفرق الثاني: ان الواجب التعييني متعلق الوجوب فيه لا يجوز تركه الى بدل لأن متعلق الوجوب فيه هي الطبيعة و لا بدل لها، و أما افراد الطبيعة الواحدة فليس كل واحد منها واجبا يجوز تركه الى بدل، بل كل واحد منها مصداق الواجب الواحد، بخلاف الواجب التخييري فان كل واحد منها واجب يجوز تركه الى بدل.

القول الثاني: ان الواجب التخييري هو الواحد من هذه الافراد لا بعينه، و يحتمل ان يكون المراد هو الواحد لا بعينه مفهوما او الواحد لا بعينه مصداقا و سيشير الى ذلك.

القول الثالث: ان الواجب كل واحد منها و لكنه يسقط بفعل الواجب الآخر، و الفرق بينه و بين القول الاول انه لم يؤخذ في وجوب كل واحد منها انه يجوز تركه الى بدله و لكنه بفعل الآخر لا يبقى مجال لاستيفائه، فالقول الأول ان كل واحد منها له البدلية في مقام الغرض، و هذا الاخير لا بدلية فيه في مقام الغرض و لكن الغرض بنحو لو أتى لا بالآخر لا يبقى مجال لاستيفائه، ففي كل منها على هذا الاخير غرض غير الغرض في الآخر، بخلاف الاول فان الظاهر منه ان المترتب على كل واحد منها غرض واحد و لذا يجوز ترك كل واحد منها الى بدله.

القول الرابع: ان الواجب من هذه الافراد واحد و هو معين عند اللّه و هذا ظاهر السخافة فانه اذا كان الواجب واحدا و معينا فلا معنى لجعل العدل، لأن هذا العدل اذا لم يكن فيه غرض فيكون مباحا بذاته، فان كان سقوط الواجب المعين عند اللّه به لكونه بوجوده يكون مانعا عن حصول الغرض في الواجب المعين فلا بد من المنع عنه لا الأمر به و جعله عدلا و ان كان فيه الغرض الذي يحصل من الواجب المعين، فلا معنى لكون الواجب المعين عند اللّه بعد ان كان هذا العدل مثله في حصول الغرض به، إلّا ان يأول هذا القول بان القائل به لم يصح عنده القول الاول، لعدم الفرق فيه

ص: 359

و التحقيق أن يقال: إنه إن كان الامر بأحد الشيئين، بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض، و لذا يسقط به الامر، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، و كان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا، و ذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من اثنين بما هما اثنان، ما لم يكن بينهما جامع في البين، لاعتبار نحو من السنخية بين العلة و المعلول.

______________________________

بين الوجوب التخييري و التعييني كما سيتضح وجهه في شرح قوله و التحقيق، و لا يرى معقولية الواحد لا بعينه كما سيأتي أيضا، و لم يصح عنده أيضا وجوب كل واحد و سقوطه بفعل الآخر لعدم خلوه عن المحذور ايضا لذلك قال ان الواجب في الخطاب التخييري هو المعين عند اللّه، فان الواجب التخييري الموجه الخطاب به لكل واحد تمّ له موضوع الخطاب عنده الّا ان اللّه يعلم بما ياتي به هذا المكلف، فالمكلف و ان توجه اليه الخطاب بالتخيير لجهله بما سيفعله لكن اللّه يعلم بالذي يفعله هذا المكلف، فهو في الحقيقة مخاطب بما سيفعله من هذه الافراد و ان كان ظاهر الخطاب التخيير.

و بعبارة اخرى: ان صاحب هذا القول لا يرى معقولية الخطاب بنحو التخيير بين الطبائع المتعددة و الموضوع للوجوب غير تام الّا في هذه الطبائع فلذا قال بان الواجب التخييري هو المعين عند اللّه.

و لا يخفى: ان هذا يرجع إلى كون الواجب كل واحد و لا بد من التزامه بسقوط كل منهما بفعل الآخر، لانه اذا كان فيه غرض الزامي فان لم يسقط بفعل الآخر كان لازم الاتيان لفرض كونه غرضا الزاميا، و لا فرق بينه و بين هذا القول الّا في كون الواجب تخييريا واقعا و لكنه في مقام الخطاب يكون المراد به هو احدهما معينا، فكأنه يتحاشى عن صرف الامر بنحو التخيير.

ص: 360

و عليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي، لبيان أن الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين (1). و إن كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما

______________________________

(1) و حاصل هذا التحقيق ان الغرض المترتب على افراد هذا الواجب التخييري اما ان يكون واحدا او متعددا، فان كان واحدا فلا بد و ان يكون المؤثر في هذا الغرض الواحد هو الجامع بين هذه الطبائع المتعددة و يكون هو الواجب واقعا، اذ لا يعقل ان تكون هذه الطبائع المتعددة بما هي متعددة و غير مندرجة تحت جامع واحد مؤثرة في غرض واحد لما برهن عليه في محله: من ان الواحد بما هو واحد لا يعقل صدوره عن الكثير بما هو كثير، و لا بد ان لا يصدر الواحد الّا عن الواحد، كما انه قد برهن في محله- أيضا- على القضية الأخرى و هي عدم إمكان صدور الكثير عن الواحد، لان البرهان الذي أشار اليه المصنف في عدم إمكان صدور الواحد عن الكثير هو البرهان على القضية الثانية و هي عدم امكان صدور الكثير من الواحد(1).

ص: 361


1- و ينبغي ان لا يخفى انه قد ذكروا لكل واحد من هاتين القضيتين برهانا يخصه غير برهان المسانخة. أما عدم إمكان صدور الكثير عن الواحد فبرهانه: ان كل معلول له تعيّن في مرتبة علته بالذات، إذ لو لم يكن له تعين بالذات في مرتبة ذات علته للزم التخصيص بلا مخصص و هو محال، فصدور الكثير عن الواحد لا بد فيه من ان يكون في ذات العلة خصوصيتان ذاتيتان كل واحدة تقتضي معلولا، و هذا خلف بالنسبة إلى الواحد بالذات من جميع الجهات. و لا يخفى ان هذا البرهان يختص بالواحد الشخصي الذي هو واحد من جميع الجهات، لأن لزوم وجود خصوصيتين في الواحد من جميع الجهات خلف. و أما برهان عدم إمكان صدور الواحد عن الكثير فهو انه اذا كان لكل من العلتين خصوصية تقتضي صدور المعلول عنها فكل واحد منهما علة مستقلة، فصدور الواحد عنهما ينافي كون كل واحد منهما علة مستقلة، و صدور الواحد عن الجامع بينهما لازمه عدم كون كل واحد منهما علة بذاته مستقلة، بل العلة هو الجامع لا هما، و هذا البرهان ايضا مورده عدم امكان صدور الواحد الشخصي عن المتعدد الشخصي فلا تغفل.« منه قدس سره».

غرض، لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر مع إتيانه، كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب، يستكشف عنه تبعاته، من عدم جواز

______________________________

و حاصل البرهان: انه لا بد من المسانخة الذاتية بين المعلول و العلة و إلّا لجاز ان يصدر كل شي ء من كل شي ء، و من الواضح انه لا يعقل ان تصدر البرودة من النار و لا الحرارة من الثلج. و من جملة انواع المسانخة الوحدة و الكثرة، فالعلة الواحدة لا بد و ان يكون معلولها واحدا، لأن فرض كون العلة واحدة ان فيها جهة واحدة للعلية، فمن اين يصدر المعلول الآخر الذي لا بد له من جهة اخرى غير تلك الجهة التي اقتضت صدور ذلك المعلول؟ و كذلك المعاليل الكثيرة لا بد لها من جهات متعددة فلا يعقل صدور الكثير عن الواحد، فالغرض الواحد المترتب على هذه الطبائع المتعددة لا بد و ان يترتب عليها لجامع واحد، و ذلك الواحد هو المؤثر في الغرض، ففي الحقيقة يكون الواجب هو ذلك الجامع الواحد المترتب عليه ذلك الغرض الواحد، و حينئذ يرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي و تكون هذه الطبائع المتعددة كافراد طبيعة واحدة. و الفرق بينهما هو ان انطباق المأمور به في الطبيعة الواحدة المأمور بها لا يحتاج الى تنبيه من الشارع لمعرفة افرادها المحصلة لها، بخلاف الواجب التخييري فان المحصل للمؤثر في الغرض لا بد من التنبيه عليه من الشارع اذ لا سبيل للعقل للاهتداء اليه، فلا يوكل اليه التطبيق فيها الى العقل كما يوكل اليه التطبيق في الطبيعة الواحدة ذات الافراد، و قد أشار الى ان الغرض اذا كان واحدا لا بد و ان يكون المؤثر فيه واحدا بقوله: «لوضوح ان الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان» و قد أشار الى برهانه بقوله: «لاعتبار نحو من السنخية ... الى آخره».

ص: 362

تركه إلا إلى الآخر، و ترتب الثواب على فعل الواحد منهما، و العقاب على تركهما (1)، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما

______________________________

(1) لا يخفى انه اذا كان الغرض واحدا فربما يكون ملاكا للقول الاول، بأن الواجب واحد و هو الجامع بين هذه الطبائع و هي محققات له و افراد له، و اذا تعددت افراد الواجب فيجوز ترك كل واحد منها الى الفرد الآخر و هو البدل، إلّا ان هذا خلاف ظاهر قولهم ان الواجب التخييري ما يجوز تركه إلى بدل، فان ظاهره كون كل طبيعة من هذه الطبائع هي بدل عن الواجب، و الواجب هو كل طبيعة منها إلّا انها يجوز تركها إلى البدل، فكل طبيعة منها هي الواجب و لكنها لها بدل يجوز تركها الى بدلها، لا أن الواجب واحد و هو الجامع و هذه الطبائع افراده و مصاديقه.

و بعبارة اخرى: ان الفرق بين الواجب التخييري أو التعييني: هو ان الواجب التخييري له بدل و الواجب التعييني لا بدل له لا ان الواجب التخييري هو الواجب التعييني و ان الفرق بينهما ان الواجب التعييني له افراد من طبيعة واحدة و الواجب التخييري افراده طبائع متعددة.

و الحاصل: ان ظاهرهم ان التخيير في الواجب التخييري شرعي و التخيير بين افراد الواجب التعييني عقلي.

مضافا الى انه كما لا يمكن للطبائع المتعددة ان تؤثر في غرض واحد لبرهان المسانخة، كذلك لا يمكن ان يترتب عليها جامع واحد هو المؤثر، لان ترتب هذا الجامع الواحد عليها إما لاقتضائها بذاتها له فيعود المحذور من لزوم المسانخة و ان المتعدد بما هو متعدد كيف يقتضي شيئا واحدا و ان كان غيرها فينقل الكلام اليه و هلم جرا.

و ان كان اقتضاؤها له لا بذاتها بل بالعرض فحيث ان ما بالعرض لا بد و ان ينتهي إلى ما بالذات فيعود المحذور- أيضا- و الالتزام: بان الجامع واحد نوعي و برهان المسانخة انما هو في الواحد الشخصي لا داعي له لامكان الالتزام بان الغرض المترتب

ص: 363

.....

______________________________

على هذه الطبائع نوعي أيضا فلا يتأتى فيه برهان المسانخة و لا يكون مخالفا لبرهان الواحد لا يصدر عن الاثنين، فان الحلاوة- مثلا- واحدة نوعا و هي تصدر و تتحقق في الطبائع المتعددة فليكن الغرض المترتب على هذه الطبائع كالحلاوة واحد نوعا: أي ان الغرض المترتب عليها هو نوع واحد لا واحد شخصي.

و على كل فظاهر المصنف و صريحه ان الغرض اذا كان واحدا يرجع الوجوب التخييري الى الوجوب التعييني و ان التخيير فيه عقلي و ان الشارع حيث لا سبيل للعقل الى معرفة افراد هذا النحو من الواجب التعييني نبه عليه.

هذا كله اذا كان الغرض المترتب على هذه الطبائع واحدا.

و اما اذا كان الغرض المترتب عليها متعددا فلا بد و ان يكون الغرض المترتب على كل منها مزاحما للغرض المترتب على غيرها من الطبائع التي كانت عدلا لها في هذا الخطاب، اذ لو لم يكن اغراضها متزاحمة لكانت وجوبات تعيينية لا تخييرية و حيث كانت تخييرية بمعنى انها لو أتى بواحد منها سقط التكليف من الاتيان بالآخر فاللازم ان يكون الغرض في كل منها و ان كان غير الغرض الآخر الذي يحصل من الواجب الآخر، إلّا انه سنخ غرض بحيث لو حصل الغرض الآخر من احد الواجبات: أي الطبائع الواقعة عدلا للطبيعة المحصلة له لا يمكن استيفاؤه، فاذا اتى باحد هذه الواجبات التخييرية سقطت الاوامر المتعلقة بها، لأن اوامرها انما هي لتحصيل الاغراض المترتبة عليها، و اذا كانت مع تحقق احدها لا يمكن استيفاؤها لا يعقل بقاء اوامرها فانه من بقاء المعلول بلا علة، و لازم هذا ان تتعدد الوجوبات لتعدد الاغراض و ان يكون كل واحد منها وجوبا يجوز تركه إلى الاتيان بالواجب الآخر، فيكون الوجوب فيها مرتبطا بهذا النحو من الارتباط و يكون هو معنى قولهم ان الواجب التخييري هو الذي يجوز تركه إلى بدل و يثاب على فعل أحدها و لا يعاقب إلّا على تركها جميعا و الى هذا أشار بقوله: «و ان كان بملاك انه يكون في كل واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر مع اتيانه» أي بإتيان

ص: 364

.....

______________________________

الآخر: أي انه مع الاتيان بأحد هذه الواجبات لا يبقى مجال لاستيفاء الغرض من بقيتها. و هذا هو الفرق بين هذا الوجوب التخييري و الوجوب التعييني فانه لا يجوز تركه لأن غرضه لازم الاستيفاء و ليس مزاحما بغيره بحيث لو أتى بغيره لا يمكن استيفاؤه و يكون هذا هو الملاك للقول الثالث: و هو ان الواجب التخييري هو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل احدهما فيما اذا كان التخيير بين شيئين، و وجوب كل منها مع السقوط بفعل احدها اذا كان التخيير بين اشياء، و لا يكتفى بهذا المقدار في إتمام الواجب التخييري، فانه بهذا البيان و ان خرج التخيير العقلي في وجوب الطبيعة الواحدة ذات الافراد لفرض تعدد الاغراض فيتعدد الواجب، إلّا ان الغرض في احدها اذا كان يسقط بفعل الآخر كان الغرض في كل منها لزوميا لفرض كونه غرضا يدعو إلى الوجوب، فاللازم الامر باتيانهما دفعة واحدة لأن الغرض في كل منهما لازم و باتيان احدهما منفردا لا يبقى مجال لاستيفاء الغرض من الآخر الذي هو لازم أيضا، فحفظا لتحصيل الغرضين اللازمين ينبغي الامر باتيانهما معا دفعة واحدة، و لا يقول بهذا احد في الواجبات التخييرية التي يمكن الاتيان بها دفعة واحدة، فينبغي تتميمه بان يقال: ان الغرض في كل واحد منهما غير الغرض من الآخر، و لا يكون بحصول احدهما يمتنع حصول الغرض من الآخر و لكن هناك مصلحة دعت إلى الاكتفاء بأحدهما، فلا مانع من الاتيان بهما واحدا بعد واحد و لا يجب الامر بهما دفعة واحدة و يجوز الاكتفاء باحدهما، و يكون مراده من قوله: «يكون في كل واحد منهما لا يكاد يحصل ...» الى آخر كلامه انه لا يكاد يحصل الغرض مع التحفظ على المصلحة الداعية الى الترخيص في ترك الآخر(1).

ص: 365


1- ثم انه اذا كان لكل واحد من الواجبين غرض غير الغرض من الآخر فلا يخلو الحال عن احتمالات كلها غير خالية عن الاشكال:-- الاول: ان يكون الغرضان بحيث لا يمكن استيفاء احدهما مع استيفاء الآخر بمعنى انه بعد حصول الغرض من احدهما لا يمكن استيفاء الغرض من الآخر، فلازم ذلك الامر بهما بايجادهما دفعة واحدة لفرض كون كل واحد من الغرضين لازما، و بعد وجود احدهما لا يمكن وجود الآخر فلا مناص عن لزوم الامر بايجادهما دفعة واحدة. الثاني: ان يكون الغرضان متزاحمين و مع ذلك لا يمكن اجتماعهما في زمان واحد بحيث يكون حصول الغرض من احدهما مقيدا بعدم وجود، و لازم ذلك النهي عن الاتيان بهما دفعة واحدة مضافا إلى انهما يكون التخيير بينهما عقليا، لأن المتزاحمين تارة يتزاحمان لعدم القدرة على الجمع بينهما كانقاذ غريقين لا يقدر على انقاذهما معا، و اخرى يكون التزاحم بينهما في الملاك و كما ان التخيير بينهما في الصورة الاولى عقلي كذلك التخيير بينهما في الصورة الثانية عقلي ايضا. الثالث: ان لا يكون الغرضان متزاحمين ملاكا و لا يكونا بحيث اذا حصل احدهما يمنع عن استيفاء، بل يكونان بحيث اذا حصلا معا لا يترتب عليهما الا غرض واحد كما اذا انفرد كل منهما، و على هذا فالتخيير بينهما و ان كان شرعيا إلّا ان لازم ذلك التخيير بين ايجاد كل منهما منفردا و بين ايجادهما معا. و هناك احتمال رابع و هو ان يكون الغرضان لازمين في حد ذاتهما و ليس بينهما تزاحم و لا ان استيفاء احدهما يمنع عن استيفاء الآخر و لا انهما اذا اجتمعا لا يترتب عليهما الا غرض واحد بل كان هناك مصلحة دعت إلى الترخيص في ترك احدهما كمصلحة التسهيل أو غيرها، و هذا ينطبق على الواجبات التخييرية فان التخيير شرعي لا عقلي. و لا يرد عليه انه خلاف ظاهر الواجب التخييري فان ظهوره ليس هو الا كون كل واحد منهما واجبا يجوز تركه إلى بدل. و لا يرد عليه ان لازم ذلك ترتب عقابين على تركهما معا لوضوح ان لازم الترخيص في ترك كل منهما إلى بدل هو العقاب الواحد على تركهما.( منه قدس سره)

لا بعينه مصداقا و لا مفهوما، كما هو واضح (1)، إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الامر بأحدهما بالملاك الاول، من أن الواجب هو

______________________________

(1) حاصله انه بعد ما عرفت ان الامر دائر بين غرض واحد أو اغراض متعددة و على الاول يكون الواجب واحدا و هو الجامع، و على الثاني كل واحد من افراد

ص: 366

.....

______________________________

التخيير، و على كل منهما فالواجب معلوم في الواجب المخير و لا يكون الواجب امرا مرددا لا مفهوما و لا مصداقا، و لذا قال: «فلا وجه في مثله»: أي الواجب التخييري «للقول بكون الواجب هو احدهما لا بعينه مصداقا و لا مفهوما» مضافا الى ان الترديد في المفهوم غير معقول تصورا لوضوح ان كل مفهوم في مقام مفهوميته معين لا مردد، حتى مفهوم المردد فانه في مقام مفهوميته غير مردد نظير مفهوم المجهول فانه في مقام مفهوميته هو معلوم غير مجهول، اذ لا يعقل ان يتعلق التصور بمجهول حتى في مقام مفهوميته، فان لكل شي ء نحوين من الوجود: ذهني و خارجي، فاذا فرض انه في مقام خارجيته مجهول و في مقام تحققه الذهني أيضا مجهول فيكون من المجهول المطلق، و المجهول المطلق لا يعقل ان يكون متعلقا للتصور، فلا بد و أن يكون المراد من لا بعينه مفهوما هو تعلق الأمر بمفهوم احدهما.

و اما المردد في مقام مصداقيته و هو المراد من لا بعينه مصداقا و هو الفرد المنتشر في كلامهم فهو ايضا غير معقول تصورا، لأن الفرد الخارجي بخارجيته لا يعقل تعلق التصور به فلا بد و ان يتعلق التصور بمفهوم الفرد المنتشر و هو كلي كعنوان احدهما، و قد عرفت ان تعلق التصور بالمردد بما هو مردد محال، و لكن يظهر من المصنف امكان تعلق التصور بالمردد.

فقد ذكر المصنف في حاشيته على المتن 30] بما حاصله مع زيادة توضيح منا: انه فرق بين مقام العلم و مقام الامر، فانه في مقام العلم يمكن ان يتعلق العلم بمفهوم احدهما و يكون خارجا مرددا بين مصداقين او اكثر كما في مقام العلم الاجمالي فانه يتعلق بكون احد الإناءين نجس و مصداقه خارجا مردد بين الإناءين، إلّا انه في مقام الامر لا يعقل ذلك سواء كان الامر هو الارادة و الشوق او البعث و التحريك اعتبارا.

ص: 367

الواحد الجامع بينهما، و لا أحدهما معينا، مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض فتدبر (1).

______________________________

اما اذا كان هو الشوق و الارادة فلوضوح ان الشوق لا يعقل ان يحصل من غير سبب يدعو اليه و إلّا لجاز ان يكون كل شي ء متعلقا للشوق و هو باطل، فالسبب الداعي لتعلق الشوق بالمشتاق اليه اما ان ينحصر بالموجود الخارجي او يكون بما هو الجامع بينه و بين موجود آخر أو موجودات، و على الاول فيكون متعلق الامر هو الوجود الخاص الخارجي، و على الثاني يكون هو الجامع بين الموجودين او الموجودات، و على كل يكون متعلق الامر معينا خارجا لا مرددا. و اما اذا كان هو البعث و التحريك اعتبارا فلوضوح ان الداعي للبعث و التحريك هو الارادة و الشوق و ان يكون المعلول على طبق علته.

مضافا الى ان الامر بداعي جعل الداعي و الداعي انما يدعو الى ايجاد ماهية يمكن ان يكون لها وجود خارجي و المردد بما هو مردد لا ماهية له، اذ كل ماهية في مقام ما هويتها معينة لا مرددة و ما لا ماهية له لا وجود له خارجا، فلا يعقل ان يجعل الداعي إلى ايجاد ما لا يكون له وجود.

و اما العلم فحيث انه يمكن ان يحصل من جهة معلومة و ان كان من جهة اخرى مجهولا امكن ان يتعلق بمفهوم احدهما فانه يمكن ان يحصل العلم بأن نجسا تحقق في الخارج و لكن يجهل انه أيهما، و لذا يمكن ان يكون مفهوم احدهما معلوما للعلم بأن نجسا قد تحقق، و حيث لا يعلم بتفصيله فيكون مجهولا من ناحية ان ذلك النجس هل هو هذا أو هذا؟ فلذا يكون مفهوم احدهما متعلقا للعلم و تفصيله في الخارج مجهولا.

فاتضح الفرق بين مقام العلم و مقام الامر، و لعل قوله (قدس سره): فتدبر اشارة الى ذلك.

(1) لا يخفى ان احدهما لا بعينه لا يمكن ان يرجع الى ما ذكره ثانيا بقوله: «و ان كان بملاك انه يكون في كل واحد منهما غرض» الى آخره لوضوح انه على هذا يكون

ص: 368

بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الاقل و الاكثر، أو لا (1)؟

______________________________

الواجب معينا و ليس لا بعينه، لوضوح انه مع تعدد الغرض يكون كل واحد منها معينا هو الواجب، إلّا انه حيث كان الاتيان بالآخر يسقطه كان كل واحد منها واجبا معينا و لكن يجوز تركه الى بدل، فلا يعقل ان يرجع قول القائل بأن الواجب احدهما لا بعينه الى هذا، فلا بد في مقام التأويل لكون الواجب احدهما لا بعينه ان نقول انه يمكن ان يرجع الى الاحتمال الاول و هو انه حيث كان الغرض بناء عليه واحدا و مستندا الى جامع واحد المؤثر فيه، و حيث كان الجامع مجهولا الا من حيث انه يوجد بين هذه الطبائع التي وقع التخيير فيها و كل واحد منها انما امر به تخييرا لكونه به يحصل ذلك الجامع المجهول لا انه بذاته هو الواجب فليس كل واحد منها هو الواجب معينا، و حيث كان الجامع يوجد في احدها فيكون كل واحد منها مثل الآخر في كونه وافيا بالغرض لحصول الجامع المؤثر في الغرض فيه، فيصح ان يقال: ان الواجب ليس احدها معينا و كل واحد منها ليس بذاته و لا بعينه واجبا و لكنه يحصل باتيان احدها، فلذا كان أحدها لا بعينه هو الواجب.

و لا يخفى: انه لم يتعرض لرد القول بكون الواجب هو المعين عند اللّه لما تقدم من سخافته على ظاهره، و ارجاعه الى القول الثالث- أيضا- لا يخلو عن سخافة كما مر.

(1) لا يخفى ان المدعى محاليته هو التخيير بين الاقل و الاكثر مع مساواة الاقل للاكثر في كل جهة عدا كون احدهما اقل و الآخر اكثر. و اما لو اختلف الاقل و الاكثر بشي ء ما و لو بالعنوان الذي يجب قصده في مقام الاتيان كعنوان الظهر و الجمعة فانهما يكونان من المتباينين لا الاقل و الاكثر، لأن الركعتين اللتين يجب قصد عنوان الجمعة فيهما غير الركعتين في ضمن الاكثر الذي كان عنوانهما هو الظهرية، و كذا فيما اذا لم يختلفا بالعنوان و لكن اختلفا بكيفية ما كما اذا كان السلام في الركعتين بعد الثانية في القصر و على الرابعة في التمام، فان الركعتين اللتين يكون السلام فيهما على

ص: 369

ربما يقال، بأنه محال، فإن الاقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة، و لو كان في ضمن الاكثر، لحصول الغرض به، و كان الزائد عليه من أجزاء الاكثر زائدا على الواجب (1)، لكنه ليس كذلك، فإنه إذا فرض

______________________________

الاثنين كما في القصر غير الركعتين اللتين يكون سلامهما على الرابعة فهما من المتباينين، فالظهر و الجمعة متباينان من جهتين من جهة العنوان و من جهة الكيفية، و في القصر و التمام التباين من جهة واحدة و هي الكيفية مضافا الى تباين الجمعة و الظهر من ناحية المستحبات- أيضا- كالقنوت- مثلا- فان في الجمعة قنوتين و في الظهر قنوتا واحدا.

و على كل فالكلام في امكان التخيير بين الاقل و الاكثر مع تساويهما في كل جهة عدا الاقلية و الاكثرية كالخط القصير و الخط الطويل و كالتسبيحة الواحدة و الثلاث.

(1) و حاصله ان التخيير بين الاقل و الاكثر مع تساويهما فيما عدا الاقلية و الاكثرية محال، لان طلب الاكثر بعد حصول الاقل في ضمنه إما ان يكون لأجل الغرض الذي حصل بمجرد وجود الاقل فيلزم تحصيل الحاصل لأن المفروض ان الغرض قد حصل بالاقل، فطلب الاكثر لأجل تحصيل ذلك الغرض الحاصل من تحصيل الحاصل.

و اما ان يكون لغرض آخر غير الغرض الذي حصل من الاقل فهو محال ايضا لأن المفروض انه واجب تخييري و مع فرض حصول غرض الواجب التخييري في الاقل لا يبقى مجال لغرض آخر في الاكثر، لأن الغرض الآخر في الاكثر ان كان واجبا آخر لزم الخلف و ان كان هو احد فردي الواجب التخييري فلا يبقى مجال لطلبه لحصوله بالاقل.

و أما ان يكون بلا غرض و هو محال ايضا، لان الطلب للاكثر فعل اختياري للمولى و لا يعقل ان يكون الفعل الاختياري بلا غرض.

ص: 370

أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الاكثر، هو الاكثر لا الاقل الذي في ضمنه، بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله، و إن كان الاقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا، فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الاقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص، فإن الاكثر بحده يكون مثله على الفرض، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بما له من الحد، لا على القصير في ضمنه، و معه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه و من الواضح كون هذا الفرض بمكان من الامكان (1).

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الزائد على الاقل حيث انه بلا غرض فيجوز تركه لا إلى البدل و لا شي ء من الواجب ما يجوز تركه لا إلى بدل فلا يعقل التخيير بين الاقل و الاكثر. و قد أشار الى لزوم تحصيل الحاصل بقوله: «لحصول الغرض به» و الى المحذور الثاني بقوله: «و كان الزائد عليه من أجزاء الاكثر زائدا على الواجب».

(1) و توضيح الجواب ان الاشكال:

تارة: من ناحية ان الاقل و الاكثر لا يعقل ان يكونا فردين لطبيعة واحدة حيث ان الطبيعة بمجرد وجود الاقل تتحقق فيتحقق فرد الماهية و يكون الزائد فردا آخر لها.

و اخرى: لا من هذه الناحية و انه بعد ان يكون الاقل و الاكثر فردين و لكن الغرض حيث انه يمكن ان يكون واحدا و يرجع التخيير فيه إلى التخيير العقلي و يمكن ان يكون متعددا فلا يرجع التخيير فيه إلى التخيير العقلي بل يكون التخيير شرعيا، فهل يعقل التخيير العقلي بين فردين من طبيعة واحدة كان احدهما الاقل و الآخر الاكثر ام لا؟ فالكلام في مقامين:

اما المقام الأول: فالكلام فيه أيضا في مقامين:

الأول: في وجود الاقل في ضمن الاكثر من دون تخلل عدم في البين كوجود الخط القصير في ضمن الخط الطويل من دون تخلل عدم بينهما، و ان هذا الاقل ما لم

ص: 371

.....

______________________________

يتخلل عدم بينه و بين الاكثر لا يكون فردا للطبيعة و انما يكون فردا لها حيث يكون له طرفان منتهيان.

فبيانه انه بعد قيام البرهان و الوجدان على التشكيك اما في الماهية او في وجودها، و ان البياض الشديد بالوجدان فرد لطبيعة ماهية البياض كما ان البياض الضعيف فرد لها و ليس البياض الشديد مركبا من بياضين بل فرد واحد و بياض واحد، و التشكيك كما يكون في الشدة و الضعف كذلك يكون في القلة و الكثرة.

و اما برهانا فلأن فردية الفرد للطبيعة انما هو بتشخص الطبيعة و كونها وجودا واحدا خارجا لا يقبل الصدق على غير شخصه، و الطبيعة الموجودة بمجرد وجود الاقل لا يكون ذلك الوجود فردا واحدا لها إلّا إذا تمت له وحدة، و وحدته لا تتم إلّا بان يكون له طرفان، فمن رسم خطا بمجرد وجود الخط قبل انتهائه توجد طبيعة الخط، و لكن الخط ما دام كونه بين المبدأ و المنتهى لم يحصل شخص واحد من الخط و انما يكون شخصا واحدا عند انتهاء الرسم للخط و حصول طرفيه، و ليس هذا الوجود المتصل ما لم ينته وجودات متعددة بل هو وجود متصل تتم وحدته بانتهائه، فان اتصاله اما ان يكون بالوجود أو بغيره و غير الوجود هو العدم و العدم غير قابل للاتصال المتحقق في الخارج اذ لا خارجية للعدم، و اذا كان الاتصال في الوجود فلا بد ان لا يتخلل العدم و إلّا لزم الانفصال و اذا لم يتخلل عدم لذلك المتصل فهو واحد و الوجودات آحاد من الوجود، و الواحد بما هو واحد لا يعقل ان يكون آحادا و لذا يقولون: ان الاتصال مساوق للوحدة.

فاذا عرفت ما ذكرنا- تعرف ان الاقل الموجود في ضمن الاكثر ليس فردا للطبيعة و انما يكون فردا لها حيث لا يكون موجودا في ضمن الاكثر و يكون موجودا محدودا بحديه، فالخط القصير المحدود بطرفيه هو الفرد للطبيعة دون الخط القصير الموجود في ضمن الاكثر، فاذا امر المولى بايجاد الخط كان العبد مخيرا بين الخط الطويل و الخط

ص: 372

إن قلت: هبه في مثل ما إذا كان للاكثر وجود واحد، لم يكن للاقل في ضمنه وجود على حدة، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين، لكنه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود، كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث، أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه، فإن الاقل قد وجد بحده، و به يحصل الغرض على الفرض، و معه

______________________________

القصير و لا يكون الخط الزائد على الخط القصير الموجود في ضمن الطويل زائدا على ما هو الواجب.

و لا يخفى انه لا بد و ان يكون الغرض ليس مترتبا على محض وجود الطبيعة، فانه لو كان كذلك لا يكون مربوطا بالفردية للطبيعة و يحصل بمجرد تحقق وجود الطبيعة للخط و ان لم يكن ذلك الخط فردا للطبيعة، بل لا بد و ان يكون الغرض مترتبا على فرد الطبيعة بما هو فرد لها، فالخط ما لم يكتسب الفردية لا يكون الغرض حاصلا و انما يحصل بالفرد من الخط بما هو فرد لطبيعة الخط، و اذا كان الغرض كذلك فلا بد و ان يكون التكليف بنحو التخيير بين الخط القصير غير الموجود في ضمن الطويل و بين الخط الطويل، فإن كلا منهما فرد للطبيعة، و لا وجه لأن يكون مختصا بالخط القصير بعد ان كان الخط الطويل أيضا فردا يحصل به الغرض، و الى هذا أشار بقوله:

«و ان كان الاقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به»: أي ان الاقل انما يكون وافيا بالغرض اذا لم يكن في ضمن الاكثر، و معنى هذا كون الغرض مرهونا ترتبه بفردية الفرد من الطبيعة لا بمحض وجود الطبيعة و ان لم يكن ذلك الموجود فردا، و قد أشار إلى ان الغرض اذا لم يكن مختصا بالاقل لا يجوز تخصيص الامر به بقوله:

«و معه»: أي و مع كون الغرض غير مختص بالاقل «كيف يجوز تخصيصه»: أي تخصيص الامر «بما لا يعمه»: أي بما لا يعم الاقل.

ص: 373

لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل له في حصوله، فيكون زائدا على الواجب، لا من أجزائه (1).

______________________________

(1) حاصل هذا الاشكال ان ما ذكرتموه من إمكان التشكيك بين الفرد القصير و الفرد الطويل، و ان القصير ما لم يتخلل العدم بينه و بين الطويل لا يكون فردا للطبيعة و ان تحقق وجود الطبيعة بمجرد وجود القصير و لو في ضمن الطويل، و امكان ان يكون الغرض مترتبا على فردية الفرد للطبيعة لا على مجرد وجود الطبيعة فهذا إنما يتم في التخيير بين الفرد القصير و الطويل حيث لا يكون للقصير وجود على حدة و طرفان من المبدأ و المنتهى، و لكنه لا يتم التخيير بين الفرد القصير و افراد قصار يكون لكل واحد منها فردية للطبيعة و وجود على حدة محدود بمبدئه و منتهاه مثل التخيير بين التسبيحة الواحدة و التسبيحات الثلاث، فان لكل واحدة من التسبيحات وجودا منحازا بمبدئه و منتهاه، و مثل التخيير بين خط قصير و خطوط متعددة قصار يكون لكل واحد منها مبدأ و منتهى على حدة، فان الغرض اذا كان مترتبا على فرد من الطبيعة تكون الافراد مما تزيد على الواجب و كل ما يزيد على الواجب يجوز تركه لا الى بدل، و لا يعقل ان يكون الواجب مما يجوز تركه لا الى بدل، و الى هذا أشار بقوله: «هبه»: أي هب ان ما ذكرتموه من كون الغرض منوطا بالفردية فانه انما يتم «في مثل ما اذا كان للاكثر وجود واحد لم يكن للاقل في ضمنه وجود على حدة كالخط الطويل الذي رسم دفعة»: أي «بلا تخلل سكون في البين» فان الاقل و ان وجد في ضمنه إلّا انه حيث لم يتخلل سكون في الحركة الراسمة للخط فلا يكون للاقل وجود على حدة.

«لكنه ممنوع»: أي ما ذكر من الجواب بالفردية لا يتم «فيما كان له»: أي للاقل «في ضمنه»: أي في ضمن الاكثر «وجود» على حدة «كتسبيحة في ضمن تسبيحات» الى آخر كلامه.

ص: 374

قلت: لا يكاد يختلف الحال بذلك، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الاقل في ضمن الاكثر، و إنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام، و معه كان مترتبا على الاكثر بالتمام (1).

______________________________

لا ينبغي ان يخفى انه لا فرق في هذا الاشكال بين ان توجد الافراد من الطبيعة التي لكل منها وجود على حدة دفعة واحدة بان يرسم المكلف خطوطا ثلاثة دفعة واحدة و بين ان توجد الافراد من الخطوط واحدا بعد واحد بان يرسم خطا ثم يرسم آخر ثم يرسم الثالث، فان الغرض اذا كان يحصل بخط واحد يكون الخطان الآخران مما يزيد على الواجب و ان وجدا دفعة واحدة مع الخط الواحد.

(1) و حاصل الجواب ان الغرض كما كان- فيما ذكرناه أولا- منوطا بالفردية يمكن ان يكون منوطا بشرط عدم انضمام الاكثر إلى الاقل في الوجودات المنفصلة، فيكون ترتب الغرض على الاقل مراعى بعدم انضمام الاكثر اليه، فالاقل و ان كان فردا من الطبيعة إلّا ان الغرض لا يكون منوطا بالفردية فقط، بل منوطا بالفرد مع عدم انضمام الاكثر اليه، فالتسبيحة الواحدة التي يتعقبها الركوع هي الوافية بالغرض و لا تكون بمجرد وجودها و كونها فردا من التسبيح وافية بالغرض.

و بعبارة اخرى: ان الغرض يمكن ان يكون منوطا بمجرد وجود الطبيعة و لو لم تكن فردا فلا يعقل التخيير بين الاقل و الاكثر، و يمكن ان يكون منوطا بالفردية فيعقل التخيير بين الاقل و الاكثر بشرط ان لا يكون للاقل وجود على حدة، و لا يعقل التخيير بين الاقل الذي له وجود على حدة و بين الاكثر و يمكن ان يكون منوطا بشرط زائد على كونه وجودا على حدة، و هو عدم انضمام الاكثر اليه فيعقل التخيير- حينئذ- بين الاقل غير المنضم اليه و بين الاكثر، فالتسبيحة الواحدة التي يتعقبها الركوع تكون مما يترتب عليها الغرض، و التسبيحة التي ينضم اليها تسبيحتان قبل الركوع تكون مصداقا آخر للغرض، و اذا كان الغرض بهذا النحو صح التخيير بين الاقل و الاكثر و ان كان للاقل وجود على حدة، و له ان لا يقتصر على الاقل مع كون

ص: 375

و بالجملة إذا كان كل واحد من الاقل و الاكثر بحده مما يترتب عليه الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، و كان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد، و تخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان، على ما عرفت.

نعم لو كان الغرض مترتبا على الاقل، من دون دخل للزائد، لما كان الاكثر مثل الاقل و عدلا له، بل كان فيه اجتماع الواجب و غيره، مستحبا كان أو غيره، حسب اختلاف الموارد، فتدبر جيدا (1).

______________________________

الغرض مما يمكن ان يترتب على الاكثر المنضم اليه أيضا و لذا قال (قدس سره): «فانه مع الفرض»: أي مع فرض كون الاقل له وجود على حدة و مع ذلك وقع التخيير بينه و بين الاكثر فلا بد ان لا يكون الغرض منوطا بكون الاقل فردا من الطبيعة، بل له شرط آخر و هو عدم انضمام الاكثر اليه، و اذا كان لترتب الغرض شرط عدم الانضمام «لا يكاد يترتب الغرض على الاقل في ضمن الاكثر»: أي لا يكاد يترتب الغرض على الاقل المنضم اليه الاكثر و ان كان للاقل وجود على حدة و هو فرد للطبيعة إلّا انه حيث لم يحصل الشرط الآخر و هو عدم الانضمام فلا يترتب على الاقل المنضم اليه الاكثر الغرض بل يكون الغرض مترتبا على الاكثر حينئذ «و انما يترتب عليه»: أي انما يترتب على الاقل الغرض «بشرط عدم الانضمام» اليه «و معه»: أي و مع الانضمام «كان» الغرض «مترتبا على الاكثر بالتمام».

(1) لا يخفى ان ما تقدم من الكلام كله في المقام الاول و هو امكان التخيير بين الاقل و الاكثر و ان كانا فردين لطبيعة واحدة.

و بقي الكلام: في ان الغرض اذا كان واحدا فهل يعقل التخيير بين الاقل و الاكثر بعد ان كان المؤثر في الغرض الواحد هو الجامع الواحد- فهل يتصور الجامع الواحد بين الفردين من طبيعة واحدة بحيث يمتاز احد الفردين عن الآخر بالأقلية و الاكثرية فقط؟

ص: 376

فصل في الواجب الكفائي

فصل في الواجب الكفائي و التحقيق أنه سنخ من الوجوب، و له تعلق بكل واحد، بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا، و إن سقط عنهم لو أتى به بعضهم، و ذلك لانه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد، حصل بفعل واحد، صادر عن الكل أو البعض. كما أن الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، و استحقاقهم للمثوبة،

______________________________

ربما يقال بانه بناء على تعدد الغرض فلا مانع من ان يكون الواحد من طبيعة واحدة بشرط الوحدة، و عدم الانضمام مما يترتب عليه غرض و مع انضمامه إلى الاكثر يترتب عليه غرض آخر فيكون تخييره تخييرا شرعيا.

و اما بناء على وحدة الغرض و ان المؤثر في الغرض هو الجامع بين الاقل و الاكثر لا يتصور ذلك، لأن الجامع بين التسبيحة الواحدة و الثلاث اما ان يكون ذاتيا و ليس هناك جامع ذاتي الا طبيعي التسبيح لا بشرط الجامع بين التسبيحة بشرط لا و هي الواحدة و التسبيحة بشرط شي ء و هي المنضمة إلى التسبيحين، و الطبيعي لا بشرط الذي هو الجامع بين بشرط لا و بشرط شي ء يحصل بمجرد وجود التسبيحة الواحدة لأن البشرطلائية غير داخلة في الطبيعي الجامع و انما هي داخلة في الفرد و تمييزه عن البشرطشي ء فلا يكون الجامع هو الطبيعي لا بشرط، و غير الطبيعي لا بشرط يكون جامعا عنوانيا لا ذاتيا، و الجوامع العنوانية تشكيلها انما هو بالتشكيك في منشإ انتزاعها و منشأ انتزاعها ليس إلّا التسبيحة الواحدة و الثلاث و لا جامع تشكيكي لهما الا طبيعي التسبيح، و قد عرفت انه لا يمكن ان يكون هو الجامع، فينحصر الحال في التخيير الشرعي.

فما يظهر من المصنف من امكان وحدة الغرض و رجوع الامر الى التخيير العقلي كما يمكن تعدده فانه غير خال عن الاشكال.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 2 ؛ ص378

ص: 377


1- آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

و سقوط الغرض بفعل الكل، كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان الغرض اذا كان واحدا يحصل بفعل واحد لا وجه لأن يؤمر به كل واحد على سبيل التعيين اذ لا بد ان يكون للامر الموجه لكل واحد من اغراض متعددة كل واحد منها يدعو الى امره و المفروض ان الغرض واحد و يحصل بفعل واحد، فانه لو أمر به كل واحد على سبيل العينية و أتى به احد المخاطبين فالأوامر الموجهة إلى غيره اما ان تبقى أو تسقط فان بقيت فانها تكون اوامر من دون غرض يدعو اليها و هو يشبه المعلول بلا علة ان كانت على طبق الحكمة و الّا فتكون من الجزاف و السفه المحال صدوره من الحكيم، و ان سقطت خرجت عن كونها اوامر عينية.

و لا وجه لان يؤمر به واحد بخصوصه دون الآخرين، لان تخصيص الامر بذلك الواحد دون غيره ترجيح من غير مرجح، هذا اذا لم يكن فعل الآخرين مسقطا له، كما اذا كان الغرض قريبا و قلنا بانحصار قصد القربة في الامر، و اما اذا كان فعل الآخرين مسقطا للغرض فلا وجه أيضا لتخصيص واحد بالامر و كون الآخرين فعلهم مسقطا مع كونه مثل الآخرين فلم كان هذا الواحد مامورا به دون غيره؟ فالترجيح من غير مرجح لازم على كل من الوجهين.

و لا وجه- أيضا- لامر واحد لا بعينه: أي الفرد المنتشر فان الفرد المنتشر لا تحقق له في الخارج، فان كل شخص هو فرد غير منتشر و واحد بعينه لا انه واحد لا بعينه فيتعيّن ان يؤمر الكل به على نحو لو قام الكل به لأطاعوا أو اذا قام به واحد يسقط الامر عن الباقين لسقوط الامر بحصول الغرض الداعي اليه فلا يكون مثل هذا الوجوب عينيا بان يكون لكل واحد اطاعة و عصيان سواء فعل الآخر او لم يفعل، بل لا بد ان يكون وجوبا كفائيا يمكن ان يقوم به الكل و يمكن ان يقوم به احدهم فيكتفى به و يسقط الامر عن الباقين لحصول الغرض، و هذا معنى كون الوجوب

ص: 378

.....

______________________________

كفائيا في قبال الوجوب العيني الذي هو ان يكون لكل واحد خطاب غير مربوط بالخطاب الموجه الى الآخر، و لكل واحد اطاعة خاصة سواء اطاع الآخر ام لا، و لكل واحد عصيان خاص سواء عصى الآخر ام لا، فالوجوب الكفائي هو كون المأمور به فعلا واحدا قد توجه الخطاب به الى الكل، فإن صدر من الكل حصلت الاطاعة من الكل، و ان ترك الكل حصل العصيان من الكل، و ان فعله واحد منهم حصلت منه اطاعة و سقط الامر عن غيره من دون اطاعة و لا عصيان.

و يتضح مثال الواجب الكفائي في مثل الفعل الذي يمكن ان يقوم به واحد و يمكن ان يقوم به الكل كرفع حجر يستطيع ان يقوم برفعه واحد و يستطيع ان يقوم الكل بذلك الرفع الواحد، و مثاله في الشرعيات غسل الميت و تكفينه فانه يمكن ان يقوم به واحد و يمكن ان يقوم به جماعة، ففيما إذا قام به واحد فله علة واحدة و فيما قام به جماعة فهو كتوارد علل متعددة تشترك في ايجاد معلول واحد كذبح الشاة- مثلا- فانه يمكن ان يذبحها واحد و يمكن ان يشترك في ذبحها جماعة، و امثاله في الخارج كثير.

و ما يقال: من ان المعلول الواحد لا بد له من علة واحدة فكيف يصدر المعلول الواحد من علل متعددة.

مدفوع: بان هذه العلل المجتمعة في حال اجتماعها هي علة واحدة لا علل متعددة و ان كان لو انفرد كل واحد منها لكان علة واحدة بنفسه.

لا يقال ان هذا يتم في مثل غسل الميت و تكفينه فانه فعل واحد يمكن ان يقوم به واحد و يمكن ان يقوم به الكل، و لا يتم في مثل الصلاة على الميت فانه فيما اذا قام به جماعة فان ما يقع منهم صلوات متعددة لا صلاة واحدة فلا يكون من قبيل توارد علل متعددة على معلول واحد مع ان وجوبها أيضا كفائي.

فانه يقال: ان الصلوات المتعددة و ان لم تكن من قبيل توارد علل متعددة على معلول واحد إلّا انه حيث كان الغرض يحصل بصلاة واحدة لو قام بها واحد دون

ص: 379

فصل في الواجب الموسع و المضيق

فصل لا يخفى أنه و إن كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب، إلا أنه تارة مما له دخل فيه شرعا فيكون موقتا، و أخرى لا دخل له فيه أصلا

______________________________

الكل ففيما اذا قام الكل و جاءوا بصلوات يحصل الغرض و يسقط الامر لحصول غرضه، غايته انه لا يتعين احدها لأن يكون هو الواجب دون غيره، لانه من الترجيح من غير مرجح، فهي مثل الفعل الواحد الذي يقوم الكل به من ناحية حصول الغرض و سقوط الامر، و المناط في كفائية الوجوب هو كون الغرض واحدا يكتفى فيه بفعل واحد، فان الداعي إلى الامر حصول الغرض و ليس الداعي له هو لزوم ان يتعنون الفعل المأتي به بكونه واجبا. و مراد المصنف من قوله: «ان الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة» واحدة هو حصول الامتثال من ناحية حصول الغرض، فانه يصدق ان الكل امتثلوا امر المولى بتحصيل غرضه و ليس غرضه انه يتعنون فعل كل واحد منهم بانه هو الواجب في الافعال المتعددة فتأمل.

و اما استحقاق الجميع للمثوبة فحيث ان الثواب و العقاب ليس منوطا بوحدة الغرض و تعدده، بل مناط الثواب و العقاب هو اطاعة الامر و عصيانه و كون العبد ملتزما برسم العبودية و لوازم الرقية او خارجا عن ذلك بتمرده و طغيانه، فلكل واحد ثواب و ان كان الغرض واحدا و لكل واحد عقاب فيما اذا تركوا و ان كان الفائت غرضا واحدا.

نعم لو كان الثواب و العقاب منوطا بالغرض لكان للجميع اذا اطاعوا ثواب واحد و لهم اذا عصوا عقاب واحد ياخذ كل واحد منهم حصته من ذلك الواحد ثوابا او عقابا، الّا ان العقلاء في معاملة الموالي عبيدهم و قاعدة الحسن و القبح العقليين يقضيان بكون الثواب و العقاب منوطين باطاعة أمر المولى و عصيانه لا بوحدة الغرض و تعدده كما هو صريح المصنف في غير هذا المقام.

ص: 380

فهو غير موقت، و الموقت إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيق، و إما أن يكون أوسع منه فموسع (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان كل ما يقع في افق الزمان فهو زماني لا يعقل انفكاكه عن الزمان و هذا هو مراده بقوله: «و ان كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب» الّا ان الكلام في المصلحة و الغرض المترتب على هذا الواجب.

فتارة: يكون في مرحلة الثبوت و الواقع ليس للزمان دخل فيه و ليس له الّا صرف المصاحبة لعدم امكان انفكاك ما هو زماني عن الزمان، بحيث لو فرض امكان انفكاك الواجب عن الزمان لما كان مضرا بترتب الغرض عليه.

و اخرى: لا يكون الزمان في مرحلة الثبوت و الواقع كذلك بل كان للزمان دخل في ترتب المصلحة و ليس له صرف المصاحبة فقط، هذا في مرحلة الثبوت.

و اما في مرحلة الاثبات فحيث كان الزمان يمكن ان يكون دخيلا و يمكن ان لا يكون، فان كان دليل الواجب لم يدل الّا على الاتيان بنفس الواجب و لم يؤخذ فيه الزمان فيكشف ذلك عن عدم دخالة الزمان في الغرض المترتب على الواجب، و يسمى مثل هذا الواجب بالواجب غير الموقت كأدلة القضاء لما يفوت إتيانه في وقته فانها من الواجب غير الموقت، و ان اخذ الوقت في دليل الواجب كوجوب مناسك الحج- مثلا- في اوقات خاصة و وجوب الصلاة المقيدة باوقات خاصة كالفرائض اليومية فالواجب موقت. و هذا الموقت الذي كان للزمان دخل فيه:

تارة: يكون الزمان الماخوذ فيه بقدر لا يفضل عن اتيان ذلك الواجب فيه مرة واحدة فذلك الواجب هو الواجب المضيق مثل صوم رمضان و كبعض النوافل و الادعية مثل ركعتي الزوال و الادعية الواردة في أول الزوال فيما اذا تعلق بها نذر فانها تكون من الواجب المضيق.

ص: 381

و لا يذهب عليك أن الموسع كلي، كما كان له أفراد دفعية، كان له أفراد تدريجية، يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها الدفعية عقليا.

و لا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعيا، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها، كما لا يخفى (1)، و وقوع الموسع فضلا

______________________________

و اخرى: يكون الزمان الماخوذ مما يمكن تكرر الواجب فيه اكثر من مرة فذلك الواجب هو الواجب الموسع كالصلوات اليومية، فان اوقاتها مما يزيد على الاتيان بها مرة واحدة.

(1) توضيحه: انه قد عرفت- فيما مر- في الواجب التخييري ان الفرق بين التخيير العقلي و الشرعي: هو كون الواجب واحدا في التخيير العقلي بان يكون طبيعة ذات افراد، فحيث يكون الواجب واحدا و هو مما يمكن ايجاده في ضمن مصاديق متعددة فالعقل يخيّر بين افراده و مصاديقه.

و في التخيير الشرعي هو ان يكون الواجب متعددا و حيث انه يجوز ترك كل واحد الى بدل بنص الشارع على ذلك فالمخيّر هو الشارع بين هذه الواجبات و التخيير شرعي.

و الحاصل: ان الفرق بين التخيير الشرعي و العقلي هو كون التطبيق في التخيير العقلي بيد العقل و في التخيير الشرعي عدم كون التطبيق بيد العقل.

و مما ذكرنا: يظهر انه لا فرق في التخيير الشرعي بين الغرض الواحد المرتب على الجامع و بين الغرضين فانه في الغرض الواحد و ان رجع لبّا إلى التخيير العقلي الّا انه لما كان التطبيق بيد الشارع فهو بحسب الاصطلاح تخيير شرعي.

فاذا كان كلي و له افراد، فإن تعلق امر الشارع بنفس الكلي كان التخيير بين افراده عقليا، و ان تعلق بكل فرد من افراده امر بحيث يجوز ترك كل منها الى البدل فالتخيير بينها شرعي، و حيث كان متعلق الامر في الموسع هو الفعل بين حدين من الزمان فمتعلق الامر شي ء واحد و هو كلي له افراد و هو كونه في هذا الزمان و في

ص: 382

.....

______________________________

الزمان الآخر و هكذا، فالفعل بين الحدين كالحركة التوسطيّة و هي كون الشي ء بين المبدأ و المنتهى، و نسبة الحركة التوسطيّة الى قطعات الزمان المتدرجة نسبة الكلي الى جزئياته و افراده و الامر المتعلق بالكلي تخييره بين افراده عقلي و يكون التخيير بين هذه الافراد التدريجيّة كالتخيير بين افراده العرضية، و لا ريب ان التخيير بين افراده العرضية عقلي، فالطبيعة المتعلق بها الامر بين الحدين نسبتها إلى كونها في هذا الزمان و الى الزمان الذي بعده كنسبتها بالنسبة الى كونها في هذا المكان و في ذاك المكان.

و كما انه لا شك في كون التخيير بالنسبة إلى كونها في الامكنة عقلي كذلك التخيير فيها بين كونها في الازمنة عقلي لانه في كليهما النسبة على السواء و هي نسبة الكلي إلى افراده، بخلاف ما اذا تعلق الامر بالصلاة في هذه القطعة من الزمان و بالصلاة في القطعة الأخرى من الزمان الثاني، فيقسم الزمان بين الحدين إلى قطعات و يكون الفعل في كل قطعة واجبا و في القطعة الأخرى واجبا آخر يجوز ترك الاول إلى البدل و في الثاني الى البدل في الثالث و هلم جرا الى ان ينتهي الى الاخير، و يكون كل قطعة منها ملحوظا على حدة و لها وجوب، و مجموع هذه القطعات بالنسبة الى الحدّين تكون كالأجزاء لهذا الزمان بين الحدين و هي كالحركة القطعية التي تكون النسبة فيها نسبة الكل الى اجزائه لا نسبة الكلي الى افراده و جزئياته.

و قد أشار الى ان التخيير في الواجب الموسع عقلي و ان متعلق التكليف واحد و هو كلي نسبته الى افراده التدريجية كنسبته الى افراده الدفعيّة بقوله: «ان الموسع كلي» الى آخر كلامه و أشار الى ان التخيير الشرعي نسبة الافراد التي يقع التخيير بينها نسبة الواجب الى الواجب فلا بد فيه من تعدد الواجب، بخلاف التخيير العقلي فان الواجب فيه واحد و النسبة فيه نسبة كلي واحد الى افراده بقوله: «و لا وجه لتوهم ان يكون التخيير بينها شرعيا ضرورة ان نسبتها الى الواجب نسبة افراد الطبائع اليها»: أي الى الطبائع فاستدل على نفي التخيير الشرعي باثبات لازم التخيير

ص: 383

عن إمكانه، مما لا ريب فيه، و لا شبهة تعتريه، و لا اعتناء ببعض التسويلات كما يظهر من المطولات (1).

______________________________

العقلي، فلا بد ان لا يكون التخيير شرعيا و إلّا لثبت لازمه و هو كون النسبة فيها ليس نسبة الافراد الى الطبائع الواجبة بل تكون النسبة نسبة الواجب الى الواجب.

(1) لقد ذكر بعضهم اشكالا في الواجب الموسع و هو ان انه يستلزم ترك الواجب لوضوح انه يجوز الترك في اول الوقت.

و الجواب عنه، أولا: ان هذا الاشكال انما يتوهم بناء على كون التخيير في الواجب الموسع عقليا لا شرعيا، فانه لو كان شرعيا فلازم الوجوب التخييري انه يجوز ترك كل واحد من افراده الى بدل، و ترك الواجب في اول الوقت انما يجوز الى بدله لا مطلقا.

نعم بناء على ما هو التحقيق من كون التخيير في الواجب الموسع عقليا و الواجب واحد فيمكن ان يتوهم، بان يقال: ان الوجوب إما تعييني او تخييري، و الفارق بينهما ان التعييني ما لا يجوز تركه، بخلاف التخييري، فالوجوب في المقام حيث انه تعييني فلا معنى لجواز تركه.

و الجواب عنه: ان الواجب التعييني هو الفعل بين الحدين و هو مما لا يجوز تركه الى ما يخرج عن حديه، و اما الترك بين الحدين فليس تركا للواجب بل ترك احد مصاديقه، و كما يجوز ترك بعض مصاديقه العرضية يجوز ترك بعض مصاديقه التدريجية، و كما انه يجوز ترك مصداق الصلاة في المسجد و الاتيان بمصداقها في الدار كذلك يجوز ترك مصداقها في اول الوقت و الاتيان بمصداقها في الوقت الثاني.

و على كل فقد استدل المصنف على إمكانه بوقوعه خارجا و الوقوع ادل دليل على الامكان.

ص: 384

ثم إنه لا دلالة للامر بالموقت بوجه على الامر به في خارج الوقت، بعد فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الامر به (1). نعم لو كان

______________________________

(1) لا يخفى ان الوقت الماخوذ في الموقت في مرحلة الاثبات بنحو أن لا يكون إلّا امر واحد تعلق بالموقت، كقوله صل الغداة بين الفجر و طلوع الشمس، و المتحصل من هذا ان الامر المتعلق بهذه الصلاة قد تعلق بصلاة مقيدة بالوقت المحدود، فمتعلق الامر هو هذه الصلاة الخاصة الواقعة بين هذين الحدين.

و من الواضح ان الصلاة الواقعة في خارج هذين الحدين ليست هي الصلاة بين الحدين فلا تكون الصلاة في خارج الحدين مصداقا لهذا الواجب الخاص، فاذا فاتت الصلاة في هذا الوقت الخاص فلا دلالة للامر المتعلق بهذه الصلاة الخاصة على إتيانها في خارج الوقت، و هذا مراده من قوله (قدس سره): «انه لا دلالة للامر بالموقت بوجه على الامر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت» ثم أشار ثانيا الى امكان ان نقول بدلالة هذا الامر المتعلق بالموقت على عدم الامر به في خارج الوقت.

و برهانه: انه لا اشكال في ان الشي ء الخاص من مقوماته الخصوصية الماخوذة فيه و لا اشكال في انتفاء الشي ء بانتفاء ما له دخل في قوامه، فلا يعقل بقاء هذا الامر الذي كان متعلقه شيئا خاصا عند انتفاء متعلقه، و لا ريب انه بانتفاء الوقت ينتفي الموضوع الذي تعلق به و لا يعقل بقاء الامر بعد انتفاء موضوعه و متعلقه، فلو تعلق امر بالصلاة في خارج الوقت لا بد ان يكون امرا آخر غير هذا الامر المتعلق بالمقيد بالوقت.

و من الواضح- أيضا- ان هذا الامر المتعلق بالموقت متعلقه شي ء واحد، و لا يعقل ان يكون هذا الامر الخاص متعلقا بذات الصلاة و متعلقا بالصلاة المقيدة بالوقت، اذ لا يعقل ان يكون للامر الواحد الشخصي متعلقان كل واحد منهما تمام المتعلق له.

نعم يمكن ان يكون الامر المتعلق بمركب لكل جزء من اجزائه حصة من هذا الامر المتعلق بالكل، و لكن لا يعقل ان يكون كل جزء تمام المتعلق له، مضافا إلى أن المقيد

ص: 385

التوقيت بدليل منفصل، لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، و كان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، و كون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.

و بالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب، كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب، بحيث كان أصل الفعل، و لو في خارج الوقت مطلوبا في الجملة، و إن لم يكن بتمام المطلوب، إلا أنه لا بد في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة، و لا يكفي الدليل على الوقت إلا فيما عرفت (1)، و مع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج

______________________________

ليس مركبا من جزءين، بل هو شي ء واحد خاص و ليس هو مركبا من جزءين، بل هو ذات المقيد و تقيده، و التقيد امر انتزاعي ينتزع من اضافته الى القيد، و ليس التقيد جزءا خارجيا.

فاتضح مما بينا: ان الامر المتعلق بالموقت امر شخصي تعلق بالمقيد و لا تعلق له بذات المقيد من دون وصف التقيد، فالامر المتعلق بالصلاة المقيدة بالوقت لا تعلق له بذات الصلاة من دون قيديتها بالوقت، فاذا تعلق امر بالصلاة بعد فوات الوقت فهو امر آخر غير الامر المتعلق بالصلاة في الوقت لأن الامر المتعلق بالصلاة في الوقت متعلقه الصلاة في الوقت، و ليس له تعلق آخر بالصلاة من حيث هي من دون الوقت لما عرفت انه لا يعقل ان يكون للامر الواحد متعلقان، فالامر المتعلق بذات الصلاة من دون الوقت امر آخر، و الامر المتعلق بالصلاة في الوقت ينتفي بانتفاء خصوصية الوقت، فالامر المتعلق بالوقت يدل على عدم بقائه بعد فوات الوقت، و هذا مراده من قوله: «لو لم نقل بدلالته على عدم الامر به».

(1) و توضيحه انه في مرحلة الثبوت يمكن ان يكون الوقت دخيلا في اصل المصلحة اللزومية بحيث لا يكون للفعل من دون الوقت مصلحة لزومية.

ص: 386

.....

______________________________

و يمكن ان يكون لنفس الفعل بذاته مصلحة لزومية و للفعل المقيد بالوقت مصلحة لزومية اخرى.

و يمكن ان يكون للوقت دخل في مرتبة كمال المصلحة اللزومية المتعلقة بذات الفعل و لا مدخلية له في اصل المصلحة اللزومية. هذا في مرحلة الثبوت.

و اما في مرحلة الاثبات فاذا كان لنا دليلان: امر متعلق بذات الفعل و امر آخر متعلق بالفعل الموقت، فاذا لم يكن للامر المتعلق بذات الفعل اطلاق من ناحية الوقت و عدمه فلا يكون هذا الامر كاشفا عن مصلحة بذات الفعل من دون دخل للوقت فيها و لا يكون حجة في لزوم اتيان الصلاة بعد فوت الوقت، اذ ما لا اطلاق له يقتصر في حجيته على القدر المتيقن و هو الصلاة في الوقت.

و اذا كان للامر المتعلق بذات الفعل اطلاق، فان دل الدليل الثاني المتعلق بالموقت على تقييد اطلاق الدليل الاول المتعلق بذات الفعل فنتيجة التقييد هو سقوط اطلاق الدليل الاول عن الحجية في خارج الوقت، و يكون هذا التقييد في مرحلة الاثبات كاشفا عن دخل الوقت في اصل المصلحة اللزومية، و ان لم يدل الدليل الثاني المتعلق بالموقت على تقييد الدليل الاول و لا يكون ناظرا اليه يبقى اطلاق الدليل الاول على حاله و يستكشف من بقاء اطلاقه في مرحلة الاثبات ان لذات الفعل مصلحة لزومية، و اما الدليل الثاني فان كان له ظهور في دخول الوقت في مصلحة الامر الثاني اللزومية كان الناتج من مجموع الدليلين ان لذات الفعل مصلحة لزومية و للفعل المقيد بالوقت مصلحة لزومية اخرى، و ان لم يكن للدليل الثاني ظهور في دخول الوقت في المصلحة اللزومية كان المتحصل من الدليلين ان للوقت دخلا في مرتبة كمال المصلحة اللزومية لا في اصلها.

فتحصل مما ذكرنا: ان الدليل على اتيان الصلاة بعد الوقت يتوقف على ان يكون لنا دليلان: دليل متعلق بنفس الفعل و ان يكون له اطلاق من ناحية الوقت و عدمه، و ان لا يكون الدليل الثاني مقيدا له و ناظرا اليه و قد أشار الى هذا بقوله: «نعم لو

ص: 387

.....

______________________________

كان التوقيت بدليل منفصل» متصف ذلك الدليل المنفصل الدال على التوقيت بانه «لم يكن له اطلاق على التقييد بالوقت» و هذا وحده ليس بكاف، بل لا بد مع ذلك انه «كان لدليل الواجب» المتعلق بذات الفعل «اطلاق» فلو تم هذان الشرطان «لكان قضية اطلاقه»: أي اطلاق الدليل المتعلق بذات الفعل مع عدم دلالة الدليل الثاني على تقييده يقتضي «ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت و» يكون المتحصل في مرحلة الاثبات هو «كون التقييد به»: أي بالوقت «بحسب تمام المطلوب» و كماله «لا أصله»: أي لا بحسب دخالة الوقت في اصل المصلحة اللزومية و هذا مرادهم من قولهم ان التقييد بالوقت تارة يكون بنحو وحدة المطلوب، و اخرى يكون بنحو تعدد المطلوب. و كونه بنحو وحدة المطلوب اما بان يكون الذي ورد هو دليل واحد و هو متعلق بالفعل المقيد بالوقت، فان الظاهر منه كون متعلقه واحدا و هو الخاص المقيد بالوقت، أو يكون بدليلين و لكن يكون الدليل الثاني مقيدا لاطلاق الاول، أو يكون الدليل الاول لا اطلاق له.

و تعدد المطلوب هو ان يكون بدليلين و ان يكون للدليل الاول اطلاق و لا يكون الدليل الثاني مقيدا له، و على هذا و هو تعدد المطلوب يكون لنا دليل على وجوب اصل الفعل في الوقت و في خارجه، و هذا مراده من قوله: «كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب بحيث كان اصل الفعل و لو خارج الوقت مطلوبا» ثم قال: «إلّا انه لا بد من اثبات انه بهذا النحو من دلالة» و تلك الدلالة هو ان يكون لاصل الفعل طلب و اطلاق لدليله من ناحية الوقت و عدمه و لا يرد عليه تقييد.

قوله: «و لا يكفي الدليل على الوقت الا فيما عرفت»: أي ان دليل التوقيت لا يدل على تعدد المطلوب إلّا بالنحو الذي عرفته.

ص: 388

الوقت (1)، و لا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت، فتدبر جيدا (2).

______________________________

(1) عدم الدلالة اما بان لا يكون لنا الا دليل واحد، او كان لنا دليلان و لم يكن للدليل الاول اطلاق، او كان له اطلاق و لكن الدليل الثاني دل على تقييد اطلاقه، فانه في كل من هذه الامور لا يكون الدليل على الاتيان في خارج الوقت حاصلا، فاذا شك في طلب الفعل في خارج الوقت كان مجرى لاصالة البراءة.

و لا يخفى انه مع الدليل على الاتيان في خارج الوقت لا يكون هذا الاتيان قضاء بل اداء فان دليل القضاء منوط بان يكون واردا بنحو الفوت.

(2) قد عرفت- فيما مر- ان دليل الموقت هو شخص امر خاص متعلق بمطلوب مقيد، و قد عرفت انه مقطوع بانتفائه عند فوت الوقت و انتفائه، و مع القطع بانتفائه لا مجال لاستصحابه بذاته، لأن الاستصحاب موضوعه اليقين السابق و الشك اللاحق، و مع القطع بالانتفاء لا شك لاحق فينحصر الاستصحاب باستصحاب الكلي المردد بين ما هو مقطوع الارتفاع و مشكوك الحدوث، لأن الامر المتعلق بقضاء ما فات مشكوك حدوثه بعد ارتفاع الوقت، و مثل هذا الاستصحاب سيأتي في مبحث الاستصحاب عدم حجيته، بل حتى لو قلنا بحجيته في بابه فانما يقال به فيما اذا كان الموضوع واحدا، كما لو شك بعد نسخ الوجوب بثبوت حكم آخر للموضوع الذي كان محكوما بالوجوب فيكون الموضوع واحدا، و المشكوك هو الحكم الكلي المردد بين فردين احدهما مقطوع الارتفاع و الثاني مشكوك الحدوث.

و اما في المقام فالموضوع مختلف فان الموضوع في الاول هو الفعل المقيد بالوقت و الموضوع في الثاني هو الفعل غير المقيد، و هما موضوعان مختلفان و لا بد في الاستصحاب من اتحاد الموضوع، و لذا قال (قدس سره): «لا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت».

ص: 389

فصل الامر بالامر بشي ء امر به

فصل الامر بالامر بشي ء، أمر به لو كان الغرض حصوله، و لم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلا تبليغ أمره به، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالامر أو النهي. و أما لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشي ء، من دون تعلق غرضه به، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا، بل بعد تعلق أمره به، فلا يكون أمرا بذاك الشي ء، كما لا يخفى.

و قد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الامر بالامر، على كونه أمرا به، و لا بد في الدلالة عليه من قرينة عليه (1).

______________________________

(1) توضيحه انه اذا امر المولى بالامر بشي ء فيكون متعلق الامر الاول هو الامر الثاني، كان يقول المولى لعبده: أ أمر فلانا بكذا:

فتارة: تقوم القرينة على ان الداعي الى الامر بالامر الثاني هو صرف التبليغ الى المأمور و لا غرض فيه غير الطريقية الى ايجاد المأمور به، فلا شبهة في ان الامر بالامر بشي ء امر بذلك الشي ء الذي هو المأمور به في الامر الثاني.

و اخرى: تقوم القرينة على ان الغرض كله منحصر في نفس الامر الثاني و لا تعلق له بالمأمور به الذي هو المتعلق للامر الثاني، و الغالب في مثل هذا ان لا يذكر المأمور به في الامر الثاني و يكتفي فيه بنفس كون الامر الثاني متعلقا فيقول المولى لعبده أ أمر لبيان إعلاء شانه- مثلا- بانه ممن لهم الامر و النهي فيأمر الآمر الثاني بشي ء و في مثل هذا لا يكون الامر الاول امرا بالمأمور بالامر الثاني.

و ثالثة: تقوم القرينة على ان الغرض غير منحصر في نفس الامر الثاني بل يكون متعلقا بالمأمور به بالامر الثاني حيث يكون ذلك مامورا به، و حاصله انه يتعلق بالمأمور به بالامر الثاني بما هو مامور به و في مثل هذا لا يكون نفس الامر الاول امرا بالمأمور الا بعد أمر الأمر الثاني به.

ص: 390

فصل اذا ورد امر بشي ء بعد الامر به

فصل إذا ورد أمر بشي ء بعد الامر به قبل امتثاله، فهل يوجب تكرار ذاك الشي ء، أو تأكيد الامر الاول، و البعث الحاصل به؟ قضية إطلاق المادة

______________________________

و رابعة: ان لا تقوم قرينة على شي ء مما ذكرنا اصلا و لا يكون الّا الامر الاول بالامر بشي ء.

فهل يحمل على الطريقيّة الصّرفة و يكون امرا بالمأمور به بالامر الثاني؟

أو يحمل على الموضوعية الصّرفة و لا يكون امرا بالمأمور به بالامر الثاني؟

أو يحمل على كون الأمر الثاني جزء الموضوع؟ و هذا هو الذي ينبغي ان يكون محلا للكلام، و اما ما قامت القرينة عليه و علم كيفية الغرض فيه فينبغي خروجه عن محل الكلام، و قد أشار الى الطريقية المحضة بقوله: «الامر بالامر بشي ء امر به لو كان الغرض حصوله» كما يظهر من مثاله له بأمر الرسل بتبليغ الاحكام و أشار الى الموضوعية المحضة بقوله: «و اما لو كان الغرض من ذلك يحصل بامره بذاك الشي ء» و أشار الى الموضوع المركب من الامر الثاني و المأمور به بقوله: «او مع تعلق غرضه به لا مطلقا بل بعد تعلق».

و قد أشار الى ان الكلام فيما لم تقم القرينة عليه بقوله: «و قد انقدح».

و حاصله: انه قد اتضح ان هذه المذكورات انما تكون بعد قيام القرينة عليها فحيث لا قرينة فلا يكون لنا الّا امر بالامر.

و قد ظهر مما ذكرنا: انه يحتمل ان يكون امرا بالمأمور به و يحتمل ان لا يكون امرا به، فكونه امرا به بعد ان كان محتملا في عرض عدم كونه امرا به فلا ينبغي ان يصار الى احد المحتملات من دون قرينة عليه، و لم يصدر من الآمر الاول الّا امر بالامر و هيئته تدل على الطلب و مادته هو أمر الآمر الثاني بشي ء، و لا دلالة لمحض ذلك على نحو من الانحاء المحتملة في مرحلة الثبوت، فلا يجب على العبد بمجرد اطلاعه على أمر الآمر الاول الامتثال قبل بلوغ أمر الآمر الثاني اليه.

ص: 391

هو التأكيد، فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين، من دون أن يجئ تقييد لها في البين، و لو كان بمثل مرة اخرى كي يكون متعلق كل منهما غير متعلق الآخر، كما لا يخفى، و المنساق من إطلاق الهيئة، و إن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلا أن الظاهر هو انسباق التأكيد عنها، فيما كانت مسبوقة بمثلها، و لم يذكر هناك سبب، أو ذكر سبب واحد (1).

______________________________

(1) لا يخفى انه اذا تباين الامران اما بالموضوع او المتعلق كما لو قال هب زيدا و بع زيدا، او قال هب زيدا و هب عمرا فهما متباينان و كل واحد منهما امر تأسيسي، و اذا كان بينهما عموم من وجه او عموم مطلق فالمتكفل لذلك بحث التعارض و العموم و الخصوص و المطلق و المقيد، و اذا تساويا من ناحية الموضوع و المتعلق كاعط زيدا اعط زيدا فهذا هو محل الكلام، و هل انهما امران تأسيسيان او الاول تاسيسي و الثاني تاكيد له؟

و بعبارة اخرى: هل يجب اعطاء زيد مرتين بناء على التأسيس في كل منهما أو يكفي اعطاؤه مرة واحدة بناء على كون الثاني تاكيديا؟

و هنا ظهوران: ظهور للهيئة في كل منهما في الطلب و مقتضاه تعدد الطلب، و ظهور للمتعلق في ان المتعلق للطلب واحد و هو طبيعة الاعطاء و المتعلق الواحد سواء كان موضوعه واحدا بالشخص كزيد او واحدا نوعا كاعط رجلا اعط رجلا لا يمكن ان يكون متعلقا لطلبين شخصيين، فان الواحد بما له من الوحدة لا يعقل ان يتعلق به طلبان، و الظاهر من المتعلق انه واحد بما له من السعة هو متعلق للطلب و هو طبيعة الاعطاء، و مع كونه بما له من الوحدة متعلقا للطلب لا يعقل ان يكون متعلقا- أيضا- للطلب، فانه كما لا يعقل ان يتعلق بالاعطاء الواحد الشخصي طلبان كذلك لا يمكن ان يتعلق بطبيعة الاعطاء الواحدة طلبان، فيقع التعارض بين ظهور الهيئة في تعدد

ص: 392

.....

______________________________

الطلب و ظهور المتعلق في وحدة الطلب، فلا بد اما من رفع اليد عن ظهور الهيئة في التعدد او من رفع اليد عن ظهور المتعلق في الوحدة.

و لا يخفى انه اذا كان المتعلق شخصيا غير قابل للتعدد كمن قبيل عتق هذا العبد الخاص فانه لا بد من التاكيد، اذ لا يعقل ان يكون للعبد الواحد الشخصي عتقان، و اذا كان قابلا للتعدد و كمثل إعطاء زيد فانه قابل لان يتعدد اعطاؤه او مثل اعطاء الرجل فانه قابل للتعدد باعطاء مصداقين من مصاديقه، فاذا كان السبب لكل واحد من الامرين غير السبب الآخر فالظاهر انه لا بد من رفع اليد عن ظهور المتعلق في الوحدة، فلو قال- مثلا- ان أفطرت فاعط زيدا درهما و ان ظاهرت فأعط زيدا درهما فلا بد من اعطاء زيد مرتين، و ان اتحد السبب في كل من الامرين كما لو قال:

ان افطرت اعط زيدا درهما ان افطرت اعط زيدا درهما فالظاهر انه يرفع اليد عن تعدد الطلب و يكون اعطاء زيد درهما واحدا كافيا و ان لم يذكر السبب فهل الظاهر التعدد بتقديم اطلاق الهيئة و تقديم ظهورها في التأسيس او الظاهر التأكيد و تقديم ظهور وحدة المتعلق الذي لازمه كون الامر الثاني تاكيدا لا تاسيسا أو ان الظهورين متكافئان فيرجع الى الاصول في تعدد الاعطاء؟

و الذي يظهر من المصنف تقديم وحدة المتعلق و ان هنا ظهورا في التأكيدية بدعوى الانسباق في الاذهان- عرفا- الى تقديم وحدة المتعلق الذي لازمه التاكيد، و لذا قال:

«إلّا ان الظاهر هو انسباق التاكيد عنها فيما كانت مسبوقة بمثلها» بان قال اعط زيدا، بعد قوله اولا: اعط زيدا، و أشار الى ان هذا الانسباق انما هو فيما اذا لم يذكر السبب بقوله: «و لم يذكر هناك سبب» و قد أشار- أيضا- الى ان الامر كذلك و هو التاكيد للانسباق العرفي فيما اذا ذكر السبب و كان واحدا في كل منهما كما في قوله: ان افطرت فاعط زيدا درهما بقوله: «او ذكر سبب واحد».

ص: 393

.....

______________________________

و لم يتعرض لما اذا ذكر السبب و كان متعددا و الظاهر ان بناءهم في مثل ذلك على التعدد كمثل ما اذا قال ان افطرت فاعتق و ان ظاهرت فاعتق فان بناءهم على تعدد العتق، و سيأتي التعرض لبعض هذا في المفاهيم إن شاء اللّه.

ص: 394

الفهرس

ص: 395

ص: 396

الفهرس

مقدمة الواجب 1

اقسام المقدمة 5

المقدمة الداخلية و الخارجية 5

خروج الأجزاء عن محل النزاع 15

المقدمة الخارجية 22

المقدمة العقلية و الشرعية و العادية 22

رجوع المقدمة العادية إلى العقلية 24

مقدمة الوجود و الصحة و الوجوب و العلم 27

رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود 27

خروج مقدمة الوجوب و المقدمة العلمية عن محل النزاع 27

تقسيم المقدمة إلى المتقدم و المقارن و المتأخر 31

الاشكال في المقدمة المتأخرة 33

تقسيم الواجب إلى المطلق و المشروط 50

اشكال تفكيك الانشاء عن المنشأ و جوابه 68

دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع 78

تذنيب 85

تقسيم الواجب إلى المعلق و المنجز 89

اشكال المصنف (ره) على صاحب الفصول (ره) 102

تقسيم الواجب إلى النفسي و الغيري 133

الشك في كون الواجب نفسيا أو غيريا 140

تذنيبان 149

ص: 397

اشكال و دفع 153

تبعية المقدمة لذيها في الاطلاق و الاشتراط 172

عدم اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة 176

في الرد على القول بالمقدمة الموصلة 193

استدلال صاحب الفصول (قده) على وجوب المقدمة الموصلة 201

الجواب عن الوجوه 207

ثمرة القول بوجوب المقدمة الموصلة 221

الاشكال على الثمرة 224

تقسيم الواجب إلى الاصلي و التبعي 230

تذنيب في بيان الثمرة 237

تأسيس الاصل في المسألة 250

استدلال ابي الحسن البصري على وجوب المقدمة 260

مقدمة المستحب كمقدمة الواجب 269

فصل الأمر بالشي ء هل يقتضي النهي عن ضده 275

توهم كون ترك الضد مقدمة لضد آخر 279

ثمرة المسألة 308

في مبحث الترتب 311

اشكال المصنف (قده) على القائل بالترتب 325

فصل عدم جواز الامر مع العلم بانتفاء الشرط 335

فصل تعلق الاوامر و النواهي بالطبائع 340

فصل اذا نسخ الوجوب فلا دلالة على بقاء الجواز 350

ص: 398

فصل في الواجب التخييري 358

فصل في الواجب الكفائي 377

فصل في الواجب الموسع و المضيق 380

فصل الامر بالامر بشي ء امر به 390

فصل اذا ورد امر بشي ء بعد الامر به 391

الفهرس 395

ص: 399

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.